خطاب الكراهية واستهداف دور العبادة

قراءة في جريمة كرايست تشيرش العنصرية بنيوزيلندا

صدمة بين أبناء الجالية المسلمة ووجود أمني مكثف عقب الهجوم الإرهابي ضد المسجدين في كرايست تشيرش بنيوزيلندا الجمعة الماضي (أ.ب)
صدمة بين أبناء الجالية المسلمة ووجود أمني مكثف عقب الهجوم الإرهابي ضد المسجدين في كرايست تشيرش بنيوزيلندا الجمعة الماضي (أ.ب)
TT

خطاب الكراهية واستهداف دور العبادة

صدمة بين أبناء الجالية المسلمة ووجود أمني مكثف عقب الهجوم الإرهابي ضد المسجدين في كرايست تشيرش بنيوزيلندا الجمعة الماضي (أ.ب)
صدمة بين أبناء الجالية المسلمة ووجود أمني مكثف عقب الهجوم الإرهابي ضد المسجدين في كرايست تشيرش بنيوزيلندا الجمعة الماضي (أ.ب)

«إن الغازي غير المسلح يشكل خطورة أكبر لأهالينا من الغازي المسلح»، «ليس لدينا أدنى فكرة عن كيفية التعامل معهم، ونحن لسنا قادرين على مهاجمتهم أو إبعادهم بأي طريقة معبرة».
هذه اقتباسات من بيان نشره الأسترالي بيرنتون تارانت (28 عاماً) أحد المعتدين على مسجدي مدينة كرايست شيرش في نيوزيلندا أثناء صلاة الجمعة الماضي، والذي أسفر عن 50 من القتلى وعشرات الجرحى، ذكر فيه أنه يمقت أكثر من أي أمر آخر المسلمين المسالمين.

الحادثة تعيد إلى الأذهان نظرية صراع الحضارات التي ناقشها المفكر الاستراتيجي صموئيل هنتنغتون، وأن المصدر الرئيسي للصراع في هذا العالم، حسب منظوره، سيهيمن عليه الجانب الثقافي، وستكون الفوارق الفاصلة بين الحضارات بمثابة خطوط قتال في المستقبل. مثل هذا الهجوم ارتكب من منطلق «شيطنة» الآخرين والرغبة في التخلص منهم بعد أن شكلوا تهديداً وجودياً حسب منظور المعتدي.

دعاة تفوق العرق الأبيض

الصراع بين الثقافات الذي تطرق إليه هنتنغتون عززته «العولمة» التي جعلت مدينة نيوزيلندية منزوية تتعرض لحادثة إرهاب عنصري من متطرف يميني أسترالي الجنسية استوحى الفكرة من النرويجي المتطرف أندرس بريفيك الذي قتل 77 شخصاً في هجوم في 22 يوليو 2011. وقد ذكر بريفيك إبان محاكماته أن الهدف من هجومه حماية النرويج من «اجتياح إسلامي»، وبأنه كان ضد فكرة دعم الهجرة والتعددية الثقافية، الأمر الذي ألهم تارانت التخطيط للعملية المتطرفة. في البيان الذي سمي بـ«المانيفستو» بمعنى «الاستبدال الكبير» وصف تارانت نفسه بأنه رجل أبيض ولد في أستراليا من طبقة كادحة، وينتمي لأسرة ذات دخل منخفض. وتضمن البيان انعكاسات تدفق المهاجرين على الدول الغربية بشكلٍ يهدد مجتمعاتها، ويرقى إلى ما وصفه بـ«حقن دماء البيض» وأن وقف الهجرة وإبعاد «الغزاة» الموجودين على أراضيها ليس «مسألة رفاهية لشعوب هذه الدول، بل هو قضية بقاء ومصير». بمعنى أن الأهداف للقيام بالعملية حسب تارانت، تقليص الهجرة بترهيب «الغزاة» وترحيلهم. يتجلى من خلال البيان الذي نشر على الشبكة العنكبوتية رغبة في استقطاب الإعلام ولفت الانتباه لفكر يميني متطرف أقرب للفاشية يصبو إلى إلغاء الثقافات غير الغربية. ولقد نما مؤخراً مصطلح غريب يطلق عليه «إبادة العرق الأبيض» ويشار فيه إلى تصاعد القلق من التهديد الوجودي نتيجة تزايد الأعراق المختلفة في مجتمعات كان يطغى عليها وجود الرجل الأبيض، الأمر الذي تسبب إلى ما هو أشبه «بانقراض» لوجود الرجل الأبيض. الأمر الذي دفع رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أرديرن إلى أن تصف إطلاق النار بهجوم خطط له جيداً. وأضافت في مؤتمر صحافي: «من الواضح لدينا الآن أنه يمكن وصف ذلك بأنه هجوم إرهابي» كما وصف رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون منفذ الهجوم المسلح تارانت بأنه إرهابي من اليمين المتطرف. كما أن الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة أنتونيو غوتيريش شدد على أنه يتعين «الوقوف ضد كراهية المسلمين وكل أشكال التعصب والإرهاب».

