صاحب ثلاثية الدولارات الشهيرة سيرجيو ليوني درس القانون... وخالفه

90 سنة على ولادته و30 سنة على وفاته

إيستوود وإيلاي والاك في «الجيد والسيئ والبشع». - (في الإطار) سيرجيو ليوني
إيستوود وإيلاي والاك في «الجيد والسيئ والبشع». - (في الإطار) سيرجيو ليوني
TT

صاحب ثلاثية الدولارات الشهيرة سيرجيو ليوني درس القانون... وخالفه

إيستوود وإيلاي والاك في «الجيد والسيئ والبشع». - (في الإطار) سيرجيو ليوني
إيستوود وإيلاي والاك في «الجيد والسيئ والبشع». - (في الإطار) سيرجيو ليوني

بدخول فن السينما عقد الستينات في القرن الماضي، بدأت تعرف معالجات مختلفة عما كان سائداً من قبل، من بينها ولادة نوع جديد من أفلام الغرب الأميركي عرف بالاسم الساخر «سباغيتي وسترن» نسبة إلى أن أفلامها كانت تُصنع في مطابخ إيطالية.
أحد صانعيها كان سيرجيو ليوني الذي وُلد سنة 1929 ورحل في مثل هذا الشهر من عام 1989. بذلك يكون عاش ستين سنة من بينها 32 سنة في السينما. معظم هذه السنوات لم يقضها مخرجاً إذ تأخر التحاقه بدرب صانعي الأفلام إلى سنة 1961 عندما حقق «عملاق رودس». قبل ذلك، ومن سنة 1961. عمل مساعد مخرج لأفلام رهط كبير من المخرجين الإيطاليين والأجانب، مما مكنه من الاختلاط بالمهنة من الداخل واستيعابها بكامل تفرعاتها وخصائصها.
دخول إيطاليا، وبعدها ألمانيا وإسبانيا، في سينما الغرب الأميركي (الوسترن)، كان أحد المتغيرات التي طرأت على هذا النوع من الأفلام في الستينات. في الولايات المتحدة، العرين الأول لهذه السينما.
أفلام مثل «الغرب الأخير» (إخراج روبرت ألدريتش، 1961) و«100 بندقية» (توم غرايز، 1969) و«بوتش كاسيدي وصندانس كِد» (جورج روي هِل، 1969) و«ذا شوتينغ» (مونتي هلمان، 1966) و«مسدسات بعد الظهر» (سام بكنباه، 1962) «الزمرة المتوحشة» (بكنباه، 1968) قدّمت أبطالاً يقفون على الجانب الآخر من القانون من دون أن يكونوا أشراراً سفاحين بذلك دخل عنصر جديد على تأليف البطولات التقليدية لم يكن سائداً (وإن كان موجوداً على نحو محدود فيما سبق من عقود).
صانعو سينما الوسترن الإيطالية أحبوا، بلا ريب، أفلام الغرب الأميركي لكن معظمهم، مثل كارلو ليزاني، وسيرجيو كوربتشي (وشقيقه برونو كوربتشي)، وإنزو باربوني، وإنزو كاستيلاري، وميشيل لوبو، وداميانو دامياني وآخرين عديدين، عالجوها كمادة كاريكاتيرية. هذا لا يعني أنهم عالجوها كوميدياً، ولو أن بعض تلك الأفلام كانت كوميدية، بل المقصود هو أن الإيطاليين الذين انغمسوا في تحقيق أفلام الوسترن حسب رؤاهم رفعوا عيار الدراما والتشخيص وخلق المناسبات التي يواجه فيها البطل الأشرار فيقضي عليهم بمسدس لا يفرغ من الرصاص. قلبوا المعادلات التقليدية التي كانت تقتضي بإيجاد مبررات مدروسة (قدر الإمكان) في الأفلام الأميركية وجعلوا الأفعال هي التي تتكلم أولاً بعيداً عن المنطق إذا كان لا بد من ذلك.

