«داعش» والطريق إلى المجهول

مستقبل التنظيم بعد الاندحار في سوريا

أطفال ونساء سوريون يفرون من جحيم التنظيم الإرهابي في دير الزور (أ.ف.ب)
أطفال ونساء سوريون يفرون من جحيم التنظيم الإرهابي في دير الزور (أ.ف.ب)
TT

«داعش» والطريق إلى المجهول

أطفال ونساء سوريون يفرون من جحيم التنظيم الإرهابي في دير الزور (أ.ف.ب)
أطفال ونساء سوريون يفرون من جحيم التنظيم الإرهابي في دير الزور (أ.ف.ب)

قبل نحو أسبوعين وأمام مؤتمر التحالف الدولي ضد «داعش» في واشنطن، توقع الرئيس الأميركي دونالد ترمب أن يعلن رسمياً استعادة جميع الأراضي التي كان «داعش» يسيطر عليها في العراق وسوريا. وتستدعي تصريحات الرئيس ترمب مراجعة عميقة لأهميتها، لا سيما أن مسألة المواجهة العملياتية المسلحة ضد «داعش» ليست فقط معارك عسكرية، ولكنها مسألة كما يقال قتلت بحثاً، وإنما الأهم في المشهد هو أن تلك الأمنيات القلبية الترمبية تنافي وتجافي كل القراءات الاستخبارية الأميركية، عطفاً على تقرير البنتاغون الذي أعلن عنه الجمعة الماضي، وجميعها يذهب إلى التحذير من عودة أشد شراسة للدواعش.

