ينفق الفرنسيون 700 مليون يورو كل عام على محاربة الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، وينشرون هنالك 4500 جندي في إطار عملية «برخان» التي تعدّ أكبر عملية عسكرية تخوضها فرنسا خارج أراضيها، كل ذلك من أجل مواجهة خطر الجماعات المتطرفة المسلحة، التي تشكل تهديداً حقيقياً للمصالح الفرنسية في هذه المنطقة من العالم التي كانت قبل 60 عاماً تحت الاستعمار الفرنسي، ولا تزال منطقة نفوذ ومصدر قوة ترفض فرنسا التخلي عنه.
وقد تحولت منطقة الساحل الأفريقي، وشمال مالي على وجه الخصوص، إلى ساحة لمواجهة مباشرة بين الجنود الفرنسيين ومقاتلي «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، في حرب شرسة بدأت مطلع عام 2013 عندما حاول المسلحون المتطرفون الزحف على عاصمة مالي باماكو في الجنوب، بعد 6 أشهر من سيطرتهم على شمال البلاد، ولكن الفرنسيين منعوا ذلك عندما أطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية التي تحولت عام 2014 إلى عملية «برخان».
اليوم يحس الفرنسيون بطعم النصر، وإن بحذر كبير، عندما تمكنت قواتهم من قطف كثير من رؤوس «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» الكبيرة، خصوصاً تلك الرؤوس التي كانت تشكل تهديداً مباشراً لمصالحهم في هذه المنطقة من العالم، وكان آخرها الجزائري جمال عكاشة، المعروف بلقب «يحيى أبو الهمام»، الذي قتلته قوات خاصة فرنسية مساء الخميس 21 فبراير (شباط) الحالي، في ضربة موجعة تلقاها تنظيم القاعدة؛ على حد وصف وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بيرلي.
الرؤوس الكبيرة
كانت خطة الفرنسيين لمحاربة الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي تقوم على استهداف القادة الكبار بدل الانشغال بمطاردة صغار المقاتلين والمتعاونين المحليين مع هذه التنظيمات التي استطاعت خلال نحو 10 سنوات التغلغل في المجتمع المحلي بشمال مالي، حيث تغيب الدولة المركزية وينتشر الظلم الاجتماعي والفقر والجهل والمرض.
وقد أثمرت خطة الفرنسيين بعد أيام قليلة من تدخلهم العسكري في شمال مالي في يناير (كانون الثاني) من عام 2013، حين تمكنت قواتهم بالتعاون مع القوات التشادية من قتل الجزائري محمد غدير، الملقب بـ«عبد الحميد أبو زيد»، أمير «كتيبة الفرقان» التابعة لـ«تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، والذي اختطف عدداً كبيراً من الرعايا الفرنسيين وكان وراء مقتل الرهينة الفرنسي ميشال جورمانو عام 2011، ووصفه الفرنسيون بأنه عدوهم الأول في الساحل الأفريقي؛ إذ تمكن من الحصول على عشرات ملايين اليوروات من تجارة الرهائن الفرنسيين.
مقتل «أبو زيد» في مواجهات مسلحة داخل جبال الإيفوغاس في أقصى شمال شرقي دولة مالي، ألحق ضرراً كبيراً بـ«تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»؛ إذ فقد واحداً من أبرز قادته، بينما أرغم آخرون على الفرار والاختباء، على غرار الجزائري مختار بلمختار المعروف بلقب «بلعوار»، الذي توجه إلى الجنوب الليبي تاركاً شمال مالي منذ أن دخله الفرنسيون، إلا إن الجزائري جمال عكاشة المعروف بلقب «يحيى أبو الهمام»، الذي قتل الخميس الماضي، أصر على البقاء برفقة عدد كبير من المقاتلين الموريتانيين والماليين، وتولى «أبو الهمام» إمارة «كتيبة الفرقان»، قبل أن يصبح قائداً لـ«إمارة الصحراء الكبرى» في إعادة هيكلة قام بها «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» للتأقلم مع الوضع الجديد.
