مدينة «كيدز موندو» اللبنانية تدخل الأطفال الحياة المهنية من بابها الواسع

مشروع سياحي ذو مفهوم ثوري فريد من نوعه

مدينة «كيدز موندو» من الخارج ({الشرق الأوسط})
مدينة «كيدز موندو» من الخارج ({الشرق الأوسط})
TT

مدينة «كيدز موندو» اللبنانية تدخل الأطفال الحياة المهنية من بابها الواسع

مدينة «كيدز موندو» من الخارج ({الشرق الأوسط})
مدينة «كيدز موندو» من الخارج ({الشرق الأوسط})

«أهلا بكم على متن طيران (الشرق الأوسط).. ورحلة موفقة»، بهذه الكلمات تستقبل مضيفات طيران «الشرق الأوسط» في «كيدز موندو» الركاب الذين ينوون خوض غمار رحلة العمر في عالم استثنائي ومبهر.
إنه عالم «كيدز موندو»، هذه المدينة المصغّرة والمستقلة، التي يعيش الطفل فيها أحلامه الوردية بواقع مبسط مفصل على مقاس طموحاته التي يكتسبها من عائلته، مجتمعه، مدرسته، وأحلامه المستقبلية البعيدة المنال أحيانا كثيرة.
في منطقة واجهة بيروت البحرية، أنشئت مدينة «كيدز موندو» أو مدينة «عالم الصغار»، وعلى مساحتها المقدرة بـ10.300 متر مربع من المساحات المبنية وبكلفة تبلغ 25 مليون دولار، يقوم الصغار بتأدية الأدوار التي تثير اهتمامهم، ويمارسون المهن التي يطمحون إلى مزاولتها، برعاية فريق تربوي مكون من نحو 300 موظف يتمتع كل منهم بكفاءات عالية بعد خضوعهم لدورات تدريبية مكثفة من قبل شركات عالمية متخصصة كشركة «kidproof» الكندية.
ويقول علي كزما، رئيس مجلس إدارة «كيدز القابضة»، في حديث لـ«الشرق الأوسط» التي التقته في مستشفى المدينة، داخل المشروع «تعتبر هذه المدينة النموذجية الوحيدة في الشرق الأوسط المصممة خصيصا للأولاد الذين تتراوح أعمارهم بين السنتين و14 عاما من أجل اختيار كل تفاصيل حياة الراشدين ضمن أجواء تربوية وترفيهية مسلية، حيث بإمكانهم الاختيار بين أكثر من 80 مهنة مختلفة لممارستها بشكل مبسط وممتع تماما كالكبار». ويضيف «يتولى الصغار بأنفسهم إدارة المدينة ومراقبة اقتصادها والاهتمام بخدماتها العامة، فكل زائر يحصل عند دخوله على شيك بقيمة 50 كيدلر، وهي العملة المعتمدة في المدينة، كذلك يتم تزويده بسوار مجهز بتقنية تمكن الأهل من معرفة تحركات أولادهم داخل المدينة، وهو ما يسمى بـ(RFID)، كما يحصل الأولاد على خريطة المدينة». بعد ذلك يتوجه الأولاد مباشرة إلى «بنك عودة» الموجود في ساحة المدينة لصرف الشيك والحصول على المال، لتبدأ بعد ذلك رحلة الاستكشاف.
وكما أي مدينة حقيقية سيستمتع أطفال «كيدز موندو» باستكشاف العديد من الأماكن والخدمات والمؤسسات، إذ لا تسعى المدينة فقط إلى تعريفهم على مهن مختلفة عبر منحهم فرصة ممارستها فعليا، بل تقدم لهم أيضا مسرحا لإبراز المواهب الصاعدة، مستشفى لاكتشاف مهنة الطب وممارستها، مركز إطفاء، محطة إذاعية لمحبي الموسيقى وتقديم البرامج الترفيهية والثقافية. وكذلك تستوقف الصغار الزائرين مدرسة للرسم لسيدات ورجال المستقبل، وفندق لتطوير قطاع السياحة والخدمات، واستوديو محطة تلفزيون لإدارة البرامج وتحرير الأخبار، ومطبخ متخصص، ومدرسة لتعليم القيادة، وحلبة سباق للصغار، ومركز لإصلاح السيارات، لأن كل سيارة بحاجة إلى معاينة ميكانيكية بانتظام.