السؤال الآن: «هل حديث ترمب غطاء كلامي يبرر له في عيون ناخبيه قضية انسحابه من سوريا في الأيام القليلة المقبلة، لا سيما أن الأخبار المتواترة من واشنطن تشير إلى أن جلاء القوات الأميركية من الأراضي السورية بنهاية أبريل (نيسان) المقبل؟».
الشاهد أن الرئيس ترمب، وعلى صعيد كثير من القضايا الاستراتيجية الداخلية يمضي في طريق مغايرة للقوى الضاربة فكرياً في إدارته، وفي المقدمة منها قوى المجتمع الاستخباري، لا سيما بعد حديث دان كوتس مدير الاستخبارات الوطنية في البلاد نهار الثلاثاء 29 يناير (كانون الثاني) 2019، حين أشار إلى أن «داعش» يمتلك آلافاً من المقاتلين في العراق وسوريا، كما أن له 8 فروع، وأكثر من 12 شبكة، وآلاف المناصرين المنتشرين حول العالم، رغم خسائره الجسيمة في القيادات والأراضي.
ولم يكن تصريح دان كوتس هو الوحيد من نوعه في هذا السياق، فقد سبقه تصريح آخر للجنرال فرانك ماكنزي، جنرال النجوم الأربعة الذي ستناط به مسؤولية قيادة القوات الأميركية في الشرق الأوسط، وقد كان ذلك خلال جلسات الاجتماع في مجلس الشيوخ، التي تسبق تعيين كبار موظفي دولاب الدولة الأميركية، ويومها قال ما نصه إن «تنظيم داعش، ربما لا يزال أكثر قدرة من تنظيم (القاعدة في العراق) وقت عنفوانه، ومع ذلك لا يزال الرئيس ترمب يرى أن (داعش) قد سحق ومحق إلى غير رجعة، وأن خلافته إلى زوال، الأمر الذي أثبتت الأيام زيفه، وها هو (داعش) يخرج من شرنقة انتصارات بوش».
عطفاً على التصريحين المتقدمين بدا واضحاً في الداخل الأميركي أن هناك من العقلاء من يرى في التصرفات الترمبية مسألة كارثية تقود إلى ضرر عام للمسرح العالمي، وليس للولايات المتحدة الأميركية فقط، فالإرهاب الذي يرعاه «داعش» إرهاب معولم. من تلك الأصوات السيناتور الأميركي جاك ريد عضو لجنة الخدمات المسلحة، الذي كان له رأي أكد فيه خطورة موقف ترمب حين قال إن «الأسلوب المتعجل والمفكك الذي صدر فيه هذا الإعلان، يظهر حالة من الفوضى، ويقدم دليلاً جديداً على عدم قدرة ترمب على قيادة المسرح العالمي، ذلك أن تغريدته بأنه هزم داعش، لن تجعلنا أكثر أماناً».
أحد الأسئلة المثيرة للقلق تجاه ما يجري في إدارة ترمب هو ذاك المتصل بوزير خارجيته مايك بومبيو، والقادم من عالم مجمع الاستخبارات الأميركية، فكيف له أن ينحاز إلى وجهة نظر ترمب، ويقر بأن «99 في المائة من الأراضي الواقعة تحت سيطرة (داعش) قد تحررت، وهذا هو المكافئ الموضوعي لهزيمة (داعش) المطلقة على الأرض».
يطرح موقف الرئيس الأميركي ترمب من مستقبل «داعش» علامة استفهام واسعة بدورها حول العلاقات القديمة والجديدة بين الدولة الأميركية العميقة، وجماعات الإسلام السياسي، وما بينهما من رباطات ووثاق قوي.
هل يحضر ترمب مفاجأة لإيران في العراق؟ لا نقول إن السؤال هو ضرب من ضروب المؤامرة الكونية، لكنه في كل الأحوال يفتح أعيننا على الخطط الأميركية في الداخل العراقي من أجل مواجهة ومجابهة إيران، وهي الهدف الاستراتيجي الأكبر والأهم بالنسبة للرئيس الأميركي.
