خطاب الكراهية واستهداف دور العبادة

قراءة في جريمة كرايست تشيرش العنصرية بنيوزيلندا

صدمة بين أبناء الجالية المسلمة ووجود أمني مكثف عقب الهجوم الإرهابي ضد المسجدين في كرايست تشيرش بنيوزيلندا الجمعة الماضي (أ.ب)
صدمة بين أبناء الجالية المسلمة ووجود أمني مكثف عقب الهجوم الإرهابي ضد المسجدين في كرايست تشيرش بنيوزيلندا الجمعة الماضي (أ.ب)
TT

خطاب الكراهية واستهداف دور العبادة

صدمة بين أبناء الجالية المسلمة ووجود أمني مكثف عقب الهجوم الإرهابي ضد المسجدين في كرايست تشيرش بنيوزيلندا الجمعة الماضي (أ.ب)
صدمة بين أبناء الجالية المسلمة ووجود أمني مكثف عقب الهجوم الإرهابي ضد المسجدين في كرايست تشيرش بنيوزيلندا الجمعة الماضي (أ.ب)

«إن الغازي غير المسلح يشكل خطورة أكبر لأهالينا من الغازي المسلح»، «ليس لدينا أدنى فكرة عن كيفية التعامل معهم، ونحن لسنا قادرين على مهاجمتهم أو إبعادهم بأي طريقة معبرة».
هذه اقتباسات من بيان نشره الأسترالي بيرنتون تارانت (28 عاماً) أحد المعتدين على مسجدي مدينة كرايست شيرش في نيوزيلندا أثناء صلاة الجمعة الماضي، والذي أسفر عن 50 من القتلى وعشرات الجرحى، ذكر فيه أنه يمقت أكثر من أي أمر آخر المسلمين المسالمين.

الحادثة تعيد إلى الأذهان نظرية صراع الحضارات التي ناقشها المفكر الاستراتيجي صموئيل هنتنغتون، وأن المصدر الرئيسي للصراع في هذا العالم، حسب منظوره، سيهيمن عليه الجانب الثقافي، وستكون الفوارق الفاصلة بين الحضارات بمثابة خطوط قتال في المستقبل. مثل هذا الهجوم ارتكب من منطلق «شيطنة» الآخرين والرغبة في التخلص منهم بعد أن شكلوا تهديداً وجودياً حسب منظور المعتدي.

دعاة تفوق العرق الأبيض

الصراع بين الثقافات الذي تطرق إليه هنتنغتون عززته «العولمة» التي جعلت مدينة نيوزيلندية منزوية تتعرض لحادثة إرهاب عنصري من متطرف يميني أسترالي الجنسية استوحى الفكرة من النرويجي المتطرف أندرس بريفيك الذي قتل 77 شخصاً في هجوم في 22 يوليو 2011. وقد ذكر بريفيك إبان محاكماته أن الهدف من هجومه حماية النرويج من «اجتياح إسلامي»، وبأنه كان ضد فكرة دعم الهجرة والتعددية الثقافية، الأمر الذي ألهم تارانت التخطيط للعملية المتطرفة. في البيان الذي سمي بـ«المانيفستو» بمعنى «الاستبدال الكبير» وصف تارانت نفسه بأنه رجل أبيض ولد في أستراليا من طبقة كادحة، وينتمي لأسرة ذات دخل منخفض. وتضمن البيان انعكاسات تدفق المهاجرين على الدول الغربية بشكلٍ يهدد مجتمعاتها، ويرقى إلى ما وصفه بـ«حقن دماء البيض» وأن وقف الهجرة وإبعاد «الغزاة» الموجودين على أراضيها ليس «مسألة رفاهية لشعوب هذه الدول، بل هو قضية بقاء ومصير». بمعنى أن الأهداف للقيام بالعملية حسب تارانت، تقليص الهجرة بترهيب «الغزاة» وترحيلهم. يتجلى من خلال البيان الذي نشر على الشبكة العنكبوتية رغبة في استقطاب الإعلام ولفت الانتباه لفكر يميني متطرف أقرب للفاشية يصبو إلى إلغاء الثقافات غير الغربية. ولقد نما مؤخراً مصطلح غريب يطلق عليه «إبادة العرق الأبيض» ويشار فيه إلى تصاعد القلق من التهديد الوجودي نتيجة تزايد الأعراق المختلفة في مجتمعات كان يطغى عليها وجود الرجل الأبيض، الأمر الذي تسبب إلى ما هو أشبه «بانقراض» لوجود الرجل الأبيض. الأمر الذي دفع رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أرديرن إلى أن تصف إطلاق النار بهجوم خطط له جيداً. وأضافت في مؤتمر صحافي: «من الواضح لدينا الآن أنه يمكن وصف ذلك بأنه هجوم إرهابي» كما وصف رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون منفذ الهجوم المسلح تارانت بأنه إرهابي من اليمين المتطرف. كما أن الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة أنتونيو غوتيريش شدد على أنه يتعين «الوقوف ضد كراهية المسلمين وكل أشكال التعصب والإرهاب».

