خفايا تاريخ متوتر لعلاقة الأوسكار بالعنصرية

هل فاز «كتاب أخضر» لأنه أبيض؟

TT

خفايا تاريخ متوتر لعلاقة الأوسكار بالعنصرية

«هذا أفضل فيلم لعام 1965»؛ كتب معلق ساخر على فوز فيلم «كتاب أخضر» لبيتر فارلي بـ«أوسكار أفضل فيلم» ليلة الأحد الماضي. بذلك قصد أن يقول إنّ الفيلم ينتمي إلى تلك الحقبة؛ إنّه جيد، ولكن بعقول تلك الفترة ومفاهيمها.
«غرين بوك» في الواقع يعكس حالات متعددة؛ إحداها بالتأكيد أنّ الفيلم لو حُقّق سنة 1965، لحمل رسالته إلى منصّة لم تكن مستعدة لقبوله بصرف النظر عن مستواه. في ذلك العام نال الجائزة فيلم «سيدتي العادلة» (My Fair Lady)، وهو فيلم تقليدي الصنعة لمخرج من مخضرمي هوليوود هو جورج كيوكر. في المنافسة آنذاك فيلم موسيقي آخر هو «ماري بوبنيز» لروبرت ستيفنسون، وفيلم «زوربا ذا غريك» لمايكل كاكويانيس، وفيلم مسرحي هو «بيكيت» حققه بيتر غلينفيل عن حياة الملك هنري الثاني.كل هذه الأفلام عاشت وماتت بعد سنوات قليلة باستثناء الفيلم الخامس: رائعة ستانلي كوبريك المعادية للحرب والمنتمية إلى الكوميديا السوداء بجدارة، وهي «دكتور سترانجلف أو: كيف تعلمت التوقف عن القلق وأن أحب القنبلة». وصول هذا الفيلم إلى الترشيحات المؤلفة من 5 أفلام فقط آنذاك، كان بادرة عبّرت عن الحب الليبرالي لهوليوود، لكنّها خسرت أمام تقاليد تفضيل أفلام منسوجة ومطرّزة حسب الحرفة المعتادة... أفلام حسب العادة.
لو أنّ «غرين بوك» أُنتج آنذاك ودخل التّرشيحات بالفعل بدل أي من هذه الأعمال الخمسة، لكان سجّل قصب السبق في أنه أول فيلم يتناول علاقة البيض بالسود يدخل حلبة الأوسكار... هذا لأنّه في عام 1968 شهد العالم دخول «في حرارة الليل» (In the Heat of the Night) ترشيحات الأوسكار الرسمية؛ بل وفوزه بجائزة أفضل فيلم.
«في حرارة الليل» لنورمان جويسون متاعب عرقية وعنصرية واضحة: تحرٍ أسود (سيدني بواتييه) في زيارة لقرية تقع في قلب الجنوب الأميركي (الذي ما زال يحفل بالنّعرات العنصرية إلى اليوم)، سيساعد شريف البلدة الأبيض (رود ستايغر) لحل جريمة قتل اتهم فيها أسود وكاد الملف يغلق على ذلك. لكن القاتل كان من البيض. وجود التّحري تيبس (أو «مستر تيبس» كما كان يؤكد لشريكه الأبيض) ألهب البلدة ضده. حاصر العنصريون السود تيبس وكادوا يجهزون عليه لولا تدخل الشريف وصدّهم. لم يكن ذلك التّدخل حباً بالتّحري لكن دفاعاً عن القانون.