الحملات الدعائية للمتطرفين

البيان العنصري الذي نشره تارانت ظهر على موقع «تويتر»، قبل أن ينقل مقاطع من التسجيل المرئي الذي قام فيه بإطلاق النار عشوائياً على المصلين. كما نقل المقطع كاملاً ومباشرة عبر موقع «فيسبوك»، والذي يظهر فيه وهو يصل بسيارته إلى مسجد النور ثم يبدأ بإطلاق النار لدى دخوله إليه عشوائياً على المصلين. وقد حجب موقع «تويتر» حساب مرتكب الهجوم الإرهابي، كما دعت السلطات النيوزيلندية إلى عدم نشر فيديو حادثة إطلاق النار، فيما يظهر نشر البث المباشر من خلال موقع «فيسبوك» إخفاقه عن مراقبة ومنع كل حادثة متطرفة عبر التسجيلات التي يتم نشرها، إذ تم إخطار الموقع الإلكتروني من خلال السلطات النيوزلندية. ويعيد نشر البث المباشر للهجمة الإرهابية الجدل حول مدى استغلال المتطرفين وسائل التواصل الاجتماعي في نشر رسائلهم الإعلامية، ويعتبر البث المباشر لقتل بهذا الأسلوب غير معتاد من قبل متطرفي اليمين بالغرب، وقد برع عدد من التنظيمات ذات التوجهات الراديكالية وأبرزها تنظيم «داعش»، في قدرته على نشر رسائله الإعلامية من خلال الاستعانة بأحدث التقنيات واستغلالها لبث جرائم بشعة، سواء من أجل بث الذعر لدى الآخرين، أو لتحفيز المتعاطفين من أجل ارتكاب أعمال مشابهة من خلال مشاهد عنف تثير الحماسة لديهم.
في 13 يونيو (حزيران) 2016. قام الداعشي «لعروسي عبالة» (25 عاماً) بطعن الضابط الفرنسي جون بابتيست ومن ثم طعن زوجته وبث كل تفاصيل عملية القتل مباشرة عبر موقع «فيسبوك» في بث استمر لمدة اثنتي عشرة دقيقة، ذكر فيها أسباب اقترافه لذلك، وانتمائه لتنظيم «داعش»، ودعا إلى المزيد من الهجمات المشابهة في فرنسا. ويتجلى تحور الحملات الإعلامية الدعائية للتنظيمات مؤخراً إذا ما قورنت بالتنظيمات القديمة مثل «القاعدة» التي اعتمدت على ارتكاب هجمات إرهابية كبيرة أشبه بالمسرح من أجل استعراض التنظيم مثل ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، والارتكاز على تغطية وسائل الإعلام التقليدية لها والذي قنن فيما بعد من أجل عدم الترويج لأفكار هذه الجماعات، وقد كانت وسائل الإعلام في السابق في أحايين عديدة قد نقلت خطابات قادة التنظيمات، مثل ما فعلته المحطات الفضائية مراراً من نقل لخطابات أسامة بن لادن وأيمن الظواهري. وقد تم استبدال ذلك بوسائل التواصل الإلكترونية التي بإمكانها ليس فقط الوصول إلى أدنى أنحاء العالم، وإنما التفاعل مع المشاهدين ومحاورتهم من أجل استقطابهم وتجنيدهم مباشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وقد برع تنظيم داعش في اختيار قادة لحملاتهم الإعلامية التي استقطبت كل الجنسيات بأسلوب ولغة خاصة حسب الفئة التي يتم استهدافها من أجل إقناعهم.