الحملات الدعائية للمتطرفين

البيان العنصري الذي نشره تارانت ظهر على موقع «تويتر»، قبل أن ينقل مقاطع من التسجيل المرئي الذي قام فيه بإطلاق النار عشوائياً على المصلين. كما نقل المقطع كاملاً ومباشرة عبر موقع «فيسبوك»، والذي يظهر فيه وهو يصل بسيارته إلى مسجد النور ثم يبدأ بإطلاق النار لدى دخوله إليه عشوائياً على المصلين. وقد حجب موقع «تويتر» حساب مرتكب الهجوم الإرهابي، كما دعت السلطات النيوزيلندية إلى عدم نشر فيديو حادثة إطلاق النار، فيما يظهر نشر البث المباشر من خلال موقع «فيسبوك» إخفاقه عن مراقبة ومنع كل حادثة متطرفة عبر التسجيلات التي يتم نشرها، إذ تم إخطار الموقع الإلكتروني من خلال السلطات النيوزلندية. ويعيد نشر البث المباشر للهجمة الإرهابية الجدل حول مدى استغلال المتطرفين وسائل التواصل الاجتماعي في نشر رسائلهم الإعلامية، ويعتبر البث المباشر لقتل بهذا الأسلوب غير معتاد من قبل متطرفي اليمين بالغرب، وقد برع عدد من التنظيمات ذات التوجهات الراديكالية وأبرزها تنظيم «داعش»، في قدرته على نشر رسائله الإعلامية من خلال الاستعانة بأحدث التقنيات واستغلالها لبث جرائم بشعة، سواء من أجل بث الذعر لدى الآخرين، أو لتحفيز المتعاطفين من أجل ارتكاب أعمال مشابهة من خلال مشاهد عنف تثير الحماسة لديهم.
في 13 يونيو (حزيران) 2016. قام الداعشي «لعروسي عبالة» (25 عاماً) بطعن الضابط الفرنسي جون بابتيست ومن ثم طعن زوجته وبث كل تفاصيل عملية القتل مباشرة عبر موقع «فيسبوك» في بث استمر لمدة اثنتي عشرة دقيقة، ذكر فيها أسباب اقترافه لذلك، وانتمائه لتنظيم «داعش»، ودعا إلى المزيد من الهجمات المشابهة في فرنسا. ويتجلى تحور الحملات الإعلامية الدعائية للتنظيمات مؤخراً إذا ما قورنت بالتنظيمات القديمة مثل «القاعدة» التي اعتمدت على ارتكاب هجمات إرهابية كبيرة أشبه بالمسرح من أجل استعراض التنظيم مثل ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، والارتكاز على تغطية وسائل الإعلام التقليدية لها والذي قنن فيما بعد من أجل عدم الترويج لأفكار هذه الجماعات، وقد كانت وسائل الإعلام في السابق في أحايين عديدة قد نقلت خطابات قادة التنظيمات، مثل ما فعلته المحطات الفضائية مراراً من نقل لخطابات أسامة بن لادن وأيمن الظواهري. وقد تم استبدال ذلك بوسائل التواصل الإلكترونية التي بإمكانها ليس فقط الوصول إلى أدنى أنحاء العالم، وإنما التفاعل مع المشاهدين ومحاورتهم من أجل استقطابهم وتجنيدهم مباشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وقد برع تنظيم داعش في اختيار قادة لحملاتهم الإعلامية التي استقطبت كل الجنسيات بأسلوب ولغة خاصة حسب الفئة التي يتم استهدافها من أجل إقناعهم.

