بروفايل: أيمن عودة... أمل الشباب لفلسطينيي 48

رغم المشاكل التي تهدد حجم «القائمة المشتركة» في الكنيست

عودة يعتبر من أفقر القادة السياسيين في إسرائيل مالياً
عودة يعتبر من أفقر القادة السياسيين في إسرائيل مالياً
TT

بروفايل: أيمن عودة... أمل الشباب لفلسطينيي 48

عودة يعتبر من أفقر القادة السياسيين في إسرائيل مالياً
عودة يعتبر من أفقر القادة السياسيين في إسرائيل مالياً

قبل شهر من انتخاب أيمن عودة لعضوية الكنيست (البرلمان الإسرائيلي)، عام 2015، سار هو ومجموعة من سكان عرب النقب، مشياً على الأقدام من منطقة بئر السبع إلى القدس، لمسافة 100 كلم، في مسيرة احتجاج سلمي على أوضاع هذه الفئة السكانية المظلومة بأقصى جنوب فلسطين.
انطلقوا من قرية وادي النعم، التي تعتبر واحدة من 38 قرية عربية هناك لا تعترف بها الحكومات الإسرائيلية، ويعيش فيها أهلها من دون كهرباء أو خطوط أنابيب مياه أو مجار. وكانت هذه رسالة منه إلى المجتمع الإسرائيلي كله أن قائدا من طراز جديد يدخل الحلبة السياسية. شاب يلجأ إلى أساليب نضال سلمية مؤثرة على المجتمع اليهودي. فكان كثير من سائقي السيارات يتوقفون إلى جانب المسيرة ويحيونها وبعضهم يشتمها لكن الغالبية تتعاطف معها.
ولكن، لا أقل أهمية من هذا، أن العرب رأوا فيه أملاً جديداً. فقد ملوا من القيادات التي تعتمد في كفاحها أسلوب الشعارات الطنانة التي لا تجدي نفعاً، بل تتحول إلى سلاح يستخدمه اليمين الإسرائيلي لضرب قضية السلام وتبرير سياسة التمييز العنصري ضدهم. يريدون قيادة شابة تطرح أساليب نضال أخرى مجدية. وجاء أيمن عودة بهذه المسيرة، ليبرز قضية جمهور كبير يعيش على هامش المجتمع. ذلك الشاب الذي تربّى في حيفا «مدينة العز» التي تعتبر ثالث أكبر مدينة في إسرائيل، بعد تل أبيب والقدس الغربية، يصل إلى النقب ويمضي فيه أياماً طويلة.

