أقدم عازف بـ«وكالة الغوري» يأسر قلوب جمهوره في ليلة اعتزاله

قضى أكثر من نصف عمره على خشبة المسرح المصري

عادل يوسف أقدم عازفي الطورة في حفلته الأخيرة بوكالة الغوري (الشرق الأوسط)
عادل يوسف أقدم عازفي الطورة في حفلته الأخيرة بوكالة الغوري (الشرق الأوسط)
TT

أقدم عازف بـ«وكالة الغوري» يأسر قلوب جمهوره في ليلة اعتزاله

عادل يوسف أقدم عازفي الطورة في حفلته الأخيرة بوكالة الغوري (الشرق الأوسط)
عادل يوسف أقدم عازفي الطورة في حفلته الأخيرة بوكالة الغوري (الشرق الأوسط)

أَسرَ عادل يوسف، أقدم عازفي فرقة «التنورة»، التابعة لوزارة الثقافة المصرية، قلوب جمهوره ومحبيه، مساء أول من أمس، عندما قدم عزفه الأخير بوكالة الغوري، بـ«القاهرة التاريخية»، لبلوغه سن التقاعد القانوني (60 سنة). وبينما حرص الجمهور على توديع «العم عادل» بشكل يليق بسنوات عمره الطويلة التي قضاها على خشبة المسرح، بادلهم الفنان بتقديم تحية صادقة ممزوجة بحالة شجن، انتهت بدخوله في نوبة بكاء، حينما كان يناديه الجمهور بـ«الأسطورة».
ثمة علاقة خاصة ونادرة بين الفنان العاشق للعزف على «الصاجات»، وجمهوره الذي اعتاد وجوده كل أسبوع بوكالة الغوري الأثرية، ظهرت بشكل لافت في حفل توديعه.
«عم عادل» كما يحب أن يطلق عليه محبوه، هو أقدم وأشهر أعضاء فرقة التنورة بوكالة الغوري بالقاهرة، التي تأسست عام 1987، واستطاعت أن تحقق نجاحاً كبيراً في مصر، وتجاوزت شهرتها الحدود حتى وصلت إلى العالمية. فرقة التنورة التي تم تأسيسها بنحو 10 أفراد، أصبح عدد أعضائها حالياً 60 شخصاً.
ونالت قصة عادل يوسف، احتفاءً كبيراً من قبل جمهور «السوشيال ميديا» في مصر، وخاصة في مدينة القاهرة التي تضم وكالة الغوري، مشيدين بابتسامته المميزة، وإبداعاته الطويلة. وأبدوا حزنهم لتقاعده واعتزاله العمل مع فرقة التنورة، لكن يوسف طمأنهم بإعلانه عزمه تدشين فرقة جديدة يكمل بها مسيرته الفنية.
يقول «عم عادل» لـ«الشرق الأوسط»: «الفنان ليست له سن تقاعد، لأنه يعيش ليبدع طوال الوقت حتى عند بلوغه الستين من عمره، وعند موته فإن أعماله لا تموت». وأضاف: «أنا موظف حكومي انتهيت مدة عملي، لكني سأكوّن فرقة جديدة اسمها (موكب النور)، لأمارس فني الأثير من خلالها، الذي ينسيني كل هموم الحياة، فالعزف بالصاجات ليس مجرد حركات وأصوات متنوعة، لكنه حالة من الانسجام والعشق».
يقول عادل: «مرتبي الشهري لا يتجاوز 1200 جنيه (الدولار الأميركي يعادل 17.6 جنيه مصري)، ورغم ارتفاع الأسعار فإني كنت أعتمد عليهم في توفير نفقاتي الشخصية وأمور المعيشة». ولفت عادل إلى أنه «لديه ولد اسمه يوسف، وبنت اسمها إخلاص، وهي متزوجة ولديها أبناء». وكما اسم ابنته فإنه يتخذ من الإخلاص في العمل شعاراً دائماً له، على حد تعبيره.
وعن آخر عرض له بوكالة الغوري، قال: «لم أكن أتخيل أن كل هذا الجمهور الذي زادت أعداده عن 1600 شخص، يحبني بهذا القدر، وهذا شيء أسعدني كثيراً، لذلك لم أستطع التماسك وإخفاء دموعي، كان بحق شعوراً لا يوصف، فاحتفاء الجمهور بي في الحفل الأخير، كان بمثابة جائزة كبيرة وقيّمة قدمها لي في نهاية مشواري الفني بفرقة وكالة الغوري، سوف أفتقد جمهور الغورية جدا، لكني لن أتوقف عن العزف والرقص إلا عند وفاتي مثل والدي».
وتابع عادل: «الجهات الرسمية بالحكومة لم تُقدم على تكريمي حتى الآن، أو تخبرني بشيء من هذا القبيل، لكن لو أرادت ذلك فإني سأكون ممتناً جداً لهم».
يوجه «عم عادل» رسالة مهمة إلى أقرانه العازفين والفنانين بالفرق الفنية المصرية، وهي «العمل بضمير وإخلاص لكسب حب الجمهور وثقته، بالإضافة إلى التواضع مع الجميع».
ولع عادل بآلة الطورة بدأ منذ نعومة أظافره، حينما كان يصطحبه والده في الحفلات، وعندما تأكد والده من حبه للآلات الموسيقية دربه جيداً حتى صار فرداً مهماً في فرقة والده الذي توفي في عام 1977.
بعد وفاة والده، التقى عادل بالدكتور صلاح عناني، الفنان التشكيلي، الذي أخبره برغبته في تشكيل فرقة تهتم بالتنورة. وقرر الرقص بالطورة أو الصاجات منذ ذلك الحين كفقرة رئيسية بأي حفلة، مع قيامه بحركات استعراضية راقصة مميزة جداً، وهو ما تسبب في شهرته.
ورغم حرص عشرات الشبان على حضور حفلات فرقة التنورة مرتين في الأسبوع بوكالة الغوري، فإن «عم عادل» يخشى على ذلك الفن من الاندثار، بسبب قلة المقبلين على تعلمه، بسبب ضعف الدعم المادي، قائلاً: «أنا شخصياً أنوي تعليم وتدريب الشبان، بعد تشكيل فرقتي الخاصة، حتى تستمر التنورة والربابة والسلامية والطبلة والصاجات».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)