استهداف دور العبادة

يعد استهداف دور العبادة مؤشراً على تنامي خطاب الكراهية والخوف من هيمنة الآخر و«شيطنته» واعتباره دخيلاً على المجتمع مهدداً لوجوده. ويظهر مصطلح الإسلاموفوبيا، لا سيما مع تصاعد هجرة المسلمين إلى الدول الغربية، بالأخص وأن غالبية المسلمين في المجتمعات الغربية من أصول عربية وآسيوية. إلا أنه في الآن ذاته، فإن جرائم الكراهية والعنصرية ليست مقتصرة فقط على المسلمين وإنما الأقليات بشكلٍ عام، ففي الولايات المتحدة وحدها انتشرت عدد من الهجمات الإرهابية أو جرائم الكراهية استهدفت أقليات مثل الأفارقة السود واليهود. مثل ما حدث في مدينة بيتسبورغ بولاية بنسلفانيا حين اقتحم المسلح روبرت باورز معبداً يهودياً مما أسفر عن مقتل 11 شخصاً، وقد كان يصيح أثناء هجومه: «الموت لكل اليهود». فيما قام الأميركي ديلان روف بإطلاق النار على كنيسة تشارلستون في ولاية جنوب كارولاينا والتي يرتادها أميركيون متحدرون من أصول أفريقية، مما تسبب بمقتل تسعة أشخاص.
والأمر ذاته يظهر عبر الجماعات الراديكالية المتشددة مثل تنظيم داعش الذي استهدفت أقليات في العديد من الدول. بدءاً بما قاموا به في مساحة ضيقة باستهدافهم مساجد للشيعة في منطقة الخليج بهدف إضرام الطائفية مثل ما حدث في الكويت والسعودية، أو في مناطق أخرى مثل أفغانستان وباكستان. وأول ما ارتكبه «الدواعش» بشكل مكثف في مصر من استهداف للأقباط عبر العديد من الهجمات على الكنائس أو أماكن تجمعهم.
وفي يناير (كانون الثاني) 2019 قتل ضابط في الشرطة المصرية أثناء محاولته تفكيك عبوة ناسفة قرب كنيسة شرقي القاهرة إبان احتفالهم بعيد الميلاد. وقد نشر بيان حديث باسم تنظيم داعش عبر عن استنكارهم لعدم دخول الأقباط في مصر إلى الإسلام رغم استهدافهم بعمليات إرهابية. وقد قال الناطق باسم «داعش» في مصر قال أبو الغلام المزبيري إنه «حاول بشتى الطرق هداية الأقباط إلى دين الرحمة»، «لقد أبى الأقباط واستكبروا، ولم تلن قلوبهم لدعوتنا الرحيمة، كما لانت أطراف وأجساد أقربائهم وأحبائهم تحت صليات رصاصنا، وصدوا عن سبيل الله واستمروا بكفرهم وضلالهم يعمهون» وأكد المزبيري أنه لن ييأس من هداية الأقباط، ولن يتخلى التنظيم عن مسؤوليته تجاههم. أما في مناطق الصراع فيستحيل استهداف الأقليات إلى عنفٍ وبطشٍ مطلق، مثل ما حدث في العراق بما يبدو أشبه بالتطهير العرقي باستهداف الشيعة والإيزيديين والمسيحيين بدرجة بلغت حد الإبادة والمجازر الجماعية، وتدمير الرموز الدينية والأضرحة والمساجد الشيعية في كل من سوريا والعراق. ليس فقط من أجل استهداف الأقليات وإنما من أجل تأجيج الطائفية التي يزيد من مسبباتها العنف المرتكب من قبل الميليشيات السنية والشيعية فيها، واستهداف لدور العبادة الذي يفترض أنه يوفر الحماية والملاذ للمصلين، إلا أن ذلك الاحترام للمقدسات يتضح انتهاكه من قبل المتطرفين من أجل إرسال تهديد واضح لدين ما أو لطائفة معينة مباشرة دون غيرها، كما أن في هذا الفعل المقترف إمكانية قتل أكبر عدد من طائفة أو ديانة معينة كما ذكر مقترف هجوم مسجدي كرايست شيرش، إذ إن اختياره لهما جاء نتيجة أنهما يستقبلان أكبر عدد من المصلين. الأمر الذي يجعل من المسجدين مسرحاً كبيراً يستعرض جريمته ويتسبب بتخويف المسلمين وقد عبر من قبل أنه يرغب في التخلص منهم، فيما في نفس الوقت قد يؤثر ذلك على المتعاطفين مع القضية ويحفز فيهم ذلك الحس العنصري الكامن في أعماقهم تجاه الآخر.