يعتبر أيمن عودة تفاعله مع منطقة النقب وأهلها نقطة الأوج في العمل السياسي والنضالي.
الحياة البائسة التي يعيشها السكان هناك كانت تقض مضاجعه. فيذهب إليهم في الأيام العصيبة، يقف إلى جانبهم ويتصدى للاعتداءات عليهم. وفي ذلك اليوم الذي كان فيه السياسيون في أوج دعايتهم الانتخابية، اختار عودة أن يكون مع هذه الشريحة من شعبه، الضعيفة والمستضعفة، كحامل رسالة «النضال الشعبي السلمي ضد الظلم والتمييز العنصري». وبالطريقة نفسها تعامل مع بقية القضايا، بدءاً بقضية النضال ضد الاحتلال ومن أجل السلام وحتى أبسط قضايا التمييز العنصري. حمل راية «اتباع وسائل نضالية تؤثر على المجتمع اليهودي وتجند العقلاء فيه إلى جانب نضالنا الشرعي لأجل السلام والمساواة والديمقراطية».
والجمهور العربي التقط الرسالة جيداً، فهو يؤمن بأن النضال حكمة والسياسة فن الممكن ويريد قادة يفهمون ذلك ويتبنونه. فتدفقت الجماهير العربية إلى صناديق الاقتراع بمئات الألوف وارتفعت نسبة التصويت من 54 في المائة في انتخابات 2013 إلى 62 في المائة في 2015، ومنح 86 في المائة منهم أصواتهم إلى «القائمة المشتركة» التي وقف أيمن عودة على رأسها. ففازت بثلاثة عشر مقعداً، وهو رقم قياسي في تاريخ فلسطينيي 48. والجمهور اليهودي أيضاً رأى فيه «قائداً عربياً من نوع جديد في إسرائيل»، وفي اليسار راحوا يتحدثون عن «أمل في تعاون وشراكة يهودية عربية» في العمل السياسي. وليس صدفة أن بيني غانتس، رئيس «حزب الجنرالات»، الذي يسعى لإسقاط حكم بنيامين نتنياهو، يعلن اليوم أنه لا توجد عنده مشكلة لإقامة ائتلاف حكومي يستند إلى أصوات العرب.
كان أيمن عودة يومها شاباً في الأربعين من العمر، أصغر النواب العرب عمراً. وبقدر ما حملته هذه الحقيقة من تفاؤل وأمل، استقدمت له أعداء في الساحة السياسية الإسرائيلية، خصوصاً، من جهة اليمين المتطرف الذي رأى فيه خطراً استراتيجياً على سياسته، وخصوماً وحساداً حتى من داخل تحالف الأحزاب الوطنية الأربعة في «القائمة المشتركة»، بل حتى من داخل حزبه. فتعرّض للأذى من الطرفين. بلغ الأذى أوجه في مطلع عام 2017، عندما تعرّض لمحاولة اغتيال من رجال الشرطة الإسرائيلية في معركة أم الحيران. ففي الوقت الذي حضرت قوات لهدم القرية بحجة أنها بنيت (قبل 60 سنة)، بلا ترخيص، أطلق عليه الجنود الرصاص من مسافة قريبة وأصيب بثلاث رصاصات إحداها مزقت جبينه وبأعجوبة لم تستقر في رأسه.
تلك الجريمة أثارت موجة استنكار واسعة في البلاد، لكن بيانات الاحتجاج والاستنكار من رفاقه العرب تأخرت. وكانت إشارة أولى على المعارك الداخلية التي سيفرضونها عليه في تلك المرحلة. ولم تكن معركة الحسد أقل قسوة من معركة المتطرفين اليهود ضده. ولكن أيمن عودة لم يرضخ، بل سار في طريقه بقوة، على مختلف الصعد. لم ينجح في كل المعارك التي أرادها إلا أنه نجح في فرض نقاش عميق حول طريقه، واستقطب فيه غالبية الناس. وإن كان من انتقادات له في الشارع العربي، فليست بسبب خطه السياسي، بل لأنه لا يصرّ على التقدم بخطوات كبيرة فيه. إذ كان يأخذ بالاعتبار استمرار وجود تيار فكري قديم يعتمد الشعارات أكثر من السياسات المُجدية للقضية الوطنية، مع أنه كان يعلم أن الخضوع لهؤلاء يلحق ضرراً بالقضية الوطنية.
على سبيل المثال، قام النائب باسل غطاس، من حزب «التجمّع» في «القائمة المشتركة»، بمحاولة إدخال 15 هاتفا جوالا إلى الأسرى الفلسطينيين في أحد السجون. وتبين فيما بعد أن المخابرات الإسرائيلية علمت بأمر هذه العملية قبل تنفيذها، فنصبت له كميناً. وحسب وقائع المحكمة، ضباط المخابرات صعقوا من الموضوع ولم يكادوا يصدقون أن شخصية سياسية بارزة مثل غطاس يحمل شهادة الدكتوراه، يمكنه أن يتخيل أنه سينجح في إدخال كمية كهذه من الهواتف. فقرّروا الانتظار لرؤية المشهد كاملاً. وصوّروه خطوة خطوة، وضبطوه متلبساً.
هذه العملية ألحقت ضرراً كبيراً، ليس فقط بأعضاء الكنيست العرب، بل أيضا بالأسرى، الذين كانوا ينتظرون زيارات النواب العرب على أحرّ من الجمر، ليبثوا أمامهم مشاعرهم ويطرحوا مشاكلهم حتى يعالجها هؤلاء النواب من خلال مواقعهم البرلمانية. حصيلة ما حدث أن الحكومة قرّرت منع هذه اللقاءات تماما. ومنذ ذلك الوقت مرّت نحو السنتين، لم يلتق خلالها أي نائب عربي مع أي أسير. ومع ذلك، لم نسمع انتقادا من النائب عودة أو غيره على هذا التصرف، مع أن جميع النواب يتحدثون عنه في الغرف المغلقة، كتصرف غير مسؤول.والمعروف أن هذه الحادثة، أدت إلى إبرام صفقة بين النائب غطاس والنيابة الإسرائيلية، اعترف بموجبها بالتهمة ووافق على أن يفرض عليه حكم بالسجن الفعلي لسنتين. وعندما دخل السجن، نشبت مشكلة في «القائمة المشتركة»، إذ أصر حزب غطاس، «التجمّع»، على أن يحل محله في الكنيست شخصية سياسية من الحزب ذاته، ولكي يحصل هذا كان يجب على ثلاثة مرشحين في القائمة من الأحزاب الأخرى أن يستقيلوا. فراح بعضهم يتمنعون. وبدت القائمة المشتركة جسماً مترهلاً، يتصارع قادته على الكراسي، بشكل شائن. وهبطت قيمتها لدى الجمهور.
رغم ذلك، سجل أيمن عودة على اسمه، إنجازا ضخما، إذ تمكن من تحصيل «خطة خمسية» قيمتها 15 مليار شيقل (4.3 مليار دولار) من حكومة بنيامين نتنياهو، الأشد يمينية وعداءً للعرب في السنوات السبعين الماضية، وذلك بهدف سد قسم من الهوة الناشئة بين اليهود والعرب في إسرائيل الناشئة بسبب سياسة التمييز العنصري ضدهم. وهذه ليست مهمة سهلة.
الطريقة التي عمل بموجبها، تدل كثيراً على شخصيته ورسالته وأسلوب عمله المميز. إذ جمع طاقماً إلى جانبه من المهنيين، بقيادة علاء غنطوس، وهو موظف كبير سابق في قسم الميزانيات في وزارة الداخلية ومحاسب بلدية الناصرة، ومازن غنايم رئيس اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية. وعقدوا 70 جلسة مع رئيس قسم الميزانيات في وزارة المالية أمير ليفي، و20 جلسة مع وزير المالية موشيه كحلون، وخمس جلسات مع رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، وخمس جلسات أخرى مع رئيس الدولة، رؤوبين رفلين، وأقنعهم جميعا بضرورة العمل على سد هوة التمييز.
ومع أن الحكومة أقرت هذه الميزانية رسمياً في قرارها رقم 922 في أواخر عام 2015، وأقيم طاقم خارجي لمراقبة تنفيذ القرار في معهد أبحاث الأمن القومي في تل أبيب، وبدأ ينشر التقارير التي تبيّن أن القرار ينفذ بنسبة 90 في المائة، ومع أن عودة نسب هذا الإنجاز لـ«القائمة المشتركة» كلها، ولم يتحدث عنها كإنجاز شخصي، ظل رفاقه في «القائمة» يشككون. ادعوا بداية أنه لا يوجد قرار. ثم ادعوا أنه لا ينفذ. ثم قرروا أن الزيادة ليست حقيقية وأنها مجرد تغيير ترتيب للبنود في الميزانية العادية. بل لوحظ أن الصراعات الشخصية لم تقتصر على هذا الموضوع، بل تفاقمت في اتجاهات أخرى أيضاً. ووصلت إلى حد تفكيك وتمزيق «القائمة المشتركة»، لتخوض الانتخابات هذه المرة في قائمتين منفصلتين، كل حزبين يشكلان قائمة منها. ولم يستطع أيمن عودة السيطرة على هذا الصراع. وبدأ الجمهور العربي ينفضّ عن القائمة. وحسب الاستطلاعات الأخيرة هناك احتمال أن يخسر العرب مقعدين.

