أواني أنتيك، وخلفيات معتقّة، وأطباقٌ مكوناتها الملونة تفتح الشهية، فلا يقاوم الجائع قطرات الليمون في أثناء تصببها على مهل فوق ورق العنب المبتهج؛ في تلك اللحظة تلتهم عيناه الأطايب، ويصبح في حيرة من أمره أيها حلوة المذاق أكثر: الباستا أم حبات الكرز أم قطع الشوكولاته؛ وجميعها ما هي إلا صور لسعودي شقّ طريقه الخاص في خلق لغة تواصل صامتة مع الطعام والمنتجات، من دون أن يجبر نفسه على التقيد بأساليب المصورين المتبعة.
حالة تألق يشهدها مصورون عرب يضعون لمستهم الخاصة في هذا الحقل الممتع، ومن بينهم محمد المنسّف الذي يعمل وفق شعار «لا ألتقط الصورة، بل أبنيها»، فقد أدمنَ بشكل جميل هواية تصوير الأطعمة منذ عشر سنوات، راكمَ خلالها كثيراً من الممارسة والتدريب والتغذية البصرية والاطلاع، حتى صار متمرساً ومدرباً له اسمه.
إبداعه في الإضاءة لفتَ انتباه المطاعم والشركات الغذائية، فقد يستخدم في الخلفيات أدواتٍ منزلية لا تخطر بالبال، مثل «الليف المنزلي»، ليعطي لمعاناً محبباً في الإضاءة؛ إنه بالمختصر: يجيد تحليلها، فينشر الظل بنهاية هادئة، ولا يتردد في كسر القواعد من أجل إيصال فكرة الإعلان.
لم يهنأ المنسّف بطفولة تشهد على ذكريات دافئة مع خبز وقهوة أمه، فقد توفيت وهو في عمر التاسعة، إلا أنه كان يحاول بين حين وآخر تحضير الكيك لأخوته، دون أن يهتم لإخفاقه في المهمة؛ يسترجع تلك الأيام بضحكة طيبة.
درس تخصص إدارة الألوان والإخراج الفني، مما مهدّ له طريق تصوير الأطعمة بشكلٍ أو بآخر، والتحق بدورات للتصميم والتصوير الدعائي في ألمانيا وبريطانيا.
يستهلّ حديثه مع «الشرق الأوسط» بالقول: «إن دراستي منحتني مساحة رحبة للتفكير خارج الصندوق، لا سيما حين أخذت ألتفت إلى الأعمال البصرية في الشوارع والمحلات، خصوصاً تلك التي تأخذ طابعاً تجارياً».
يرتدي عادة الملابس الداكنة في أثناء ممارسة شغفه، حتى يقلل من تأثير الانعكاس على المنتج، ثم يلتقط صوراً للأطباق من زوايا تعطي بعداً احترافياً، حتى يكاد المرء يشتم روائحها الزكية، فيهرع إلى تلبية النداء، ولا عجب أنه رجل بطبعه يحب الطعام، في حين بدأت مواهبه الكامنة تخرج رويداً رويداً حين اقترن بزوجته التي تشاركه في موهبة التصوير.
كان الاستمرار في هذا الشغف أول التحديات التي أظهرت نفسها، بحسب ما يقول لنا، ومن ثّم تطوير أدائه يأتي في المقام التالي، ولم يخلو الأمر من مواجهة صعوبة في غلاء المعدات نظراً لعدم توفرها في السوق المحلية.
وفي سؤاله عما جذبه إلى هذا القطاع على وجه الخصوص، قال المصور السعودي: «لقد جربت سابقاً تصوير الطبيعة الصامتة، ومن ثم تصوير الأشخاص، وحين خضت مجال تصوير الأطعمة والمنتجات، كانت النتائج التي تتمخض عن الجلسات مبهرة لي ولمن حولي. وفي تلك الآونة، بدأ موقع (إنستغرام) في الانتشار، ورأيت صدى واضحاً لما أفعله».