مقالات ذات صلة

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

شؤون إقليمية وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال اجتماع لجنة التخطيط بالبرلمان التركي (الخارجية التركية)

تركيا تحذر من جرّ العراق إلى «دوامة العنف»

حذرت تركيا من جرّ العراق إلى «دوامة العنف» في منطقة الشرق الأوسط، في حين رجحت «انفراجة قريبة» في ملف تصدير النفط من إقليم كردستان.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
آسيا صورة أرشيفية لهجوم سابق في كابول (رويترز)

مقتل 10 أشخاص في هجوم على مزار صوفي بأفغانستان

قتل 10 مصلين عندما فتح رجل النار على مزار صوفي في ولاية بغلان في شمال شرقي أفغانستان، وفق ما أفاد الناطق باسم وزارة الداخلية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
شؤون إقليمية أكراد يرفعون صور أوجلان في مظاهرة للمطالبة بكسر عزلته (رويترز)

تركيا: أوجلان إلى العزلة مجدداً بعد جدل حول إدماجه في حل المشكلة الكردية

فرضت السلطات التركية عزلة جديدة على زعيم حزب «العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان بعد دعوة رئيس حزب «الحركة القومية» دولت بهشلي للسماح له بالحديث بالبرلمان

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
الخليج يضطلع «اعتدال» بمهام منها رصد وتحليل المحتوى المتعاطف مع الفكر المتطرف (الشرق الأوسط)

«اعتدال» يرصد أسباب مهاجمة «الفكر المتطرف» الدول المستقرّة

أوضح «المركز العالمي لمكافحة الفكر المتطرّف (اعتدال)» أن استقرار الدول «يفيد التفرغ والتركيز على التنمية؛ خدمة لمصالح الناس الواقعية».

غازي الحارثي (الرياض)
أفريقيا جنود نيجيريون مع جنود من القوة الإقليمية المختلطة لمحاربة «بوكو حرام» (صحافة محلية)

​نيجيريا... مقتل 5 جنود وأكثر من 50 إرهابياً

سبق أن أعلن عدد من كبار قادة الجيش بنيجيريا انتصارات كاسحة في مواجهة خطر «بوكو حرام»

الشيخ محمد (نواكشوط)

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.