في سنة 2017. ذكر باحثون أن أعداد الحشرات الطائرة في ألمانيا تراجع بأكثر من 75 في المائة خلال العقود الثلاثة الماضية.
هذه الخسارة المذهلة في أعداد الكائنات اللافقارية تصدرت عناوين الصحف، ودفعت البعض للتحذير من أن انخفاضاً كهذا يهدد الحياة على سطح الأرض بالفناء. السؤال الذي كان يطرحه الجميع: ما هي أسباب هذه الخسارة؟
ربما يكون تغير استخدامات الأراضي وتغير المناخ ورش المبيدات من بين العوامل التي تقف وراء ذلك، لكنها لا تكفي وحدها لتفسير هذا التراجع الكبير. فقد اكتشف عدد من الباحثين مؤخراً أن المناطق المنكوبة تعاني من مستويات عالية في الإضاءة الليلية، وربما يكون هذا التلوث الحلقة المفقودة من أجل حل اللغز.
تعد دراسة آثار الضوء الاصطناعي على الحيوانات أمراً صعباً. والخيار الأفضل لتقدير بصمة التلوث الضوئي هو البحث في الأماكن التي تعرضت مؤخراً للإضاءة الليلية. وهذا أمر متاح لأن مساحة الأراضي المضاءة بشكل مصطنع تزداد سريعاً. وكانت الزيادة بين سنتي 2012 و2016 بحدود 2.2 في المائة سنوياً، لا سيما في أميركا الجنوبية وأفريقيا وآسيا، التي تشهد اتساعاً في المساحات المنارة بفضل المصابيح الموفرة للطاقة والزهيدة الثمن. ويكفي النظر من شباك طائرة أثناء تحليقها ليلاً لملاحظة مدى اتساع المساحات المضاءة، حتى في مناطق كانت تعتبر نائية حتى وقت قريب.
- الجاذبية المميتة
في ثمانينات القرن التاسع عشر، لاحظ عالم الطيور السويدي الأميركي لودفيج كوملين أن برجاً مناراً يجذب إليه الطيور المهاجرة في المساء، وأن كثيراً من هذه الطيور لاقت حتفها بعد اصطدامها بأجهزة الإنارة أو الأسلاك الكهربائية المحيطة. ملاحظات كوملين كانت من بين أقدم التقارير لتأثير التلوث الضوئي في الأنواع الحية.
ومنذ ذلك الحين، عمل كثير من العلماء على تحديد أنواع الكائنات الحية التي تستسلم لجاذبية الضوء المميتة. ولعل أبرز الأمثلة وضوحاً هي مملكة الحشرات، التي تضم أنواعاً مثل العث والخنافس تتجمع حول مصابيح الشوارع والأضواء الكاشفة وغيرها من مصادر الإنارة الليلية.
ورغم أن العوامل الكامنة وراء ما يسمى بسلوك «الطيران إلى الضوء» لا تزال غير واضحة، فإن نتائجها على الحشرات موثقة جيداً، وهي تشمل زيادة معدلات الإصابة والإرهاق والافتراس.
يمكن أن تؤدي هذه الجاذبية المميتة إلى تجزئة موائل الحيوانات وتفتيتها، كما تفعل سلاسل المصابيح في تقييد حركة الكائنات الحية من مكان إلى آخر. في إحدى التجارب الحقلية، وجد فريق باحثين من معهد لايبنتز لبيئة المياه العذبة والمصايد الداخلية في برلين أن أضواء الشوارع يمكن أن تجتذب العث الذي يطير ضمن دائرة نصف قطرها 23 متراً من مصدر الضوء. وحيث إن أعمدة الإنارة غالباً ما توضع على مسافات تتراوح بين 20 و45 متراً، فإن مناطق التأثير المجاورة تتداخل وتشكل جدار جذب يمنع الحشرات من الانتشار في الطبيعة.