- مع الأميركيين في إيطاليا
ولد سيرجيو ليوني في بيت فني. والدته كانت ممثلة لعبت في أفلام إيطالية صامتة. التقت، سنة 1916. بالممثل والمخرج فنزتو ليوني فتوقفت عن التمثيل بينما استمر هو في العمل أحياناً تحت اسم روبرتو روبرتيني في أفلام إيطالية صامتة. المراجع لا توضح السبب الذي من أجله قام الحزب الإيطالي الفاشي في الثلاثينات بمنعه من العمل لسنوات عدة، لكنه عاد فأكمل دربه من أواخر ذلك العقد وحتى منتصف الأربعينات أو بعدها بقليل.
كانت وصية الأب لابنه سيرجيو الابتعاد عن العمل السينمائي، ووجدنا سيرجيو الشاب يلتحق بدراسة القانون لعله يصبح محامياً، هذا من بعد أن أسند إليه والده دوراً صغيراً في فيلم عنوانه «الفم على الطريق» (La bocca sulla strada) سنة 1941. بعده انصرف سيرجيو لدراسته القانونية ثم توقف عنها وانخرط في عداد العاملين في السينما. كان، وحتى سنوات عدة قادمة، مجرد عامل وراء الكاميرا يساعد مساعدي المخرج في أعمالهم. من بين تلك الأفلام «لصوص الدراجة» لفيتوريو دي سيكا (1948) و«فاوست والشيطان» لكارمن غالوني (1950).
بعد عام تسلم مقاليد إدارة الوحدة الثانية للفيلم التاريخي الأميركي «كيو فاديس» الذي صوّره الهوليوودي مرفن ليروي في إيطاليا. بعد ذلك نجد أن اسمه كمساعد مخرج أو ككاتب ورد على عدد كبير من أفلام الفترة من بينها فيلم أميركي آخر قام بالإشراف على إخراج معاركه هو «هيلين طروادة» لروبرت وايز (1956). كذلك قام بالعمل ذاته بعد ثلاث سنوات عندما قام الأميركي ويليام وايلر بتحقيق «بن حور» سنة 1959
في العام ذاته، قام ليوني بإكمال إخراج فيلم كان بدأه ماريو بونارد ولم يستطع (لكبر سنه) استكماله. الفيلم كان «آخر أيام بومباي» الذي، حين تم توزيعه على صالات السينما حمل اسم بونارد كمخرج. ولم يحمل اسم ليوني مطلقاً.
لكن هذه المجموعة من الأفلام المميزة بمعارك تاريخية وحجم إنتاجي كبير تركت في ذات سيرجيو ليوني حب تقديمها إلى الجمهور مازجاً خبرته في العمل لأفلام أميركية تم تصويرها في إيطاليا بخبرته بالسينما الإيطالية ذاتها. وهذا ما قاده إلى وضع سيناريو وإخراج «عملاق رودس» سنة 1961 الذي انتمى إلى الفترة التي شاعت فيها أفلام هركوليس وماشيستي وأبطال المعارك الرومانية الآخرين. نراه بعد ذلك كتب أفلاماً من النوع ذاته من بينها «مبارزة العمالقة» و«الانتقامات السبعة» كما عاد لتقديم خبرته في مجال الإشراف على مشاهد المعارك وتحريك الجيوش في فيلم «سادوم وغوموره» للأميركي روبرت ألدريتش.