استهداف دور العبادة

يعد استهداف دور العبادة مؤشراً على تنامي خطاب الكراهية والخوف من هيمنة الآخر و«شيطنته» واعتباره دخيلاً على المجتمع مهدداً لوجوده. ويظهر مصطلح الإسلاموفوبيا، لا سيما مع تصاعد هجرة المسلمين إلى الدول الغربية، بالأخص وأن غالبية المسلمين في المجتمعات الغربية من أصول عربية وآسيوية. إلا أنه في الآن ذاته، فإن جرائم الكراهية والعنصرية ليست مقتصرة فقط على المسلمين وإنما الأقليات بشكلٍ عام، ففي الولايات المتحدة وحدها انتشرت عدد من الهجمات الإرهابية أو جرائم الكراهية استهدفت أقليات مثل الأفارقة السود واليهود. مثل ما حدث في مدينة بيتسبورغ بولاية بنسلفانيا حين اقتحم المسلح روبرت باورز معبداً يهودياً مما أسفر عن مقتل 11 شخصاً، وقد كان يصيح أثناء هجومه: «الموت لكل اليهود». فيما قام الأميركي ديلان روف بإطلاق النار على كنيسة تشارلستون في ولاية جنوب كارولاينا والتي يرتادها أميركيون متحدرون من أصول أفريقية، مما تسبب بمقتل تسعة أشخاص.
والأمر ذاته يظهر عبر الجماعات الراديكالية المتشددة مثل تنظيم داعش الذي استهدفت أقليات في العديد من الدول. بدءاً بما قاموا به في مساحة ضيقة باستهدافهم مساجد للشيعة في منطقة الخليج بهدف إضرام الطائفية مثل ما حدث في الكويت والسعودية، أو في مناطق أخرى مثل أفغانستان وباكستان. وأول ما ارتكبه «الدواعش» بشكل مكثف في مصر من استهداف للأقباط عبر العديد من الهجمات على الكنائس أو أماكن تجمعهم.
وفي يناير (كانون الثاني) 2019 قتل ضابط في الشرطة المصرية أثناء محاولته تفكيك عبوة ناسفة قرب كنيسة شرقي القاهرة إبان احتفالهم بعيد الميلاد. وقد نشر بيان حديث باسم تنظيم داعش عبر عن استنكارهم لعدم دخول الأقباط في مصر إلى الإسلام رغم استهدافهم بعمليات إرهابية. وقد قال الناطق باسم «داعش» في مصر قال أبو الغلام المزبيري إنه «حاول بشتى الطرق هداية الأقباط إلى دين الرحمة»، «لقد أبى الأقباط واستكبروا، ولم تلن قلوبهم لدعوتنا الرحيمة، كما لانت أطراف وأجساد أقربائهم وأحبائهم تحت صليات رصاصنا، وصدوا عن سبيل الله واستمروا بكفرهم وضلالهم يعمهون» وأكد المزبيري أنه لن ييأس من هداية الأقباط، ولن يتخلى التنظيم عن مسؤوليته تجاههم. أما في مناطق الصراع فيستحيل استهداف الأقليات إلى عنفٍ وبطشٍ مطلق، مثل ما حدث في العراق بما يبدو أشبه بالتطهير العرقي باستهداف الشيعة والإيزيديين والمسيحيين بدرجة بلغت حد الإبادة والمجازر الجماعية، وتدمير الرموز الدينية والأضرحة والمساجد الشيعية في كل من سوريا والعراق. ليس فقط من أجل استهداف الأقليات وإنما من أجل تأجيج الطائفية التي يزيد من مسبباتها العنف المرتكب من قبل الميليشيات السنية والشيعية فيها، واستهداف لدور العبادة الذي يفترض أنه يوفر الحماية والملاذ للمصلين، إلا أن ذلك الاحترام للمقدسات يتضح انتهاكه من قبل المتطرفين من أجل إرسال تهديد واضح لدين ما أو لطائفة معينة مباشرة دون غيرها، كما أن في هذا الفعل المقترف إمكانية قتل أكبر عدد من طائفة أو ديانة معينة كما ذكر مقترف هجوم مسجدي كرايست شيرش، إذ إن اختياره لهما جاء نتيجة أنهما يستقبلان أكبر عدد من المصلين. الأمر الذي يجعل من المسجدين مسرحاً كبيراً يستعرض جريمته ويتسبب بتخويف المسلمين وقد عبر من قبل أنه يرغب في التخلص منهم، فيما في نفس الوقت قد يؤثر ذلك على المتعاطفين مع القضية ويحفز فيهم ذلك الحس العنصري الكامن في أعماقهم تجاه الآخر.


مقالات ذات صلة

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)
أفريقيا جنود نيجيريون مع جنود من القوة الإقليمية المختلطة لمحاربة «بوكو حرام» (صحافة محلية)

​نيجيريا... مقتل 5 جنود وأكثر من 50 إرهابياً

سبق أن أعلن عدد من كبار قادة الجيش بنيجيريا انتصارات كاسحة في مواجهة خطر «بوكو حرام»

الشيخ محمد (نواكشوط)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.