عندما تدخل الفرنسيون في منطقة الساحل الأفريقي قبل أكثر من 6 سنوات كان عدد مقاتلي «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» يقدر بالمئات؛ حسب كثير من التقارير الاستخباراتية، موزعين على كتائب وفرق صغيرة وخفيفة الحركة، فيما تشير تقارير وزارة الدفاع الفرنسية إلى أنه في الفترة الممتدة من 2014 وحتى 2018؛ أي على مدى 4 سنوات فقط، تم القضاء على 450 مقاتلاً، من ضمنهم عشرات القيادات البارزة في التنظيم؛ بعضها قيادات عسكرية وأخرى قيادات دينية وقضائية.
قائمة رمادية
الحصيلة الفرنسية تشير إلى أنه بعد عام واحد من إطلاق عملية «برخان»؛ أي في عام 2015، قتل «حمادة أغ حمه»، المعروف بلقب «عبد الكريم الطارقي»، وهو مالي الجنسية وكان يتولى قيادة «كتيبة الأنصار» التابعة لـ«تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، كما قُتل أيضاً إبراهيم أغ إيناولين، المعروف بلقب «بانا»، وهو الذي كان يوصف بأنه الرجل الثاني في جماعة «أنصار الدين» التي يقودها الزعيم الطارقي السلفي إياد أغ غالي، وفي نهاية العام نفسه قتل الفرنسيون عيسى أغ واراكولي، وهو قيادي بارز في جماعة «أنصار الدين»، وعسكري سابق في الجيش المالي... إنها ضربات موجعة تلقتها أبرز مجموعة متحالفة مع «القاعدة» ومكنته من الاندماج والتغلغل في المجتمع المحلي.
في العام الموالي (2016) شن الفرنسيون عملية عسكرية عند بئر تقليدية للمياه تقع إلى الشمال من مدينة تمبكتو التاريخية، قتل فيها «أبو النور الأندلسي» وهو مواطن إسباني يتولى مهام عسكرية قيادية في «كتيبة الفرقان» التابعة لـ«تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، كما قتل أيضاً «مروان المصري»، وهو مواطن مصري ينشط في صفوف «القاعدة»، ويعتقد أنه يتولى التكوين والتأطير العسكري والآيديولوجي.
واصل الفرنسيون تحركهم الهادئ لقطف الرؤوس الكبيرة في التنظيم؛ ففي عام 2017 قتلوا 120 من عناصر «القاعدة»، وألقوا القبض على 150 آخرين، تم التحقيق معهم لفترات متفاوتة قبل تسليمهم إلى المصالح الأمنية في دولة مالي، كما صادرت القوات الفرنسية في العام نفسه أكثر من 22 طناً من الأسلحة والمعدات العسكرية كانت بحوزة مقاتلي التنظيم، وبعضها تم إخفاؤه في كهوف وسط الصحراء، وتشير التقارير إلى أن أغلب هذه الأسلحة يعود إلى نظام العقيد الليبي الراحل معمر القذافي، وبعضها تم الحصول عليه من طرف شبكات تهريب السلاح المنتشرة في المنطقة.
في العام نفسه توسعت عمليات القوات الفرنسية لتشمل بالإضافة إلى شمال مالي، شمال بوركينافاسو وغرب النيجر، وقد نجحت قوات «برخان» بالتعاون مع القوات المالية والبوركينابية في قتل إبراهيم مالام ديكو، وهو داعية وإمام مسجد في بوركينافاسو لديه علاقات مشبوهة مع دولة قطر، وتشير تقارير إلى أن صلاته بالدوحة مكّنته من تأسيس مجموعة مسلحة تحمل اسم «أنصار الإسلام» وتنشط في شمال بوركينافاسو، وسبق أن بايعت تنظيم «داعش»، وتولى قيادة المجموعة بعد مقتله نجله الشاب الذي وصف بأنه أكثر دموية؛ إذ يقف وراء كثير من الهجمات التي تنفذ في شمال وشرق بوركينافاسو والتي يقدر ضحاياها بالعشرات.
ارتفاع الوتيرة
في العام الماضي (2018) غير الفرنسيون من استراتيجيتهم، محاولين بذلك التغلب على أكبر نقطة ضعف عندهم؛ وهي أن «تحركاتهم متوقعة»، وأنهم ثقيلو الحركة بالمقارنة مع الجماعات الإرهابية السريعة والخفيفة، كما توجه الفرنسيون إلى إطلاق عمليات عسكرية معقدة وطويلة الأمد؛ إذ قد تمتد العملية العسكرية الواحدة لأكثر من شهر، وفق تعبير قيادة أركان الجيش الفرنسي.