- تفاهم عند الضرورة
الأفلام الأخرى التي كانت بحوزة سباق أوسكار 1968، كانت الفيلم العاطفي السّاذج «المتخرج» لمايك نيكولز، والفيلم المنتمي إلى تقاليد هوليوود الاستعراضية الكوميدية الرّاسخة «دكتور دوليتل» لريتشارد فليشر، وفيلم العصابات الممتاز «بوني وكلايد» لآرثر بن، وفيلم ميلودرامي استحوذ أيضاً على العلاقة بين البيض والسود، ووضع سيدني بواتييه في البطولة (إلى جانب كاثرين هوفتون وسبنسر تريسي وكاثرين هيبورن) هو «خمن من سيأتي للعشاء» Guess Who›s Coming to Dinner للمخرج ستانلي كرامر.
«خمن من سيأتي للعشاء» كان من فصيلة الأفلام التي تداولت موضوع العنصرية بطريقة ساذجة في التفكير والتنفيذ. ستانلي كرامر لطالما أمسك العصا من منتصفها في كل مرّة قدّم فيها موضوعاً يتعلّق بالعنصرية أو بموضوع آخر ذي حرارة مرتفعة. في عام 1958 قدم «المتحديان» (The Defiant Ones) مع توني كيرتس و(أيضاً) سيدني بواتييه. الفيلم دخل حلبة الأوسكار سنة 1959، «أفضل فيلم»، لكنّه خسر المواجهة (أمام الفيلم الموسيقي «جيجي» لفنسنت مينيل) وربح فقط في مجالي التّصوير لسام ليفيت، والكتابة المباشرة للسينما، هارولد جاكوب سميث وديريك يونغ.
في «خمن من سيأتي للعشاء» تصطحب ابنة عائلة بيضاء من وسط اجتماعي ثري صديقها إلى بيت والديها (ترايسي وهيبورن في آخر لقاء بينهما بعد أفلام مشتركة)، في زيارة بعد طول غياب. كلاهما يفاجأ بأنّ الصديق الذي تتحدث عنه هو رجل أسود، لكنهما من البداهة والانفتاح بحيث لا يغادران مائدة العشاء أو يعتذران للضيف عن عدم استقباله. الفحوى هنا هو أنّ كل فريق (السود والبيض) يستطيع التّفاهم والالتقاء عند الضرورة (فقط)، في منتصف الطّريق. الأسود عليه أن يتحلّى بدمث الأخلاق والثّقافة العالية، والبيض باستعدادهم للانفتاح على الآخر وممارسة المبادرة الحضارية في أي وقت عصيب كهذا. المفاد بالتالي هو أنّ الأسود قد يستطيع، إذا ما تحلّى بتلك المواصفات (بالإضافة إلى حلاوة ابتسامة سيدني بواتييه)، اجتياز الحاجز العنصري، لكن فقط بفضل البيض من أمثال عائلة درايتون.
«فيدني أفيدك» هو مبدأ «المتحديان»، الذي هو أفضل صنعاً من «خمّن من سيأتي للعشاء». بواتييه وتوني كيرتس مقيّدان إلى سلسلة واحدة في عربة قطار تقل مساجين. يهربان، ومن البداية يمارس كل منهما محاولة قمع الآخر، فكل منهما يريد التوجه صوب البيئة التي تحتضنه، لكنّه مقيد للآخر، مما ينشأ عنه صراع (بدني) ونفسي صارم. في هذا الصّدد سينقذ كل منهما الآخر وسيتفهم كل منهما المشكلة الكامنة في المجتمع وليس فيهما.