تستطيع بعض الكائنات الحية التكيف مع الضوء بمرور الوقت، مما يحد من تأثيره السلبي. في سنة 2016. اكتشف باحثون سويسريون أن أحد أنواع العث المنتشر في الأماكن الحضرية كان أقل تأثراً بالانجذاب نحو الأضواء، مقارنة بالنوع ذاته الموجود في المناطق الريفية المظلمة. ويبدو أن ضغط الاصطفاء الطبيعي لمواجهة الانجذاب نحو الضوء مرتفع للغاية، إذا كان التعرض مستمراً ومترافقاً مع ارتفاع معدلات الموت والإنهاك.حتى الآن، تعد فراشة العث هي المثال الوحيد الموثق على التكيف لمواجهة الضوء الاصطناعي. علماً بأن مستويات الضوء هي واحدة بين مجموعة من الخصائص التي تميز المناطق الحضرية عن المناطق الريفية، ولا يمكن استبعاد مساهمة الضوضاء وتلوث الهواء وغير ذلك من الضغوط البيئية في الدفع نحو حصول هذا التكيف.
- اضطراب الساعة البيولوجية
تملك معظم الكائنات الحية، من البكتيريا إلى البشر، إيقاعاً داخلياً يُعرف بالساعة البيولوجية، مما يساعدها في توفيق نشاطها الحيوي مع تعاقب الليل والنهار الذي يحدث مع دوران كوكب الأرض حول محوره. ويتأثر هذا الإيقاع بمجموعة متنوعة من الإشارات الخارجية، لا سيما الضوء. وعندما يتلاشى ظلام الليل بسبب الإضاءة الاصطناعية، يمكن للساعة البيولوجية أن تضطرب وتختل.
وتغير الليالي المشرقة توقيت الأنشطة اليومية التي تتحكم بها الساعة البيولوجية، مثل البحث عن الطعام والنوم. فبعض الأنواع الحية النهارية، مثل العصافير، قد تستمر في البحث عن الطعام إلى ما بعد موعد نومها المفترض، بينما تقضي الكائنات الحية الليلية كالفئران والخفافيش وقتاً أقل في الصيد وإيجاد الغذاء.
يمكن أن يشوه التلوث الضوئي الإيقاعات الموسمية أو تلك المرتبطة بمنازل القمر، بما فيها الأحداث البيولوجية الخاصة بالتكاثر والهجرة. وقد وجد باحثون من المعهد الهولندي للبيئة في واخينينغن أن مستويات الإضاءة الثابتة والمنخفضة تدفع طيور «البلاكبيرد» الأوروبية إلى البدء في دورتها الإنجابية قبل شهر من نظيراتها التي تعيش في الليالي المظلمة. كما وجد باحثون آخرون أن التلوث الضوئي يتسبب في تأخير الولادة لدى الحيوانات الجرابية كالكنغر، ويجعل الطيور المغردة تبيض في وقت أبكر، ويغير أنماط هجرة أسماك السلمون.
وتلعب الإضاءة الليلية دوراً مؤثراً في تغيير مستويات «الميلاتونين» في جسم الكائن الحي، وهو هرمون ينتج بشكل أساسي في الليل ويعد مسؤولاً عن تنظيم الإيقاع الحيوي. ومن المعروف أن إفراز هذه المادة الكيميائية يتراجع بوجود طيف الضوء الأزرق الذي ينبعث من الأجهزة الإلكترونية ومصابيح الدايود الباعث للضوء (أجهزة الليد). ونظراً لتكلفتها المنخفضة وتوفيرها في استهلاك الطاقة، تنتشر أجهزة «الليد» على نطاق واسع عالمياً، حيث تسجل الدراسات مستويات منخفضة من الميلاتونين جرى قياسها لدى البشر المعرضين للضوء الأزرق.