شيء ما مثير للتأمل يحدث على الحدود العراقية - السورية، وذلك منذ أعلن ترمب نيته سحب القوات الأميركية من سوريا، ويتمثل في المحاولات المكثفة اليومية من قبل عناصر «داعش» في سوريا، بالفرار إلى الداخل العراقي، ما يعني أن هناك فكراً جديداً ومثيراً يتصل بإعادة تشكيل خلايا «داعش» في العراق، بعد الانسحاب الأميركي من سوريا، وفي هذا سر غير معروف، ذلك لأنه وفقاً لما هو معلن، فإن القوات الأميركية تحارب «داعش»، وعليه يجب أن تكون خطة الدواعش هي العودة للأراضي السورية، بعد أن تفرغ من الوجود الأميركي عليها، لكن أن تترك سوريا حيث لا أميركيين، وتتوجه إلى العراق، التي يوجد فيها الجيب الأميركي بكثافة، ففي الأمر لغز يحتاج إلى إمعان النظر في الاستراتيجيات الأميركية الماورائية.
الهواجس التي تنتاب العاملين في مجال التحليلات الاستراتيجية والأمنية بالنسبة للولايات المتحدة، وتشابكات وتقاطعات علاقتها مع جماعات الإسلام السياسي بكل أطيافها؛ العنيف منها، والذي يرفع رايات السلمية مزيفة، إلى حين التمكين، ربما شاغبت بعض العقول في العراق، الجار الجغرافي لسوريا.
في هذا الإطار، اتهم قائد قوات «الحشد الشعبي» في لواء «الطفوف» أحمد نصر الله، القوات الأميركية، بأنها تساعد التنظيم الإرهابي، وتستهدف في أحيان كثيرة منظمة «حزب الله» الإيرانية، التي تعتبرها واشنطن منظمة إرهابية.
ويضيف اللواء أحمد نصر الله أن «الهجمات تأتي من اتجاه الأميركيين أكثر من أي وقت مضى... وأن هدفهم من وراء ذلك هو زعزعة استقرار المنطقة، حتى يمكنهم تبرير وجودهم المستمر هنا».
قبل نحو أسبوعين كان الجميع يترقب تقرير مكتب المفتش العام في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، الخاص بإشكالية انسحاب القوات الأميركية من سوريا، والمعروف أن ذلك الانسحاب لم يرُق للجنرالات، وأن التأخير الذي حدث سببه الرئيسي إقناع جنرالات العراق لترمب، بوقف التسرع، لما سيسببه من خسائر للوجود الأميركي المسلح في الإقليم برمته، عطفاً على الخسائر الأدبية والسياسية التي ستنجم من جراء فقدان الأصدقاء والحلفاء ثقتهم في واشنطن، وهي ثقة ليست عالية في جميع الأحوال. وفي أثناء الانتظار لصدور التقرير، كان مكتب المفتش العام للبنتاغون كذلك يصدر تحذيراً من تبعات الاستراتيجية الأميركية في أفغانستان، ويشير إلى أن سلطات كابل تتخوف من تمكن حركة طالبان من إعادة السيطرة على البلاد كاملة فيما لو جرى التوصل إلى تسوية معها... ثم ماذا بعد صدور التقرير؟ نهار الجمعة 8 فبراير (شباط)، خرج التقرير المرتقب إلى النور، كاشفاً قيام «داعش» بإعادة تشكيلاته في العراق بوتيرة أسرع مما في سوريا، ومحذراً من أن نحو 50 مقاتلاً من الأجانب ينضمون شهرياً للتنظيم الإرهابي.
كان موقع «إكسبريس لايف» البلجيكي، من أكثر المواقع الإعلامية رغبة وقدرة في تقريره الأخير، حذر من أن أي انسحاب للقوات الأميركية من المنطقة، يمكن أن يسمح للتنظيم المتشدد باستعادة الأرض بسرعة، وأن غياب الضغط العسكري المستمر، يمكن أن يتيح لـ«داعش»، استعادة أراضٍ واسعة في غضون 6 أو 12 شهراً... هل يعمد «داعش» بالفعل في المنطقة إلى إحياء نفسه بنفسه؟ وإذا كان يفعل ذلك، فمن أين له التمويل اللازم بعد أن فقد معظم مصادره المالية، خصوصاً في سوريا؟ بحسب تقرير وزارة الدفاع الأميركية، فإن التنظيم الإرهابي يقوم في الوقت الحالي بتجديد وظائف وقدرات حاسمة بشكل أسرع في العراق منه في سوريا، وأنه لا تزال لديه إمكانات تدر عليه دخلاً كبيراً... كيف ذلك؟