- الخط الوسط
في كل من «المتحديان» و«في حرارة الليل» تغيب وجهة النّظر البيضاء في المشكلة السوداء، بمعنى أنّ الفيلمين مرويان من وجهة نظر لا تمثل الطّرف الواحد؛ بل القصة. وهذا ما يخفق «كتاب أخضر» فيه. فالفيلم منسوج من ذكريات وضعها نك فاليلونغا حول الفترة التي قضاها والده سائقاً خاصاً لنجم موسيقي اسمه دون شيرلي. دون شيرلي كان موسيقياً متعدد المواهب: مؤلف موسيقي، وعازف بيانو، ومازج في حبه لموسيقى الجاز ذلك الذي يكنه صوب الموسيقى الكلاسيكية. وهو ولد سنة 1927 وتوفي سنة 2013. نيك فاليلونغا (يعرف أيضاً باسم توني لب) إيطالي الأصل وعمل سائقاً خاصاً وملاكماً وحارساً بدنياً في الحانات، وكان على اتصال بالمافيا ولعب أدواراً صغيرة في بعض الأفلام (بينها «العراب»)، وكبيرة على التلفزيون («ذا سوبرانوز») بعدما دخل السينما كاتباً وممثلاً ومن ثم منتجاً. جل الفيلم عن العلاقة بين السائق الأبيض، الذي يقدم الفيلم خلفيته العنصرية في مشهد قيام نيك برمي كأسين شرب منهما عاملان من السود في الزبالة، والموسيقار الأسود، وكيف واجه كل منهما الآخر من وجهة نظره ومفهومه الخاصين، ولاحقاً؛ كيف استفاد نك من تلك العلاقة؛ إذ تفهم أكثر معاناة السود من العنصرية، وذلك بعدما عمل دون شيرلي معه سائقاً في بعض الولايات الجنوبية وفي حفلات البيض ونواديهم هناك. على الرّغم من كل ذلك الكشف عن المواقع وتبادل المفاهيم، فإن الفيلم يكتفي بلقاء شخصيتيه عند خط وسط. كل ما نراه، في النهاية من مضامين، أنّ العنصرية ليست ضرورية للتواصل، لكنّها كذلك ليست مدانة؛ بل مجرد حالة واقعة. لو كانت مدانة لكان الفيلم توجه بأحداثه إلى ما هو أكثر حدة وانتقاداً. لكان على الفيلم أن يُكتب من جديد من دون تلك المسحة اللامعة من أنّ كل شيء يمكن أن يصبح على ما يرام رغم كل شيء.
على رقعة هذا الشطرنج؛ الأبيض ينقذ الأسود. هذا الأخير مضطر لأن يقبل بهزيمته الاجتماعية، فبعد حفلاته مع «كبار القوم» مضطر للمبيت في فنادق حقيرة مخصصة لأبناء جلدته. في أحدها يضبط «دون»، بين مجموعة من المثليين. نيك يرشو ضابط شرطة لإخلاء سبيل دون قبل فوات الأوان.