- تفتقد إلى القواعد
من يظن أن تصوير الناس أصعب من تصوير الطعام، فإن المنسف يصحّح له المعلومة بالقول: «العقدة تكمن في تكوين العناصر، وتناغم بعضها مع بعض بالشكل العفوي المقبول لدى المتلقي. فمن الممكن توجيه الشخص المراد تصويره لتحريك رأسه يمنة أو رفعه يسرة، ومن ثم نجري التعديل بواسطة الكاميرا. أما في حال الأطعمة والمنتجات، فيدور الحوار حينها بين المصور ونفسه لأجل الوصول بالصورة إلى أعلى كفاءة».
«الكاميرا باهظة الثمن لا تصنع مصوراً محترفاً»؛ إنه معتقد مهني يجزم به، موضحاً: «الصور الجميلة سرها ليس في التكلفة العالية، بل في مقدار ما يرتقي صاحبها باحترافيته».
في البداية، «نيكون»، ثم تبعتها «كانون»، وقبل عام ونصف العام، صارت «سوني» رفيقته الجديدة، مشدداً على أن الهواتف النقالة الحديثة لا تغني عن الكاميرات الاحترافية، وإن باتت تفي بالغرض لدى كثيرين.
وعلى ما يبدو، فإن محمداً أخذ موهبته على محمل الجد، بدليل أنه اتخذ قراراً بترك وظيفته، والتفرغ للشغف، فقد يستغرق منه تصوير طبق أكثر من ساعة.
ترتيبات الطبخ يجب أن تتم بشروط معينة من أجل التصوير، فالأمر يتجاوز بكثير مجرد طبق معدّ للأكل، حيث إن الأطعمة الباردة والساخنة كل منها له طريقة في التعامل، والسبب من وحي تجربته: «يصعب على مصور البورتريه أن يلتقط صوراً ناجحة للأطعمة لأن ذلك يحتاج إلى التوزيع الصحيح للإضاءة، وتكوين العناصر العفوي، واختيار موفق لزاوية الالتقاط، وللأرضية والخلفية، وإلى معالجة متكافئة تتضمن تحسين الألوان. وعلاوة على ما سبق، فإن إعداد الصحن والطاولة بشكل لائق يجب ألا نغفله؛ إنها تفاصيل تجعلنا لا نستهين بتصوير الطعام».
ويروي لنا ما حدث معه ذات صباح: «ذهبت إلى أحد الزبائن كي أصور له وصفات معينة، وإذ به قد أتم طهيها في اليوم السابق. بطبيعة الحال، أُلغيت الجلسة، وعدت في وقت لاحق، بعد أن أخبرته بضرورة أن يكون الطعام طازجاً ساخناً». ويحدّثنا عن أحد طقوسه الطريفة: «لا أبدأ بالجلسة قبل أن أكون قد تناولت وجبة الغداء أو العشاء، حتى لا أقنع بأي نتيجة بسبب الجوع».
ومن لطائف عمله التي تعود بالنفع على زوجته التي تجد نفسها في تصوير البورتريه أن محمداً دائماً يعود إلى البيت حاملاً أطباقاً وأكواباً جديدة، علّها تكون أدوات مساعدة في صور يستعد لها، مع العلم بأن بعض الديكورات اللازمة لا تتوفر في السوق المحلية، وعندئذ لا يتردد في اقتنائها عبر التسوق الإلكتروني، وفقاً له.
وفي أثناء تصفحي لصوره، توقفت للحظة عند قطعة معجنات، جزء منها قفزت إليه لمعة مثيرة، وجزء آخر يعانقه الظل، وما بينهما «حقيقي تماماً»، وكان لا بد أن أسأله عن الفرق بين تصوير منتجات الطعام التي تأخذ صبغة دعائية وما تنشره مدونات الطعام من أطباق يسيل لها اللعاب، ويبدع فيها هواة جادون في الطبخ والتصوير، خصوصاً من العنصر النسائي؛ يشرح المنسّف بحماسة: «المرأة بطبيعتها تربطها علاقة حميمة مع المطبخ، حتى أنني أتوقع قريباً أن تصبح الكاميرا من ضمن مستلزمات تجهيز هذا الركن المهم في كل بيت. أرى أن ما يُنشر من صور لأطباق شهية في (إنستغرام) وغيره في الغالب يفتقد إلى القواعد، وبالتالي تستمد الصورة جمالها من جمال الطبق، أو روعة المكان، وذلك لا يقلل من شأن هذا النمط، وإنما يبقى اجتهاداً شخصياً من المرجّح ألا يميل له أصحاب المطاعم والشركات، في حين أن التصوير التجاري يستلزم إلماماً بجميع الجوانب التي تزيد من مبيعات المنتج، وتجنب العناصر المشتتة التي تحول دون استحواذ العنصر الأساسي، ناهيك عن خلق بيئة جذابة عبر أفكار وتقنيات جديدة».