عند مزاولة كل مهنة من تلك المهن وكما هو الحال في حياة الكبار المهنية يتقاضى الأولاد مبلغا من الكيدلر، في حين أنهم يدفعون مبالغ معينة من الكيدلر لحصولهم على خدمات متوافرة في المدينة أيضا، مما يعطي طابع الواقعية لمدينة «كيدز موندو».
وللتمكن من كسب «راتب» أعلى لقاء بعض الأعمال، يمكن للأطفال أن يحصلوا على شهادة جامعية من جامعة LAU في «كيدز موندو». ويؤكد كزما أن قضاء يوم بالكامل داخل «كيدز موندو» لا يقتصر بالطبع على مزاولة العمل، بل تتخلل ذلك اليوم نشاطات عدة لا سيما المهرجانات والحفلات، علما بأنه يمكن للأولاد المشاركة في مسرحيات وتعلم سيناريو معين وتأديته أمام الأهل على أن يحصلوا على فيلم مصور عن الدور الذي أدوه خلال المسرحية.
ومن العناصر التي تضفي جوا من المرح لدى الأطفال وجود 4 شخصيات لـ«كيدز موندو» موجودة دائما في المدينة وهي «فتى يدعى كوزمو، وفتاة تدعى اينا، وسلحفاة تدعى ليلو، وكلب يدعى دوغزيلا».
الجدير بالذكر أن للمدينة دستورا خاصا بها ينص على حقوق وواجبات الأولاد فهم الأمناء عليها. أما عن عملية البناء فيشير إلى أنها استغرقت عاما ونصف العام، وليتم الافتتاح في بداية يونيو (حزيران) من عام 2013.
وتعتبر «كيدز موندو» أكبر مدينة ترفيهية تربوية في لبنان والمنطقة، وتقوم مهمتها على تعليم الأولاد مبادئ حياة الراشدين وتوجيههم إلى مستقبل أفضل. وتثير المدينة دهشة الصغار والكبار مما جعل الإقبال عليها كبيرا فاق التوقعات، إذ دخل إليها استنادا إلى كزما خلال شهر واحد أكثر من 40 ألف شخص بمعدل 1200 و1300 شخص يوميا.
وانطلاقا من هذا الواقع فإن للمدينة واقعا إيجابيا يتمثل بتزويد الصغار بالمعرفة وتحفيزهم، وبتنمية حس المسؤولية الفردية والاجتماعية لديهم ومساعدتهم في اتخاذ الخيارات الصحيحة، وأيضا تعليمهم الأسس الضرورية لإدارة شؤونهم المالية في المستقبل، فضلا عن تعزيز القيم الاجتماعية وتنمية احترام الذات والإبداع وروح الشراكة والاستقلالية.
وستتمكن هذه المنشأة المغلقة من استقبال أكثر من 400 ألف زائر خلال السنة الأولى من افتتاحها، مما سيضعها على خارطة الوجهات الترفيهية العائلية التي تستقطب أكبر عدد من الزوار في لبنان.
وعن الشركاء الموجودين في «كيدز موندو» يقول كزما «لدينا أكثر من 50 شريكا تسويقيا». والأهم في المشروع أنه يتبع أعلى معايير الأمان والسلامة العامة، هذا فضلا عن وجود طبيب بشكل دائم في المكان تداركا لأي حالة طارئة.
في الختام، وفي ظل افتقاد لبنان إلى المساحات الخضراء وأماكن اللهو للأولاد، تأتي «كيدز موندو» لتسد تلك الثغرة باعتبارها المكان الأمثل للترفيه واكتساب المعرفة للصغار في آن في عالم حقيقي يرتكز على أساليب غير تقليدية بعيدا عن ألعاب الفيديو والألعاب الإلكترونية.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)