«حراس الدين»... مزيج متطرف

هيكله التنظيمي مُعقد ومستقبله غامض

مقاتلون من «حراس الدين» في سوريا (الشرق الأوسط)
مقاتلون من «حراس الدين» في سوريا (الشرق الأوسط)
TT

«حراس الدين»... مزيج متطرف

مقاتلون من «حراس الدين» في سوريا (الشرق الأوسط)
مقاتلون من «حراس الدين» في سوريا (الشرق الأوسط)

مر ما يقارب العام على ظهور تنظيم «حراس الدين» الإرهابي شمال غربي سوريا، وعلى الرغم من مخاوف الخبراء الأمنيين من أن التنظيم الوليد سوف يشكل خطراً على استقرار الأوضاع الأمنية في سوريا والعراق، خصوصاً أنه مزيج من تنظيمات متطرفة مختلفة مثل «القاعدة»، و«جبهة النصرة»، و«داعش»، «وطالبان»، فإن مختصين في الحركات الأصولية أكدوا أن نشاط «حراس الدين» ضعيف جداً بالمقارنة بـ«جبهة النصرة» المنشق عن «القاعدة»... وأن انضمام عناصر من «داعش» إليه وارد جداً، خصوصاً مع تشظي التنظيم الداعشي، عقب هزائمه في سوريا والعراق خلال الأشهر الماضية.

أكد مراقبون أن «حراس الدين» يمتلك بنية هيكلية وتنظيمية مُعقدة جداً، تعد من أكثر البنى تعقيداً، وتدير التنظيم شخصيات تحمل من الحنكة والخبرة الكثير، خصوصاً على الصعيد الأمني... فتراكم خبرات قيادات التنظيم الذين كانوا جزءاً من «القاعدة»، و«داعش»، و«جبهة النصرة»، أسهم في ظهور هذه البنية المعقدة.
ويشار إلى أن التقسيمات الداخلية لـ«حراس الدين» تشكل قوة وضعفاً للتنظيم في آن واحد، حيث ساهمت الانقسامات السابقة في التنظيمات الموالية لـ«القاعدة» إلى حد كبير في الحفاظ على سرية العمل لدى «حراس الدين»، ومنحته قدرة تمويه جديدة على تحركات قياداته ومناطق وجودهم؛ لكنها شكّلت في ذات الوقت خوف القيادات بعضها من بعض، نتيجة الطمع في القيادة.
وقال المختصون لـ«الشرق الأوسط» إن «حراس الدين» كشف عن عمق الخلافات داخل «القاعدة». مرجحين أن التنظيم الوليد لن يذهب إلى مكان آخر، ومستقبله غامض.