- حتى يبدو طازجاً
يُقال إن التصوير في المنزل يوفر مستوى أكبر من التحكم الإبداعي مما لو تم في المطعم؛ يبرز الشعرة الفاصلة بينهما قائلاً إن التصوير في المنزل أو الاستديو يخرج بنتائج رائعة نظراً لتوفر المعدات والأدوات والجو الفني، لكن في المطعم يبقى العميل إلى جانب المصور ليوعز إليه بالتعديلات المطلوبة، وهذا من الناحية التجارية أمر سليم، لأن ما يقع على عاتق المصور الخروج بصورة تتوافق إلى حد كبير مع ما يدور في ذهن العميل.
وحتى تتوازن تلك الشَعرة، يضيف في السياق نفسه: «تعرضت مرة لموقف مزعج، حين نسيت إحدى أدوات التصوير في الاستوديو، مما استغرق مني وقتاً لإحضاره بسبب بعد المسافة».
«ماذا عن أهم عوامل النجاح حتى يبدو الطعام طازجاً فاتحاً للشهية؟»، يقول المنسّف: «أولاً، توزيع الإضاءة حتى لو لم يحظ المنتج أو الطبق بجمالية فائقة، ولا بد من صفّ الطعام داخل الصحن بطريقة تبرز جميع المكونات بشكل مشوق، وكذلك صفّ أدوات الأكل مثل الملاحة والفلفل، وعدم إغفال الإتيكيت، على غرار وضع السكين جهة اليمين والشوكة جهة اليسار؛ أي إجمالاً: مراعاة ما يعرف بـ«Food styling».
ويتابع المصور السعودي: «في تصوير الأطعمة، علينا التأني وأخذ أكثر من لقطة، وإجراء التعديل عليها، وتغيير الأماكن إن اقتضى الأمر، حتى نصل إلى أجمل صورة ممكنة، ويتوجب إجراء كثير من التعديلات، بحسب ما تراه الكاميرا، وليس ما تراه عيني وعينك».
وعما إذا كان المصور قد يساهم في خداع المستهلك بشكلٍ ما، يؤكد المنسّف أن دوره يتلخص في تصوير المنتج أو طبق الطعام في أبهى حالة، أي أن يجعله أكثر بهاء، ثم تأتي مسؤولية المطعم في تقديم المنتج أو الطبق بالجودة نفسها التي ظهرت في الصورة.
الحلوى والشوكولاته هما أكثر ما يحلو له تصويره، وأحب صوره إليه تلك التي يلتقطها للحلويات بخلفيات ناصعة البياض، كما يروق له تصوير أطعمة سعودية شعبية تحظى بإعجاب المتلقي العربي والغربي، مثل الكبسة والقهوة العربية. أما المصور الذي يلهمه، فهو المبدع الروسيّ Alex Koloskov.
الأسلوب الروسي أيضاً نجده مفضلاً لديه، إذ يعتمد على العناصر الريفية، مثل استخدام القطع الأثرية وقماش الكتان والخيش، وقد قدم فيه كثيراً من المحاضرات، داخل وخارج السعودية، كما أن الأسلوب «المودرن» نجد لمسته واضحة في صور له تأخذ طابعاً أوروبياً.
ويرد على سؤال «الشرق الأوسط» حول إذا ما كانت دوراته تستقطب غير المصورين، فيقول: «نعم، ففي كل مرة يلتحق عدد غير متوقع من الرجال والنساء، قد يفوق أكثر من 400 متدرب؛ أعتقد أن شح المعلومات المنشورة باللغة العربية في هذا التخصص تجعلهم متعطشين للمعرفة».
الصورة... لغة تواصل صامتة مع الأطباق
السعودي محمد المنسّف يتألق وشعاره «لا ألتقط الصورة بل أبنيها»
الصورة... لغة تواصل صامتة مع الأطباق
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة