جماعة «أنصارو» الإرهابية... مساعٍ نحو تأسيس «دويلة متطرفة»

الخطر الحقيقي الجديد

نيجيريون في موقع تفجير انتحاري أسفر عن مقتل 13 شخصاً في مايدوغوري في 2017 (غيتي)
نيجيريون في موقع تفجير انتحاري أسفر عن مقتل 13 شخصاً في مايدوغوري في 2017 (غيتي)
TT

جماعة «أنصارو» الإرهابية... مساعٍ نحو تأسيس «دويلة متطرفة»

نيجيريون في موقع تفجير انتحاري أسفر عن مقتل 13 شخصاً في مايدوغوري في 2017 (غيتي)
نيجيريون في موقع تفجير انتحاري أسفر عن مقتل 13 شخصاً في مايدوغوري في 2017 (غيتي)

أدَّت الجهود الدولية المضنية لمكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط إلى كسر شوكة «داعش» بزعامة أبو بكر البغدادي، إذ إن التنظيم لم يعد يسيطر إلا على 1 في المائة من الجغرافيا التي أعلنت ما تُسمّى بأرض «الخلافة» المزعومة. غير أن هذا التراجع يقابله ارتفاع وتيرة نشاط الجماعات الإرهابية بغرب القارة الأفريقية، خصوصاً بنيجيريا... حيث تشير تقارير بحثية عديدة إلى الصعود المخيف لتنظيم «أنصارو» التابع لـ«القاعدة»، بعد أن تراجع تنظيم «بوكو حرام» في بعض دول الإقليم.

مع بداية 2019، أصبح تنظيم «أنصارو»، أكثر خطورة من تنظيم أبو بكر شيكاو، حيث بات «أنصارو»، يسيطر على مساحة شاسعة تعادل مساحة دولة بلجيكا. كما أن التنظيم يقف وراء كثير من الهجمات المميتة، في الشمال والشمال الشرقي، وقد أعطى هذا التنظيم الذي يتزعمه أبو مصعب البرناوي، أولوية قصوى لمهاجمة الجيش والشرطة والميليشيات المسلحة التابعة لهما، دون أن يعني ذلك تخليه عن مواجهة السكان، خصوصاً غير المتعاونين مع التنظيم.
ومن العمليات التي قادها هذا التنظيم مهاجمته بداية يناير (كانون الثاني) الماضي ثلاثة مراكز عسكرية شمال شرقي البلاد، مما أسفر عن عدد من القتلى. كما تحدثت منظمة العفو الدولية وعدة مصادر أمنية عن هجوم مروِّع وقع نهاية شهر يناير الماضي، بعد يوم من انسحاب الجيش من بلدة ران شمال شرقي نيجيريا، وقتل فيه 60 شخصاً على الأقل، كما شرد الهجوم نحو 40 ألف شخص، هرب 30 ألفاً منهم إلى الكاميرون.