لقد غير الفرنسيون خطتهم تماشياً مع التحالفات التي عقدتها المجموعات الإسلامية المسلحة لتشكيل جماعة جديدة حملت اسم «نصرة الإسلام والمسلمين»، ويتولى قيادتها الزعيم الطارقي إياد أغ غالي، وقد وضع الفرنسيون أسماء قادة هذا التنظيم الجديد على رأس قائمة المطلوبين لديها، وبدأت الخطة لقطف رؤوس التنظيم الجديد.
وفي منتصف العام الماضي قتل الفرنسيون أبو محمد أغ سيدي مولى، وهو داعية وقيادي في جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وقتل أيضاً منصور أغ القاسم وهو قيادي بارز في جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، كما قتل خلال عملية عسكرية معقدة نفذها الفرنسيون في أقصى الشرق المالي محمد أغ المنير، وهو قيادي بارز في «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
في نهاية العام الماضي كانت الضربة الكبرى التي نفذها الفرنسيون حين تمكنوا من قتل المالي أمادو كوفا، زعيم «كتيبة ماسينا»، وهو أحد القادة الأربعة المؤسسين لجماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وقد قتل في عملية تم خلالها القضاء على أكثر من 30 إرهابياً؛ منهم عدد من القيادات العسكرية للكتيبة التي تنشط في وسط مالي.
الفرنسيون يتحدثون عن انتصارات أخرى كثيرة على المستوى «التكتيكي» و«الاستراتيجي»، من أهمها تعزيز مستوى التنسيق والتعاون مع الجيوش المحلية لبلدان الساحل الخمسة (موريتانيا، ومالي، والنيجر، وتشاد، وبوركينافاسو)، ويقول الفرنسيون إن هذا التنسيق مكنهم في عام واحد من القضاء على قادة 3 كتائب رئيسية نشطة في جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، ويتعلق الأمر بقادة: «كتيبة ماسينا»، و«الكتيبة الثالثة»، وجماعة «المرابطون»، كما تم القضاء على كثير من القادة والمنخرطين في صفوف «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
نجاح بتحفظ
إحساس الفرنسيين بالنصر يبقى ناقصاً في ظل غياب خطة للانسحاب وإعلان النصر نهائياً، فالجماعات المسلحة لديها قدرة كبيرة على تجديد الدماء والتأقلم مع الأوضاع الصعبة، ويراهن الفرنسيون لمواجهة هذه الجماعات الإرهابية في المستقبلين المتوسط والبعيد، على الجيوش المحلية لأخذ المبادرة، وذلك من خلال تشكيل «قوة عسكرية مشتركة»، ولكنها قوة لا تزال تعاني من مشكلات في التمويل والتدريب والتأطير.
ويشير تقرير صادر عن وزارة الدفاع الفرنسية إلى أن العمليات التي نفذتها القوات الفرنسية في الساحل «لم تمكّن فقط من خلق حالة من التشتت العميق في صفوف الجماعات المسلحة الإرهابية، وإنما أيضاً شجعت الماليين والنيجريين على مضاعفة جهودهم في مواجهة هذه الجماعات الإرهابية، ومكنتهم من استعادة السيطرة على مناطق واسعة من أراضيهم».
ويبدو واضحاً أن الفرنسيين غير متحمسين للاستمرار في دفع فاتورة الحرب على الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، فالتقارير الرسمية الفرنسية تشير إلى أنه في العام الماضي وحده شن الفرنسيون أكثر من 120 عملية عسكرية، وحركت في هذه العمليات إمكانات لوجيستية هائلة بسبب المسافات الشاسعة في منطقة الساحل الأفريقي، وقد شاركت فيها طائرات حربية متنوعة، بالإضافة إلى مروحيات كثيرة من طرز «تايغر» و«بوما» و«غزال»، مع استخدام تجهيزات استخباراتية متطورة... إنها فاتورة كبيرة يبحث الفرنسيون عن شريك في دفعها من خلال تمويل دولي للقوة العسكرية المشتركة التي شكلتها دول الساحل الخمس (موريتانيا، ومالي، والنيجر، وتشاد، وبوركينافاسو).