- بطاقة هوية
ولد أيمن عودة في اليوم الأول من عام 1975، في حي الكبابير الجميل في مدينة حيفا، لأسرة وطنية كادحة. في بيت يطل على البحر الأبيض المتوسط، في أفق لا يعرف النهاية، يشبه كثيرا هذا الشاب القائد. تلقّى تعليمه في مدرسة تابعة للكنيسة الأرثوذكسية، التي نهل منها سمات التآخي الوطني المترفع عن التقاسمات الطائفية. لكن ثقافته الوطنية تبلورت من خلال العمل السياسي والوطني في صفوف «الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة»، التي تحالف في إطارها الحزب الشيوعي «راكح» وقوى وطنية عدة. وانخرط عودة في العمل السياسي كفتى وشاب مع اندلاع «حرب لبنان الثانية» ثم «الانتفاضة الفلسطينية الأولى»، التي شهدت بلدات فلسطينيي 48 خلالهما مظاهرات ومسيرات تضامنية كثيرة تخللتها صدامات مع الشرطة القمعية. فدخل السجن عدة مرات، متعمدا بسمات الصمود والتحدي.
الاستراحة من النضال حلت، عندما سافر إلى رومانيا لدراسة الحقوق، وعودته منها محامياً. إلا أنه لم يعمل في المحاماة، بل عاد إلى غمار السياسة على الفور. وتزوّج من رفيقة دربه منذ الدراسة، نردين عاصلة، ولهما ثلاثة أولاد: الطيّب، وأسيل، وشام. الطيّب سمياه تيمنا بـ«معشوقه» الشاعر أبي الطيب المتنبي. وشام نسبة إلى هواه التاريخي العريق وبُعده الثقافي والوطني العروبي، الشام. وأسيل، اسم شقيق زوجته الذي استشهد عام 2000 برصاص الشرطة الإسرائيلية.
انتخب أيمن عودة باسم «الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة» عضواً في بلدية حيفا عام 1998، وظل فيها حتى 2003. وعمل في عدة جمعيات تعنى بحقوق العرب في إسرائيل.
وفي عام 2006، انتخب أميناً عاماً لـ«الجبهة»، وظل في هذا المنصب حتى انتخابه عضوا للكنيست عام 2015. ولقد اهتم بعدة مشروعات على مستوى الهوية الوطنية، مثل إطلاق أسماء على شوارع القرى والمدن العربية من خلال الحرص على تكريس الأسماء الوطنية من أجل تعزيز الانتماء الوطني الجامع. ومن أهمّ الأمور التي ثابر على طرحها تعزيز الشراكة بين المواطنين العرب الفلسطينيين واليهود الديمقراطيين، رافضا دعاوى التقوقع والانغلاق، مؤكداً أن الشراكة في صُلب الرؤية الإنسانية التي تقيّم الإنسان كإنسان بغضّ النظر عن انتماءاته التي لم يخترها مثل القومية أو اللون أو الجنس. وهو يقول في ذلك إن «الفلسطينيين في إسرائيل البالغة نسبتهم 20 في المائة لم ولن يحصلوا على الحقوق وحدهم من دون تعاون مع القوى اليهودية التي ترى أن انعدام المساواة يعني أن الدولة غير ديمقراطية. وهذا الطرح ينسجم لديه مع الطرح الطبقي حيث لا وطنية ولا قومية حقيقية تترفّع عن قضايا الفقراء، الذين يشكلون تسعين في المائة من الشعب»، على حدّ تعبيره.
وحقاً، عودة يعتبر من أفقر القادة السياسيين في إسرائيل مالياً. ولقد نشرت القناة الثانية للتلفزيون الإسرائيلي خلال الحملة الانتخابية لعام 2015 تقريرا حول ثروته الشخصية، اتّضح منه أن عودة هو منتخب الجمهور صاحب الثروة الأقل من بين أعضاء البرلمان الذين كشفوا عن ثرواتهم، إذ إنّه مديون بمبلغ 15 ألف شيقل في حسابه المصرفيّ، ولا تتعدّى قيمة معظم ممتلكاته 300 ألف شيقل.