كيان جديد

أعلن «حراس الدين» عن نفسه في فبراير (شباط) عام 2018، وزعم التنظيم عبر حسابه على موقع التواصل «تليغرام» حينها، أنه «تنظيم إسلامي من رحم الثورة السورية، يسعى للعدل بين المسلمين». ورغم عدم الإشارة إلى ارتباطه بـ«القاعدة»، فإنه مكون قاعدي بشكل كبير، خصوصاً مع إعلان مؤسسة «السحاب» التابعة لـ«القاعدة» عن ظهور كيان في سوريا يدعى «حراس الدين».
المراقبون قالوا إن «التنظيم الجديد جذب لصفوفه عناصر أجنبية من بقايا (جبهة النصرة)، و(تحرير الشام) المحسوبين على (القاعدة)، بالإضافة إلى تشكيلات عسكرية عدة، أبرزها (جند الملاحم، وجيش الساحل، وجيش البادية، وسرايا الساحل، وسرية كابل، وجند الشريعة)».
وفي مطلع مارس (آذار) الجاري، شن عناصر من «أنصار التوحيد» وهي مجموعة يقال إنها موالية لـ«حراس الدين»، هجوماً على نقاط عسكرية شمال حماة بوسط سوريا، أسفر عن مقتل 21 شخصاً.
وقال نبيل نعيم، القيادي السابق في تنظيم «الجهاد» المصري، المختص في شؤون الحركات الأصولية، إن نشاط «حراس الدين» ضعيف جداً بالمقارنة بـ«النصرة»، فجميع التنظيمات الصغيرة، الموالية لـ«القاعدة» عندما تحصل على فرصة للتمويل الخارجي وتستأثر بها تنفصل عن التنظيم الأم... فمثلاً «النصرة» عندما استأثروا بالأموال غادروا «القاعدة».
دراسات وتقارير عربية ودولية أكدت أن «حراس الدين» يجمع بين استراتيجية «القاعدة» التقليدية في قتال العدو البعيد، وقتال العدو القريب لـ«داعش» في آن واحد، ويستخدم تكتيك «حرب العصابات» التي تتناسب مع الأعداد القليلة لعناصره... وقوام التنظيم يضم مقاتلين من «داعش»، وعدداً من العناصر الإرهابية القديمة التي شاركت بالقتال في العراق وأفغانستان... وتتمتع هذه العناصر بمهارات كبيرة في الحرب، وعلى الأرجح في جمع المعلومات الاستخبارية، وقد ساهمت تجارب التنظيم بأفغانستان في تعزيز روابطه مع قيادة «القاعدة» المركزية، فضلاً عن شبكة من الولاءات والعلاقات الشخصية ضمن أقسام أخرى من التنظيم. لكن «داعش»، الذي عانى من هزائم كبيرة في سوريا والعراق خلال الأشهر الماضية، هاجم «حراس الدين» واصفاً عناصره بالكفر –على حد تعبير التنظيم. وحذر من الانضمام إلى التنظيم والتبرؤ منه. ووصفت مجلة «النبأ» الأسبوعية التابعة لـ«داعش»، تنظيم «حراس الدين» بأنها مجموعة انشقت عن جبهة «الجولاني» وهيئة «تحرير الشام»، وأظهروا انتماءهم لحركة «طالبان» بعد ذلك.

دعم «القاعدة»

ورجح أحمد زغلول، المختص في شؤون الحركات الأصولية بمصر، انضمام عناصر من «داعش» لـ«حراس الدين»، خصوصاً مع تشظي «داعش» في سوريا والعراق لينجذبوا إلى «حراس الدين» كمجموعات متطرفة مثل التي كانت موجودة في «القاعدة»، وانفصلت وانضمت إلى «داعش»، لافتاً إلى أن «هذا هو حال جماعات العنف، كل فترة تظهر مجموعة أو تنظيم بأفكار جديدة».
لكن نعيم أشار إلى أن «حراس الدين» ليس له تاريخ، وعناصر «داعش» لن يذهبوا إليه، بسبب أفول نجم «داعش» نتيجة خسائره الأخيرة.
وأكد المراقبون أن «حراس الدين» يعمل على استقطاب معظم المقاتلين الأجانب، وينشط في جلب العناصر المحلية بسوريا والعراق، ويتمتع بدعم وإسناد قيادة «القاعدة» المركزية وفروعها الإقليمية، ويحظى بشرعية جهادية من معظم منظري الجهادية العالمية القاعدية.
وأوضح المراقبون أن «حراس الدين» كشف عن عمق الخلافات داخل «القاعدة» في سوريا، حيث كانت البداية إعلان أبو محمد الجولاني، أمير «جبهة النصرة» في يوليو (تموز) عام 2016، فك ارتباط «جبهة النصرة» بـ«القاعدة»، وتغيير اسمها لـ«جبهة فتح الشام»، وفك الارتباط أدى إلى وقوع انشقاقات داخلية كبيرة لدى الجبهة، وعزوف كثير من عناصرها وقادتها العسكريين والشرعيين عن العمل، وبعضهم انتقل لمناطق سيطرة «داعش»، والبعض الآخر فضّل البقاء في مناطق سيطرة الجبهة مع بعض الفصائل الأخرى.
مصادر أمنية في العراق قالت إن «حراس الدين» ينشط في مناطق في صلاح الدين ونينوى وكركوك، لا سيما طوزخورماتو والشرقاط التي كانت نفسها مسرحاً لظهور ما سمي في وقتها «أهل الرايات البيض» بعد إعلان العراق هزيمة «داعش» عسكرياً.
وأكد زغلول أن «التنظيمات المحلية التي تنشأ في الدول يتحدد مستقبلها بالدول الخارجية التي تدعمها، وطبيعة الأزمة السياسية في هذه الدول، ودائماً ما تلعب هذه التنظيمات على ورقة «أنهم جاءوا لرفع الظلم –على حد زعمهم»، مثل «داعش» من قبل، بعد ذلك تتضخم هذه التنظيمات في ظل وجود صراع إقليمي، مثل «داعش» الذي نشأ توسع على أطلال «القاعدة».