الوضع المتردِّي

تُعدّ الهجمات المتكررة والمتصاعدة ضد الجيش النيجيري من المؤشرات الدالّة على تزايد قوة تنظيم «أنصارو». ورغم أن وسائل الإعلام وبعض المنظمات ما زالت تخلط بين تنظيم «بوكو حرام»، بزعامة أبو بكر شيكاو، والتنظيم المنشقّ عنه سنة 2015، الذي يحمل اسم «أنصارو» (أنصار)، بقيادة أبو مصعب البرناوي، ابن محمد يوسف مؤسس تنظيم «بوكو حرام». فإن جيمس بارنيت محلل في مشروع التهديدات الحرجة في معهد «أميركان إنتربرايز» المتخصص في شرق أفريقيا وحوض بحيرة تشاد، يرى أن الوقت قد حان لإدراك أن تنظيم «أنصار» هو الخطر الحقيقي الجديد، وأن هذا التنظيم على وشك إقامة «دويلة متطرفة»، جديدة ستكون دولة داخل أكبر بلد بأفريقيا.
بالنسبة للباحث، في منطقة بحيرة التشاد، جيمس بارنيت، فإن قوة التنظيم لا تعود للقدرة المتنامية على مهاجمة القواعد العسكرية، بل تنامي قدرة التنظيم على «مسك الأراضي الشاسعة»، وسيطرته على جغرافيا مترامية الأطراف. أكثر من ذلك، تحوَّل التنظيم في غياب للدولة النيجيرية، إلى سلطة إدارية، لها مؤسسات، تدير شؤون عشرات الآلاف من المواطنين، وتجمع الضرائب، كما تسيِّر التجارة والموارد الطبيعية. وهذا ما يمنح التنظيم مزيداً من ثقة السكان، لا سيما بالشمال والشمال الشرقي للبلاد.
ويبدو أن التهديد الذي يشكِّله تنظيم البرناوي لا ينحصر في الرقعة المحلية، بل يصل إلى غرب أفريقيا، وحوض بحيرة تشاد غرب القارة.
وهذا ما يعني أن الدينامية التي تتمتع بها التنظيمات الإرهابية، وتشابكها إقليمياً، يشكلان تحدياً لدول غرب القارة، وللمصالح الاستراتيجية الأميركية بالمنطقة. على الرغم من أن الولايات المتحدة تبني أكبر قاعدة عسكرية لها بأفريقيا بالنيجر القريبة.
ورغم كون الولايات المتحدة الأميركية شريكاً حقيقياً لقوات الأمن النيجيرية في مواجهتها للمنظمات الإرهابية لا سيما «بوكو حرام» و«أنصارو»، فإن هناك عوائق تحول دون تحقيق النصر الذي تحقق في العراق وسوريا، رغم الجهود الكبيرة التي قامت بها نيجيريا وشركاؤها.
بالنسبة للباحث جيمس بارنيت، فإن الوضع السياسي، والأمني والعسكري الحالي بنيجيريا، لا يساعد على هزيمة الإرهاب، ولا الجماعات المسلحة العرقية الانفصالية في الجنوب وغيره. ذلك أن البلاد مقبلة على الانتخابات الرئاسية في سنة 2019، وسط صراعات عرقية وإثنية ومذهبية دينية، وتنامٍ لقوة المنظمات الإرهابية، وتأثير فعلها الإجرامي على الاقتصاد.
من جهة أخرى، تضاءل التركيز الدولي على منطقة بحيرة تشاد، مما يعيق الحكومة النيجيرية عن إعطاء الأولوية لهذه المعركة، وتوفير الموارد لها. وعليه، يمكن القول إن ارتفاع وتيرة الهجمات التي ينفِّذها تنظيم «أنصارو»، منذ الأشهر الأخيرة من سنة 2018، وبداية 2019، وما تخلّفه من مئات الضحايا شهرياً، والآلاف من النازحين. تشكّل بداية لمرحلة جديدة، تهدد بتكرار تجربة دولة «داعش» التي قضي عليها بالعراق وسوريا.
ذلك أن تنظيم برناوي بات يشكل بالفعل تهديداً إرهابياً لأبوجا، عاصمة نيجيريا، حيث خطط التنظيم في النصف الثاني من سنة 2018م، لمهاجمة السفارتين الأميركية والبريطانية، وربما لاغوس أكبر مدينة في نيجيريا. وهو ما أدى لمزيد من الاحتياطات الأمنية في المطارات منذ يونيو (حزيران) 2018، حيث توصلت المصالح الأمنية إلى أن التنظيمات الإرهابية تستهدف الطائرات التجارية.