قبل الجواب الخاص بالإشكالية المالية لـ«داعش»، قد ينبغي أن نشير إلى تقرير آخر سبق تقرير البنتاغون، والصادر عن وكالة «بلومبرغ»، الذي أشار إلى أن «داعش» يستعد للظهور مجدداً بعد أن خسر الأراضي التي كان يسيطر عليها، وقد تحول التنظيم من السيطرة على الأراضي إلى تكتيكات المتمردين قبل التفجيرات وهجمات القناصة والاغتيالات، وهي التكتيكات نفسها التي استخدمتها التنظيمات الإرهابية في السابق لتقويض الثقة في الحكومة، وإثارة الانقسامات في أعقاب الغزو الأميركي للعراق في عام 2003. وعودة للجواب عن السؤال المتقدم الخاص بالأحوال المادية لـ«داعش»، فعلى الرغم من أن خزانة التنظيم قد خسرت مئات الملايين من الدولارات بعدما انعدمت سيطرته على الأراضي وآبار النفط التي كانت بحوزته، وحقول دير الزور النفطية، تحول «داعش» إلى شبكة إرهابية تحت الأرض، وتمكن من ابتكار مسارب جديدة للحصول على أموال، وقد تسلل أعضاء التنظيم الإرهابي إلى أعمال تجارية لها مشروعية ظاهرية مثل البناء، وتحويل الأموال، ومصايد الأسماك، وفي هذه وغيرها تم استثمار مزيد من الأموال القذرة، عطفاً على عمليات تهريب الأموال عبر الحدود والقائمة حتى الساعة.
والشاهد أن الرئيس الأميركي لا يمكنه أن يحاجج بالقول إن «داعش» قد قضي أمره مرة وإلى الأبد، فالتنظيم الذي أضحى منظومة فكرية، قادر على شن هجمات إرهابية موجعة حول العالم، عبر أنصار ومريدين غير ظاهرين، أولئك المعروفين بـ«الذئاب المنفردة»، الأمر الذي رصدته مؤسسة «راند» الأميركية، العقل المفكر لوزارة الدفاع الأميركية، التي ترى أن «داعش» لديه من الأموال ما يكفي لدعم الهجمات المتفرقة في الخارج لسنوات مقبلة، لا سيما أنه بعد أن كان للتنظيم أذرع إعلامية واضحة ومؤثرة، تحول إلى استخدام التطبيقات ومواقع تتبع جماعات متطرفة أخرى لنشر الرسائل المشفرة لأعضاء التنظيم.
يعن للمرء مساءلة الرئيس ترمب: «كيف له أن يغمط النظر إلى إرهاب داعش حول العالم، وأحدث فعاله المنكرة ما جرى في الفلبين أخيراً؟».
يوماً تلو الآخر، يبعث التنظيم برسائل للعالم يفيد فيها بأنه قادر على إيجاد حواضن بشرية إرهابية جديدة توقع أكبر ضرر في الآمنين، والدليل الهجومان الأخيران اللذان شنتهما إحدى المجموعات الموالية له، واستهدفا كاتدرائية بمدينة جولو بمقاطعة سولو التي تقع على بعد ألف كيلو جنوب العاصمة الفلبينية مانيلا في 27 يناير 2019، ما أسفر عن قتل 27 شخصاً بينهم 20 مدنياً و7 جنود، وإصابة ما يقرب من 80 آخرين بجراح مختلفة.
«داعش» يتحول إلى رمز وفكرة، يسعى أتباعه في أفغانستان إلى امتلاك الأرض، ولهذا فإنه بحسب الأمم المتحدة، فإن 52 في المائة من مجمل العمليات الإرهابية هناك مسؤول عنها التنظيم الإرهابي.
وفي مصر وفي ليبيا، تنشط الجماعات الماضية في الطريق نفسها، وأوروبا اكتوت ولا تزال بنارها، وأفريقيا مرشحة لأن تصبح ملعباً جديداً لصراعات «داعش»، أما روسيا فستصبح الميدان الأحداث في العام الجديد، فيما الولايات المتحدة لا تقطع أبداً بأن الإرهاب الداعشي على أراضيها قد انتهى إلى غير رجعة.
ما استراتيجية ترمب تجاه «داعش»؟
قد توجد إجابة حال كانت هناك استراتيجية بالفعل، لكن من الواضح أن الشقاق الأميركي الداخلي، خصوصاً بعد تقرير البنتاغون، يؤكد لنا أن قرارات الرئيس ترمب هدفها السياسي إعادة انتخابه ثانية في 2020 حتى إن سمح ذلك لـ«الدواعش» مرة أخرى، إن لم يكن في جعبته كثير من الأوراق السرية الخفية.