- الواقع والخيال
لكنّ الدلالات على تحيز الفيلم للمنقذ الأبيض واضحة. الحكاية تُسرد هنا من وجهة نظر كاتبها (وبعد رحيل الفنان سنة 2013)، وترضي غير المستعدين لدخول أعماق المشكلة أو تأنيب ذواتهم على واحدة من أكبر معضلات العلاقة الإنسانية في أميركا (وحول العالم). لكنها واضحة أيضاً خارج الفيلم.
فوز «كتاب أخضر» كتبه إيطالي كان شن إهانة إسلاموفوبية ضد المسلمين سنة 2015، قبل أن يعتذر عن ذلك. وأخرجه بيتر فارلي الذي كان خلع ملابسه أمام النساء العاملات في أفلامه السابقة (قبل أن يعتذر بدوره عن هذه الأفعال).
إلى ذلك، لو أنّ المنتجين حكوا الأحداث من وجهة نظر راوٍ محايد (كما حال «في حرارة الليل» مثلاً) أو من وجهة نظر دون شيرلي ذاتها، لكان تجنب الكثير من اللغط الحاصل حول فوزه.
لكن، ومن المنطلق ذاته، من يستطيع أن يؤكّد أنّ صانعي «كتاب أخضر» كانوا سيحقّقون الفوز في دورة الأوسكار الأخيرة فيما لو سردوا الحكاية من وجهة نظر الموسيقار وليس سائقه؟
لدينا الجواب الشافي عن هذا التساؤل في الدورة ذاتها.
ها هو «بلاكككلانسمان» خير دليل على أنّ سرد الحكاية من وجهة نظر الأسود لا يفيد كثيراً بين أعضاء الأكاديمية.
إنّها حكاية حقيقية (بدورها) عن رون ستولوورث (لعبه في الفيلم جون ديفيد واشنطن) الذي كان أول رجل أفرو-أميركي ينضمّ إلى شرطة بلدة كولورادو سبرينغز وذلك في 18 يونيو (حزيران) سنة 1974. وهو - وكما يذكر الفيلم حكايته - تمكّن من دخول عصبة «كو كلوكس كلان» متخفياً، ووضع تجربته في كتاب نشره سنة 2014. لم يغير لون بشرته، لكنّه انضم للعصبة المتطرفة على الهاتف، وحين طُلب منه الحضور للاجتماع برئيسها في كولورادو سبرينغز أوفد زميلاً أبيض البشرة مكانه.
الشرطي الذي ادّعى أنّه رون، في الواقع لم يكن يهودياً كما في الفيلم (أداه آدام درايفر)؛ بل مسيحياً. خطأ السيناريو الأساسي هو أنه حاول إقحام عنصر «مضطهد» آخر في الحكاية التي هي في الأساس عن بيض وسود وليس عن بيض ويهود.
لكن بصرف النظر عن هذه النّقطة (التي تشي بتدخل الكاتب ديفيد رابينوفيتز بالمادة) فإنّ الفيلم هو اقتباس للأشهر التسعة التي خدع خلالها رون الفرع المحلي لتلك العصبة لأجل كشف مراميها.
في الصميم هنا أن فيلم سبايك لي هذا حكى الأحداث من وجهة نظر بطله. هناك اختلافات عدة بين الواقع والفيلم، لكنّ الحقائق أكثر عدداً من الاختلافات.
وتقديم المخرج فيلماً يتبنّى وجهة نظر الشّخصية التي أجرت التحقيق، قاد العمل إلى جدية الطرح على عكس ما حدث مع «كتاب أخضر».
هنا يتضحّ أنّ أعضاء الأكاديمية فضلوا «تبويس اللحى» وتطييب الخاطر الأبيض على فيلم يدخل عميقاً في مشكلة ما زالت تشغل الولايات المتحدة، حتى ولو كان الثّمن هو هضم حق مخرج أفرو-أميركي له باع طويل في تناول الموضوعات العنصرية تناولاً ساخراً وموضوعياً في الوقت ذاته مثل سبايك لي.
الصورة التي تجمع بين صانعي الفيلم الفائز وهم على المنصة محتفين بأوسكاراتهم عن «كتاب أخضر»، قد تشهد أنّ الفيلم في النّهاية كان نظرة بيضاء على موضوع أسود. وأنّ الأكاديمية لا تزال أمامها مسيرة طويلة قبل أن تدرك الاختلافات الحميمة بين أفلام صادقة وأخرى لاصقة.
المرء قد يرضى بأن يفوز ألفونسو كوارون على سبايك لي في دائرة «أفضل إخراج».
كان هذا ما توقعناه هنا وتوقعه كثيرون سوانا، لكنّ ذهاب «أوسكار أفضل فيلم» لمن فاز به اعتبر من قِبل العديد من السينمائيين والنّقاد، قِصر نظر، ودليلاً على أنّ المشكلة العنصرية باقية على جانبيها: في الحياة وعلى الشّاشة.


مقالات ذات صلة

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

سينما المخرج إيستوود مع نيكولاس هاولت (وورنر)

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

ماذا تفعل لو أنك اكتشفت أن الشخص المتهم بجريمة قتل بريء، لكنك لا تستطيع إنقاذه لأنك أنت من ارتكبها؟ لو اعترفت لبرّأت المتهم لكنك ستحلّ مكانه في السجن

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
سينما من «الفستان الأبيض» (أفلام محمد حفظي)

شاشة الناقد: دراما نسوية

في فن صنع الأفلام ليس ضرورياً أن يتقن المخرج الواقع إذا ما كان يتعامل مع قصّة مؤلّفة وخيالية.

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
يوميات الشرق مشهد من فيلم «هُوبَال» الذي يُعرض حالياً في صالات السينما السعودية (الشرق الأوسط)

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يندر أن يتعلق الجمهور السعودي بفيلم محلي إلى الحد الذي يجعله يحاكي شخصياته وتفاصيله، إلا أن هذا ما حدث مع «هوبال» الذي بدأ عرضه في صالات السينما قبل أسبوع واحد.

إيمان الخطاف (الدمام)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما صُناع فيلم «إيميليا بيريز» في حفل «غولدن غلوب» (رويترز)

«ذا بروتاليست» و«إيميليا بيريز» يهيمنان... القائمة الكاملة للفائزين بجوائز «غولدن غلوب»

فاز فيلم «ذا بروتاليست» للمخرج برادي كوربيت الذي يمتد لـ215 دقيقة بجائزة أفضل فيلم درامي في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)