- بقعة بيضاء
كل ما سبق كان تحضيراً لفيلم الوسترن الأول له (والثاني في عداد أفلامه كمخرج) وهو «حفنة دولارات». سنة 1964.
ما دارت حوله كتابات غربية (وعربية تم ترجمتها) أن ليوني ابتدع سينما الوسترن الإيطالية وبالتالي الأوروبية، وبذلك كان «رائداً» لها. لكن الحقيقة تختلف. في عام 1962 قام الألماني هارولد رايني بإخراج فيلم وسترن بعنوان «كنز سيلفر لايك» المأخوذ عن روايات ألمانية رائجة وضعها كارل ماي بطلها بطل هندي اسمه وينيتاو. نسبة لرواجها قام الألمان بتحقيق هذا الفيلم متبوعاً بعشرة أفلام أخرى من السلسلة. وكان أول المتأثرين بذلك الإسبان الذين سارعوا ما بين 1962 و1964 لتحقيق أفلامهم من الوسترن.
في إيطاليا ذاتها كانت هناك أفلام قليلة من النوع أحدها ورد سنة 1964 بعنوان «المسدسات لا تُناقش» للمخرج ماريو كايانو. تأثير ذلك على منهج ليوني غير معروف، لكن المؤكد أن سيرجيو ليوني استوحى «حفنة دولارات» من فيلم ياباني لا علاقة له بالوسترن هو «يوجيمبو» الذي حققه أكيرا كوروساوا سنة 1961 وشاهده ليوني في صيف العام ذاته، وأعجبه لدرجة أنه قرر نقله إلى فيلم وسترن. رأى سيرجيو فيه صلاحيته لذلك فنقل حكايته إلى سيناريو حمل اسمه.
لم يمض سوى عام واحد أو نحوه قبل أن ينتبه كوراساوا ومساعده في الكتابة رايوزو كيكوشيما أن الفيلم الذي حقق نجاحاً كبيراً في إيطاليا ليس سوى فيلمهما الساموراي. هذا ما تبعه رفع دعوى لإيقاف عروض الفيلم مما أجل عروضه الأميركية لثلاث سنوات. وأدّى كذلك إلى دفع 15 في المائة من إيرادات الفيلم العالمية إلى كوراساوا الذي صرح بعد سنوات ساخراً: «في الحقيقة حققت من المال عن طريق هذا الفيلم أكثر مما حققته من الفيلم الأصلي».
من اللقطة التمهيدية الأولى لهذا الفيلم يدرك المشاهد رغبة ليوني في تمييز هذا الفيلم عن أفلام الوسترن الأميركية. هي لقطة لبقعة بيضاء على شاشة حمراء. على بساطة هذا الاختيار حدد المخرج مسبقاً رغبته في توفير فيلم يتعامل ونوازع شخصية لبطله تجعل ذلك البطل (كما قام كلينت إيستوود بتمثيله) مختلفاً عن بطولات الآخرين في هوليوود. شيء من العنف الممتزج بتاريخ الرجل الذي لن يتسنى لنا معرفته بالكامل، لكننا سنشهده أكثر من مرّة في الفيلم. في إحدى تلك المرّات يتبدّى البطل (الذي لا يحمل اسماً) كما لو كان يكرر ميثالوجيا المسيح الذي عاد من الموت مع فارق أن بطل «حفنة دولارات» عاد لينتقم وليس لإصلاح العالم.
إيستوود استخدم هذا المغزى أكثر من مرّة فيما بعد في أفلامه («اشنقهم عالياً» لتد بوست سنة 1968 و«هاي بلينز دريفتر» من إخراجه سنة 1973. هما أول ما يخطر على البال). لكن إيستوود، في مطلع الستينات، لم يكن اسماً معروفاً على الشاشة الكبيرة. كان له أتباعه في مسلسل وسترن تلفزيوني اسمه «روهايد» ولم يكن ليوني سمع به أساساً. تواصل مع هنري فوندا للعب الدور لكن ذاك رفضه. عرض الدور على تشارلز برونسون، لكنه هذا احتذى بفوندا واعتذر. الاختيار الثالث كان جيمس كوبرن الذي وافق إنما بأجر لا يمكن لليوني ومموليه القبول به.
على مضض اختار ليوني إيستوود بعد مشاهدته في حلقة من حلقات «روهايد» مما يجعل الاعتقاد السابق من أن ليوني أشار بأصبعه إلى إيستوود في تلك الحلقة وقال: «هذا هو الممثل الذي أريده» اعتقاداً غير صحيح. لا هو ولا إيستوود (الذي تقاضى 15 ألف دولار فقط عن دوره في هذا الفيلم عرف قدر هذا الاختيار وأهميته إلا من بعد أن دارت الكاميرا.
نجاح «حفنة دولارات» أدى للفيلمين اللاحقين مع إيستوود وهما «لأجل دولارات قليلة أكثر» (1965) و«الجيد والسيئ والبشع» (1966). في هذا الفيلم الأخير ضم ليوني إليه ممثلين أميركيين آخرين هما ممثل أدوار الشر لي فان كليف والممثل المتنوّع إيلاي والاك. الأول له عشرات الأدوار الشريرة في السينما وعشرات أخرى في الحلقات التلفزيونية، والثاني (والاك) لعب أدواراً مختلفة لكن سيرجيو ليوني، في مقابلة تمّـت بيننا بحضور الزميل محمد سويد في إحدى دورات مهرجان القاهرة سنة 1984 أكد أن اختياره لوالاك تم من دون أن يعرف اسمه:
«شاهدته في (السبعة الرائعون) - فيلم جون ستيرجز المأخوذ - قانونياً - من فيلم آخر لأكيرا كوروساوا هو (الساموراي السبعة) - وقلت لمن حولي هذا هو الممثل الذي سيلعب دور البشع».
بعد هذه الانتصارات حقق ثلاثة أفلام فقط هي «اختبئ أيها المغفل» و«ذات مرّة في الغرب» و«ذات مرّة في أميركا». لكن ليوني سيستمر في توسيع بؤرته واستيحاء مصادره من السينما الأميركية ومزجها برؤيته السوريالية.


مقالات ذات صلة

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

يوميات الشرق مريم شريف في لقطة من فيلم «سنو وايت» (الشركة المنتجة)

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

رغم وقوفها أمام عدسات السينما ممثلة للمرة الأولى؛ فإن المصرية مريم شريف تفوّقت على ممثلات محترفات شاركن في مسابقة الأفلام الطويلة بـ«مهرجان البحر الأحمر».

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)

من طهران إلى كابل... حكايات نساء يتحدّيْن الظلم في «البحر الأحمر»

«السادسة صباحاً» و«أغنية سيما» أكثر من مجرّد فيلمين تنافسيَّيْن؛ هما دعوة إلى التأمُّل في الكفاح المستمرّ للنساء من أجل الحرّية والمساواة.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق رئيسة «مؤسّسة البحر الأحمر السينمائي» جمانا الراشد فخورة بما يتحقّق (غيتي)

ختام استثنائي لـ«البحر الأحمر»... وفيولا ديفيس وبريانكا شوبرا مُكرَّمتان

يتطلّع مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» لمواصلة رحلته في دعم الأصوات الإبداعية وإبراز المملكة وجهةً سينمائيةً عالميةً. بهذا الإصرار، ختم فعالياته.

أسماء الغابري (جدة)

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».