مقالات ذات صلة

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)
شؤون إقليمية عناصر من الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا في شمال سوريا (إعلام تركي)

العملية العسكرية التركية في شمال سوريا تواجه رفضاً روسياً وغموضاً أميركياً

تصاعدت التصريحات التركية في الفترة الأخيرة حول إمكانية شن عملية عسكرية جديدة تستهدف مواقع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) في شمال سوريا.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)

«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
TT

«حزب الله» العراق... صورة حول الفرات بأهداف تتجاوز الأصل اللبناني

أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)
أعلام صفر لـ«كتائب حزب الله» العراق خلال مشاركتها في إحدى الفعاليات (الشرق الأوسط)

ارتبط مسمى «حزب الله» بنوعين؛ أعلام صفراء في لبنان، وحسن نصر الله أمين عام حزب الله، لبنان، لكن النوع العقائدي الأكبر خطورة يسير في دماء العراق، حزب هو بذات الاسم، عقائديون أكبر أثراً في سفك الدماء، حيث يرعون الأمر أكبر من مجرد حزب أصفر له الضاحية الجنوبية في لبنان؛ مسكن ومقر ومشيعون.
بين دجلة والفرات، حزب يسمى كتائب «حزب الله العراق»، له أكثر من 13 عاماً وهو في تشكيله الحالي، ليس بالهين عوضاً عن ميليشيات «الحشد الشعبي» التي أخذت كل الوهج الإعلامي كونها مرتبطة بنظام إيران، لكن «حزب الله العراق» وكتائبه تمر في أزقة السواد وبأخطر من دور ميداني تمارسه «الحشد الشعبي»، لأن العقائدية ونشرها أشد خطورة من ميدان يتقهقر فيه الأضعف، نظراً للضربات الآمنة التي يقودها الحلفاء أولو القوة من غرب الأرض لوقف تمدد النزيف، دائماً ما يكون مصنع الوباء يمر بحزب الله العراق.

قبل أشهر، كان الحزب تعرض لواحدة من أعنف الغارات على مواقعه، بعد هجوم صاروخي استهدف قاعدة التاجي في العراق، وقتل فيها جنديين أميركيين وبريطانياً، وجاء الرد خلال ساعات قليلة بفعل غارات أميركية - بريطانية مشتركة، ضد منشآت لميليشيات حزب الله العراقي في محافظتي بابل وواسط ومنطقة سورية محاذية للحدود العراقية.
نظرة سريعة على حزب الله العراق، من التاريخ، كان عماد مغنية (قتل في 2008 بغارة إسرائيلية في دمشق) الإرهابي اللبناني التابع لإيران، وحزب الله لبنان، كان أحد صنّاع هيكل هذا الحزب في العراق، حيث بدأ في العمل وفقاً لتوجيهات وأوامر نظام الملالي في تكوين حزب يشبه حزب الله اللبناني، وهو ما يبدو أن الأوامر جاءته في تجويد هذا الحزب ليكون بذراعين: عسكرية وعقائدية، ويبدو أن مغنية تجاوز أخطاء عديدة في تشكيل ووهج حزبه اللبناني، فصنع بهدوء هيكلة مختلفة للحزب، جعلت كل المساجد والحسينيات وقوداً يضخ فيها البذور التي يرغبها أولو العمائم.
ظهر الحزب بحضوره الأول بقوام تجاوز 4 آلاف شخص، منتمين بعضويات عدة داخله، وتنامى العدد حتى قبل تصنيف الولايات المتحدة له كـ«تنظيم إرهابي»، لكنه جعل دوره التسويقي للحشد والتنظيم أكبر من مجرد عسكرة، بل فكرة أكثر ارتباطاً في نشر آيديولوجيا عبر مواقع عدة، ومنها تفريخ عناصر في قطاعات مهمة داخل العراق؛ منها وزارة التعليم ووضع لبنات التعاون مع أحزاب دينية؛ منها «الحزب الإسلامي» الذي يتغذى بمنهج الإخوان المسلمين.
ربما ما يدور أن الحزب هو جزء في تكوين «الحشد الشعبي» لكن ذلك يمر بتقاطعات، حيث يشير عبد القادر ماهين، المتخصص في شؤون التنظيمات الإرهابية، إلى أن الحزب يظهر كونها جزءاً من تكوين الحشد، لكنه جزء يصنع الكعكة الميليشياوية ويشارك في تسميمها ويعمل على توزيعها في المناطق المجاورة.
يشير ماهين في اتصال هاتفي مع «الشرق الأوسط» إلى أنه لا أمين عاماً للحزب أسوة بحزب الله اللبناني، حيث يظهر فيه حسن نصر الله، مبرراً ذلك أن الفرق بين تكوين الحزبين هو الحاجة والدور، حيث يتمركز في جنوب العراق بعتاد عسكري، له هدف في وضع حضور طاغٍ يحاول تفخيخ الحدود، لأن الهدف يرتبط مع إمبراطورية إيران الكبرى الممتدة، ولا يظهر له الأثر السياسي كممثلين له كما هو الحزب اللبناني ليكون أثره في تشكيل الحكومات والبرلمانات.