فكرة الدولة

وبما أن التنظيم يسيطر على مساحة واسعة، وله موارد مالية وبشرية، ويحصل على السلاح في السوق السوداء، أو عبر مهاجمات القواعد العسكرية، ولأن التنظيم يستفيد آيديولوجيا من انتشار فكر «السلفية الجهادية» في أجزاء من غرب أفريقيا. فإن فكرة إقامة «الدولة الإسلامية» في هذه المنطقة ليستْ حُلماً للمجموعات الإرهابية المتطرفة فقط، بل تجد لها قاعدة شعبية كبيرة مساندة لها. وتستغل المجموعات المتطرفة، الصراعات الإثنية والدينية، والوضع الاقتصادي وضعف الدولة، لتسويق فكرة تأسيس دولة من منظور قريب من «داعش»، مما جعل غرب أفريقيا مصدراً أكبر للإرهاب العابر للحدود أكثر من أي وقت مضى.
من جانب آخر، يُمكن القول إن انقسام «بوكو حرام» سنة 2015 جعل تهديد المتشددين في شمال شرقي نيجيريا أكثر خطورة. فقد أدى استهداف تنظيم شيكاو، للمدنيين المسلمين إلى عزله عن السكان المحليين وكان عاملاً رئيسياً في تنصل «داعش» من قيادته، صحيح أن «بوكو حرام» لم يقدِّم نُظُماً للحكم على الإطلاق، ولم يمنح المجتمعات المحلية أي حافز للتعاون، كما أن شياكو يفضل المقاتلين من مجموعته العرقية، مما يخلق احتكاكاً داخلياً ويحدّ من توسع التنظيم إقليمياً، لكنّ تنظيم «أنصارو» تعلّم من أخطاء «بوكو حرام»، وتجنبَتْ المجموعة المنشقة، بشكل عام، قَتْل المدنيين المسلمين، وتبذل جهوداً حثيثة لحماية التجارة وحرية الحركة في الأراضي التي تسيطر عليها. مع تركيز شديد للهجمات ضد الجيش النيجيري، الذي يعاني من نقص في الموارد المالية والبشرية، وتقادم معداته العسكرية.
ويأتي هذا في وقت لا يركز فيه المجتمع الدولي على تهديد المتطرفين في نيجيريا، كما كان في عام 2015. ورغم أن الدول الغربية قدمت مساعدة أمنية لنيجيريا فور انتهاء عمليات الاختطاف، التي تمت سنة 2014، مما يشير إلى اهتمام أوسع بمكافحة الإرهاب في المنطقة، لا سيما بعد نشر الولايات المتحدة 300 جندي في الكاميرون بعد إعلان «بوكو حرام» مبايعته لـ«داعش» سنة 2015. غير أن التقارير تفيد بأن الولايات المتحدة برمجت تقليص قواتها في المنطقة، غرب أفريقيا، في أفق عام 2019.
وفي ظل هذا الوضع، يعمل تنظيم أبو مصعب البرناوي، بشكل سريع، على تسريع توسيع سيطرته على المناطق الريفية، واستعادة الأراضي التي احتضنها «بوكو حرام»، إما عن طريق التفاوض أو المواجهة المسلحة. وبما أن التنظيم يحقق مكاسب كبيرة على المستوى الميداني، فقد شجعه ذلك على طرد الجيش النيجيري من مناطق مختلفة، مركزاً على شمال شرقي نيجيريا، وهي المناطق التي تكون فيها قوات الجيش والأمن ضعيفة. وقد هاجم التنظيم أكثر من ثماني عشرة قاعدة، منذ منتصف عام 2018، واستولى على المعدات والمركبات والرهائن.
ويرى، الباحث المتخصص في قضايا الأمنية لبحيرة التشاد جيمس بارنيت، أن هذا التفوُّق القتالي أدى بدوره إلى نزوح مئات الجنود النيجيريين شمال شرقي البلاد، حيث يواجهون عمليات انتشار موسعة، ومعدات غير كافية، ورواتب مخجلة. وهو ما يؤدي إلى سهولة استيلاء التنظيم على بلدان ومناطق في شمال شرقي نيجيريا، أواخر عام 2018، وسيصبح قريباً قوياً بما يكفي للاحتفاظ بها. رغم أن هذا السيناريو يصعب تصديقه فإن التنظيم قادر على تحقيقه.
أضف إلى ذلك أن مجتمعات منطقة بحيرة تشاد عانت من نتائج الصراع، ومن المرجّح أن يذعن كثير منها لاحتلال تنظيم «أنصارو» مقابل إنهاء القتال. ومع وجود مناطق موسعة، يستغلها التنظيم، في شمال شرقي نيجيريا من شأنه أن يعزز شرعية «أنصارو»، ويسمح له بتوجيه الهجمات عبر نيجيريا، وضد المصالح الغربية في المنطقة.
قد يستفيد التنظيم من سلوك قوات الأمن النيجيرية التي أصبحت أكثر عنفاً مما كانت عليه قبل أربع سنوات. ومن تركيز الجيش أكثر على جنوب شرقي نيجيريا بسبب وجود النفط، وأهميته الاقتصادية. كما أن الحكومة تعاني من شح الموارد، وازدياد طلبات السكان، الشيء الذي دفعها لتبني رد عسكري على عُنف المزارعين في عام 2018. كما أن الحرب الأهلية الناشبة في الكاميرون المجاورة ستكون تحدياً جديداً لنيجيريا وقواتها المسلحة.
بكلمة، يبدو أن هذا الوضع العام يساعد أبو مصعب البرناوي، على المضي قدماً في تأسيس «دويلة متشددة» في الشمال الشرقي لنيجيريا، أكبر تجمُّع بشري واقتصادي بأفريقيا. وبالإضافة للعوامل المذكورة أعلاه، فإن الاضطرابات وعدم الاستقرار بدولة الكاميرون المجاورة، تسهل الحركة وتجنيد مزيد من العناصر للقتال. ويشير إلى ذلك رئيس أركان الدفاع الجنرال رينيه كلود ميكان حين قال: «عام 2019 سيشهد نضال الكاميرون من أجل الوحدة الوطنية وسلامة الأراضي». وأضاف أن «جماعة (بوكو حرام)، وهي جماعة إرهابية إسلامية مقرها نيجيريا تجنّد مرة أخرى مقاتلين في الكاميرون وتهاجم حدودنا الشمالية. وفي الوقت نفسه، قام الانفصاليون الذين يقاتلون لإنشاء دولة تتحدث الإنجليزية بتجنيد مرتزقة من دول مجاورة لزعزعة استقرار الكاميرون».

* أستاذ زائر للعلوم السياسية - جامعة محمد الخامس


مقالات ذات صلة

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)
شؤون إقليمية عناصر من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا في شمال سوريا (إعلام تركي)

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تواجه رفضاً روسياً وغموضاً أميركياً

تصاعدت التصريحات التركية في الفترة الأخيرة حول إمكانية شن عملية عسكرية جديدة تستهدف مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شمال سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.