- كيف يراه الآخرون؟
المجلة الأميركية «فورين بوليسي» اختارت عودة واحداً من أهم مائة شخصية عالمية لعام 2015. والمجلة الاقتصادية الإسرائيلية «دي ماركر» اختارته في المرتبة التاسعة، ضمن قائمة أكثر 100 مؤثر على الاقتصاد الإسرائيلي لعام 2016، بفضل الخطة الاقتصادية التي حصلها من حكومة نتنياهو. والمجلة نفسها اختارته قائداً سياسياً عربياً وحيداً ضمن أكثر 100 شخصية مؤثرة في إسرائيل.
ختاماً، رغم إخفاقات «القائمة المشتركة» وتفككها، فما زال عودة الأمل لدى أوسع أوساط الشباب العرب في إسرائيل، فلسطينيي 48. وهو يدرك أن هذه مسؤولية تحتم عليه أن يحدث تغييراً أكبر في سياسة هذه الشريحة من الفلسطينيين، يتلاءم مع الآمال المعقودة عليه.


مقالات ذات صلة

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

حصاد الأسبوع Chinese Foreign Minister Wang Yi (C) speaks during a press conference with Senegal's Foreign Minister Yassine Fall (L) and Congo Foreign Minister Jean-Claude Gakosso (R) at the Forum on China-Africa Cooperation (FOCAC) in Beijing on September 5, 2024. (Photo by GREG BAKER / AFP)

أفريقيا... ساحة تنافس جديد بين الهند والصين

منذ فترة ولايته الأولى عام 2014، كان رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكبر مناصر للعلاقات بين الهند وأفريقيا.

براكريتي غوبتا (نيودلهي)
حصاد الأسبوع نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

نيتومبو ندايتواه... أول امرأة تترأس ناميبيا

سطرت نيتومبو ناندي ندايتواه، 72 عاماً، اسمها في التاريخ بوصفها أول امرأة تتولى رئاسة ناميبيا منذ استقلال البلاد عام 1990، بعدما حصدت 57 في المائة من الأصوات في

فتحية الدخاخني ( القاهرة)
رياضة سعودية السعودية تستمر في تشكيل خريطة مختلف الرياضات العالمية بتنظيم واستضافات غير مسبوقة (الشرق الأوسط)

السعودية ستُشكل خريطة الرياضة العالمية في 2025

شارف عام حافل بالأحداث الرياضية بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي حظيت بإشادة واسعة وأربع بطولات قارية لكرة القدم على الانتهاء ومن المتوقع أن يكون عام 2025 أقل.

«الشرق الأوسط» (لندن)
حصاد الأسبوع فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية بقيادة ميشال بارنييه في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)،

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع خافيير ميلي (أ.ب)

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار

شوقي الريّس (مدريد)

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.