إذن ما الدور الذي يلعبه الحزب؟

الحزب كما يرى ماهين، أنه ذو دور عسكري في الأصل، لكن الترتيبات ما بعد 2009 جعلته أكثر قدرة في تكوين فريق احتياط عسكري ليس أكثر وفق الحاجة، يدعم التوجهات والسياسات الإيرانية، لكن ما أخل بتلك القاعدة مشاركته المباشرة في دعم نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وأصبح أكثر من 4 أو 5 آلاف جندي مشاركين في السيطرة على مدن سورية تحت إمرة إيران في سوريا التي تتشكل من 4 فصائل مسلحة.
الحزب ليس عسكرياً فقط؛ كان ولا يزال صاحب دور في الترويج العقائدي، وتصوير الحضور الإيراني بشكل إيجابي مزعوم، إضافة إلى عمله الاقتصادي، حيث يدخل عناصره الكبرى في مفاصل مهمة في الاقتصاد العراقي، من شركات اتصالات وشركات نفطية، وأخرى ذات علاقة بقطاع الطيران، وإدارة المطارات والمنافذ، وبعض الأشخاص أبرزهم هادي العامري الذي كان صاحب صولات وجولات حين حمل حقيبة وزارة النقل العراقية في وقت سابق، وكان أبرز مهددي الاستمرار الكويتي في بناء ميناء مبارك الكبير، حيث هددت كتائب الحزب الشركات من الاستمرار بالعمل، وحينها ظهر العامري بأن ذلك المشروع «يغلق القناة الملاحية لموانئ العراق».
مرحلة مختلفة ظهرت، حين عاودت الآلة العسكرية الحزبية لكتائب حزب الله العراق، بالعمل من خلف الصفوف، حيث كانت أبرز مهددي السفارات وأكثر ملغمي مسارات الحلول السياسية، بل ومن رمى بقادة العراق اليوم في تحدي أن يرضخوا أمام شعب بدأ في كراهية الحضور الإيراني، وكان الحزب أبرز علامات استهداف المتظاهرين في العراق في كل البلاد، بغية كسر حدة السيوف الشعبية لتصبح مجرد مقبض دون رأس حربة كي يحافظ الحزب على الوجود الإيراني، خصوصاً أنه أبرز متلقٍ للأموال من نظام إيران وأكثرها غناءً.
الدور الاقتصادي لكتائب حزب الله العراق أصبح أكثر وضوحاً، حيث كان أكبر المنتفعين في عام 2015، من «الفدية القطرية» التي وصلت إلى أكثر من مليار دولار، مقابل إطلاق سراح قطريين كانوا يقضون وقتهم في الصيد جنوب العراق، ورغم أن الأنباء قالت إن الخاطفين لعدد من أبناء الأسرة الحاكمة القطرية ومعاونيهم الذي بلغ 28 شخصاً، كانوا من تنظيم «داعش»، لكن التقارير المسربة لاحقاً في بدايات 2016 حيث جرى تخليصهم وعودتهم إلى قطر، كانوا يتبعون لكتائب حزب الله العراق، وهو ما ينافي الرواية الرسمية القطرية التي تقول إنها دفعت المبلغ للحكومة العراقية.
الدور المستقبلي لن ينفك عن منهجية تتقاطع مع حزب الله اللبناني، حيث لدى الحزب اليوم الرؤى ذاتها، خصوصاً في اعتماد سياسة «افتعال الأزمات»، كي لا ينكسر الحضور الإيراني ونفوذه في المؤسسات الدينية وبعض السياسية، التي يجد فيها بعضاً من رجاله الذين يقبعون في سياسة تخفيف الضغط على النظام السياسي ومحاصصته التي تستفيد منها ميليشيات إيران في العراق، وما بعد مقتل قاسم سليماني، غربلة يعيشها الحزب الذي يجرب يوماً بعد آخر أسلوب التقدم خطوة بخطوة، مستفيداً من تكتيك الفأر في نشر طاعون على أرض هي الأهم لإيران.