وتظهر التجارب في المختبر أن التعرض للضوء في الليل يمكن أن يثبط إفراز الميلاتونين لدى مجموعة متنوعة من الأنواع الحية، بما فيها الطيور والأسماك والحشرات. وعلى سبيل المثال، تحتفظ الصراصير التي تعيش تحت ضوء مستمر بمستويات منخفضة من الميلاتونين، مما يؤدي إلى ضعف في وظائفها المناعية مقارنة بمثيلاتها التي تتعرض للإضاءة لمدة 12 ساعة يومياً. ويمكن أن يعود التلوث الضوئي بمزيج من الفوائد والأضرار على الأنواع الحية. ففي دراسة نشرت سنة 2018، وجد باحثون أن تعريض العنكبوت الحائك الأسترالي للضوء ليلاً يجعله يصل مرحلة البلوغ بشكل أبكر، حيث يقل عدد التقشرات التي يواجهها أثناء النمو ويكون حجمه أصغر عند البلوغ ويضع كمية أقل من البيض. في المقابل، لاحظ الباحثون خارج المختبر وجود ميزة تعويضية تحظى بها العناكب التي تعيش تحت الضوء الاصطناعي، حيث تزداد حصتها الغذائية اليومية بسبب وفرة الفرائس التي تجذبها الأضواء.
- حلقة معقدة من التأثيرات
وتتسبب الإضاءة الليلية بسلسلة من الأحداث المتداخلة. ففي دراسة نشرت سنة 2018 في مجلة «نيتشر» عرض باحثون نتائج مراقبتهم للتفاعل بين الإضاءة الليلية والنباتات والكائنات الملقِّحة الليلية مثل العث والخنافس. وكان من بين هذه النتائج أن الكائنات الملقحة تتجنب زيارة النباتات المضاءة ليلاً، حيث انخفضت الزيارات بنسبة تتجاوز 60 في المائة، وتسبب ذلك في انخفاض الإثمار لدى النباتات المضاءة بمقدار 13 في المائة. هذا النقص في الإنتاج يمكن أن يؤدي إلى تراجع في أعداد الكائنات الملقِّحة النهارية، مثل النحل، التي تعتمد على النباتات كمصدر رئيسي للغذاء. ويؤدي التلوث الضوئي إلى تغير في إنتاجية النظم البيئية. ومن الملاحظ أن الكائنات الحية الدقيقة تنتج كميات أقل من ثاني أكسيد الكربون تحت الأضواء الاصطناعية، ويعود ذلك على الأرجح إلى تواصل عملية التركيب الضوئي ليلاً. ويشير الباحثون إلى أن استمرار هذه الظاهرة على المدى الطويل يمكن أن يقلل من كمية الكربون المنبعثة من نظم المياه العذبة بمرور الوقت.
وبينما يكتشف العلماء مزيداً من الأدلة على أضرار الليالي المشرقة، يوجد توجه عالمي لإيجاد حلول تحدٍ من تأثير التلوث الضوئي. ففي هولندا، جرت إضاءة بعض المناطق بالضوء الأحمر بدلاً من الأبيض لمنع حدوث خلل في أعداد الخفافيش. لكن هذه المشكلة لا يمكن حلها فقط عن طريق تغيير لون الطيف. ومن الخيارات المتاحة الحد من الأوقات التي تضاء بها الشوارع من خلال وضع حساسات حركة على الطرقات، واستخدام الأغطية العاكسة بحيث لا يتسلل الضوء إلى السماء أو إلى الغابات المجاورة.
هذه الحلول في حد ذاتها ليست كافية لمواجهة تأثير الليالي المضيئة على نحو متزايد في جميع أنحاء العالم، ولا تملك الحيوانات القدرة على التكيف بسرعة كافية مع التغيرات التي يحدثها البشر على هذا الكوكب. ولعل قيامنا باتخاذ قرارات فردية وجماعية للحد من الإضاءة الاصطناعية سيكون أمراً حاسماً في جعل عالمنا أقل تلوثاً مما هو عليه الآن.
- بالتزامن مع مجلة «البيئة والتنمية»