مستقبل غامض

الدراسات والتقارير العربية والدولية أشارت أيضاً إلى أنه يوجد في «حراس الدين» مجلس أعلى يسمى «شورى القاعدة»، وهو صاحب القرار في التنظيم، وهذا المجلس حلقة الوصل بين التنظيم في سوريا وقيادات «القاعدة» بالخارج، ومن أهم الأسماء التي ظهرت في قيادة التنظيم سمير حجازي الملقب بأبي الهمام السوري، وهو القائد العسكري السابق لـ«جبهة النصرة» قبل انشقاقه عنها، ومن الأردن سامي العريدي، وخالد العاروري، وأبو قتادة الألباني المقرب من القيادات الجهادية في سوريا، إضافة إلى أبي مصعب الليبي، وأبي حمزة اليمني، وجميعهم يمثلون القيادة الرئيسة للتنظيم في سوريا... ويردد البعض أن من يقود العمل ضمن التنظيم بشكل رئيسي مع «القاعدة» هو أبو عبد الكريم المصري، صاحب الدور الرئيسي في إطلاق الجولاني لقيادات «القاعدة» المنشقين عن «جبهة النصرة» عقب توقيفهم نهاية عام 2017.
وحول كون «حراس الدين» قدماً أساسية لـ«القاعدة» في سوريا والعراق، قال نعيم، إن «التنظيمات الموالية ليس لها وضع محدد عند تنظيم (القاعدة)، فـ(جبهة النصرة) كانت ضد (داعش) ومع ذلك انشقوا عن (القاعدة)، فمن يستطيع أن يترك (القاعدة) من هذه التنظيمات عندما يأتي له تمويل مستقل يفعل ذلك، فجميع التنظيمات والميليشيات يتم دعمها، وبالتالي تظهر تنظيمات جديدة من وقت لآخر، لو لم تنفذ ما يُطلَب منها من أعمال عنف وقتل وترويع، يتم سحب التمويل منها».
وذكرت الدراسات والتقارير العربية والدولية في هذا الصدد أن التقسيمات الداخلية لـ«حراس الدين» تُشكل قوة وضعفاً للتنظيم في آن واحد، فالانقسامات السابقة ساهمت إلى حد كبير في الحفاظ على سرية العمل لدى التنظيم، ومنحته قدرة تمويه جديدة على تحركات قياداته ومناطق وجودهم؛ لكنها في الوقت نفسه شكّلت خوف القيادات بعضها من بعض، كون هذه القيادات تعلم أن كل مجموعة تسعى لقيادة التنظيم في النهاية، وهذا ما جعلها تنعزل في مناطق مُتباعدة، وهو ما تمكن ملاحظته تماماً في توزيع «حراس الدين»، فشق يوجد في مناطق ريف حلب الجنوبي، وريف إدلب الشرقي، وشق آخر يوجد في ريف جسر الشغور، وقسم ثالث من السوريين في جبل الزاوية، وكل جزء من هذه الأجزاء يسعى لإدارة منطقته بنفسه.
وحول مستقبل «حراس الدين» ومقاصده الجديدة في الدول، أكد نبيل نعيم أن «التنظيم مستقبله غامض وقد يختفي، ولن يذهب إلى مكان آخر؛ بل سيظل يقوم بعمليات خاطفة في سوريا والعراق، لأن مثل هذه التنظيمات مرتبطة بشكل كبير بتنظيم (القاعدة)، وبزعيمه أيمن الظواهري، وباختفائه أو مقتله سوف يقسم (القاعدة) إلى تنظيمات صغيرة متناحرة ومشتتة».


مقالات ذات صلة

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)
أفريقيا جنود نيجيريون مع جنود من القوة الإقليمية المختلطة لمحاربة «بوكو حرام» (صحافة محلية)

​نيجيريا... مقتل 5 جنود وأكثر من 50 إرهابياً

سبق أن أعلن عدد من كبار قادة الجيش بنيجيريا انتصارات كاسحة في مواجهة خطر «بوكو حرام»

الشيخ محمد (نواكشوط)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.