«السرد القصصي الرقمي»... نداء الصحافي الشامل

تجارب لافتة في «السرد القصصي الرقمي» تؤكد عمق التناول وبراعة الصحافي في تجسيد القضية
تجارب لافتة في «السرد القصصي الرقمي» تؤكد عمق التناول وبراعة الصحافي في تجسيد القضية
TT

«السرد القصصي الرقمي»... نداء الصحافي الشامل

تجارب لافتة في «السرد القصصي الرقمي» تؤكد عمق التناول وبراعة الصحافي في تجسيد القضية
تجارب لافتة في «السرد القصصي الرقمي» تؤكد عمق التناول وبراعة الصحافي في تجسيد القضية

مع التطور التكنولوجي الجديد والتعاطي الدائم من قبل الجمهور مع المحتوى التفاعلي عبر الشاشات اللوحية، تغير مفهوم الإعلام الجماهيري الذي ينقل المعلومات والقصص عبر المحتوى الورقي المطبوع. وأصبح المحتوى شاملاً للصوت والصورة والمعلومات المكتوبة والإنفوغراف والفيديوغراف. ويعد الفيلم الوثائقي هو الأساس لفكرة «السرد القصصي الرقمي»؛ لكن بشكل أكثر تكثيفاً واحترافية في توصيل الفكرة، أو طرح قضية ما في زمن قصير، والتركيز على زاوية واحدة من القضية لإثارة النقاش حولها أو للتعبير عن تطور تاريخي ما، أو استشراف مستقبل مجتمع خصوصاً في ما يتعلق بقضايا البيئة والتطور العلمي وقضايا المهاجرين واللاجئين... وغيرها.
ولعل من أهم مزايا «السرد القصصي الرقمي» أن الصحافي يتمكن من نقل المشاعر والتفاعلات الإنسانية بالصوت والصورة لا بالكلمات فقط، كما أنه يستطيع أن يتابع تفاعل الجمهور والمتلقين عبر وسائل التواصل الاجتماعي والشبكات الاجتماعية التي فتحت المجال أمام صناع الإعلام للإبداع في المحتوى والتنافس على جذب أعضاء هذه الشبكات.
لكن تكمن السلبية الوحيدة في كون هذا النوع من السرد المكثف، قد لا يتسع عبره المجال أمام الصحافي لطرح كل الخلفية التاريخية والمعلومات المرجعية لقضيته، وهو ما يدفع بالكثير من صناع المحتوى الرقمي إلى تضمين موادهم روابط تفاعلية لصفحات تتضمن المزيد من المعلومات والإحصائيات التي تساعد المتلقي على تكوين الصورة كاملة والتعرف على أبعاد القضية.
تقول الإعلامية روان الضامن، المستشارة الإعلامية المتخصصة في العمل الوثائقي والبرامجي التلفزيوني والرقمي، لـ«الشرق الأوسط»، إن «هذا المجال يعد حقلاً جديداً في عالم الصحافة والإعلام، فعمره أقل من 10 سنوات، حيث ظهرت إشكالية الارتباط الدائم بالعالم الرقمي».
ويرى خبراء أنه قد يكون «السرد القصصي الرقمي» مكلفاً في بعض الأحيان ويتطلب الكثير من الوقت والجهد؛ لكن مع التطور التكنولوجي أصبح في متناول الصحافي المستقل أن يطوِّر إمكاناته ويستخدم المنصات الرقمية المتنوعة والتطبيقات الإلكترونية في تطوير قصص رقمية تحقق له انتشاراً، وبتكلفه قليلة سواء كانت ذات مضمون اقتصادي أو اجتماعي أو ثقافي أو ترفيهي... ويبقى الأساس هو الإعداد الجيد للقصة، وأساسيات إنتاجها، والاطلاع على أنواع السرد القصصي الرقمي، وكيفية تنفيذها، مع تنمية مهاراته في كتابة المحتوى المصاحب لقصته المصورة «الاسكريبت».
ويعد الصحافي الأميركي كين بيرنز، أول من مهّد طريق «السرد القصصي الرقمي» عام 1990 بسلسلة الأفلام الوثائقية «THE CIVIL WAR» التي تناول فيها الحرب الأهلية الأميركية، مضمناً المحتوى كل الأدوات المتاحة من صور فوتوغرافية إلى شهادة رواة ومتخصصين ومقاطع أفلام سينمائية وسيناريو مكتوب... كما تعد مؤسسة «بي بي سي» من أهم رواد فن السرد القصصي الرقمي التي بدأت خوض هذا المجال بمشروع «Telling Lives» في عام 2009، بينما تتنافس في المشهد الإعلامي الآن منصات ومواقع متخصصة فقط في «السرد القصصي الرقمي» والتي تستهدف شرائح جماهيرية عبر الفضاء الافتراضي مستفيدةً من تقنيات الثورة التكنولوجية الرابعة.
من جهتها، تشير روان الضامن إلى أن الصحافي الرقمي الشامل أصبح أمراً مطلوباً في المجال الإعلامي، وسيزداد الطلب عليه والحاجة إليه في وسائل الإعلام وتحديداً في مجال «السرد القصصي الرقمي»، والصحافي المتخصص سيظل موجوداً، ولكل حالة مساوئ ومحاسن، مضيفة: «هنا صانع المحتوى هو الأساس؛ لكنه قد يحتاج إلى التعاون مع فريق عمل المصمم والمبرمج، ولا بد أن يكون لديهم جلسات عمل للنقاش ولتحديد الهدف من القصة»، مشددة على أن أهم ما ينبغي التركيز عليه في أثناء الإعداد للقصة بشكل جيد هو وضوح الفكرة.
وبينما يرى البعض أن السرد الرقمي يعالج القضايا بشكل مبسط وسطحي في كثير من الأحيان؛ اعتبرت روان الضامن أن هناك تجارب لافتة في «السرد القصصي الرقمي» تؤكد عمق التناول وبراعة الصحافي في تجسيد قضيته وتحقيق الدعم لها.
ويشار إلى أن الضامن قدمت دورة تدريبية ضمن دورات مجانية تقدمها منصة «إدراك» وانضم إليها أكثر من 16 ألفاً من الصحافيين حول العالم العربي. وتتوقع الضامن أن يشهد حقل «السرد القصصي الرقمي» تطوراً كبيراً في السنوات المقبلة، ما يستدعي أن يسعى الصحافيون العرب لمواكبة هذا التطور لا سيما في أساليب سرد المحتوى. وتلفت إلى أن تطور «السرد الرقمي» في العالم العربي يعد أقل احترافية، وأقل اهتماماً وتأثيراً عنه في العالم. وحول ما إذا كان التطور في «السرد الرقمي» سوف يؤثر على الصحافة التقليدية، أكدت روان الضامن أن «كليهما سيظل مكملاً للآخر في المستقبل المنظور».



استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

إدمون ساسين (إنستغرام)
إدمون ساسين (إنستغرام)
TT

استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

إدمون ساسين (إنستغرام)
إدمون ساسين (إنستغرام)

تلعب وسائل الإعلام المرئية المحلية دورها في تغطية الحرب الدائرة اليوم على لبنان.

نوع من «التجنيد الإجباري» فرضته هذه الحالة على المحطات التلفزيونية وموظفيها ومراسليها، فغالبيتهم يمضون نحو 20 ساعة من يومهم في ممارسة مهامهم. وبعضهم يَصِلون ليلهم بنهارهم في نقل مباشر وموضوعي، وآخرون يضعون دمهم على كفّ يدهم وهم يتنقلون بين مناطق وطرقات تتعرّض للقصف. أما رؤساء التحرير ومقدِّمو البرامج الحوارية اليومية، فهم عندما يحوزون على ساعات راحة قليلة، أو يوم إجازة، فإنهم يشعرون كما السمك خارج المياه. ومن باب مواقعهم ومسؤولياتهم الإعلامية، تراهم يفضلون البقاء في قلب الحرب، وفي مراكز عملهم؛ كي يرووا عطشهم وشهيّتهم للقيام بمهامهم.

المشهدية الإعلامية برمّتها اختلفت هذه عن سابقاتها. فهي محفوفة بالمخاطر ومليئة بالصدمات والمفاجآت من أحداث سياسية وميدانية، وبالتالي، تحقن العاملين تلقائياً بما يشبه بهرمون «الأدرينالين». فكيف تماهت تلك المحطات مع الحدث الأبرز اليوم في الشرق الأوسط؟

الدكتورة سهير هاشم (إنستغرام)

لم نتفاجأ بالحرب

يصف وليد عبود، رئيس تحرير الأخبار في تلفزيون «إم تي في» المحلي، لـ«الشرق الأوسط»، حالة الإعلام اللبناني اليوم بـ«الاستثنائية». ويضيف: «إنها كذلك لأننا في لبنان وليس عندنا محطات إخبارية. وهي، بالتالي، غير مهيأة بالمطلق للانخراط ببث مباشر يستغرق ما بين 18 و20 ساعة في اليوم. بيد أن خبراتنا المتراكمة في المجال الإعلامي أسهمت في تكيّفنا مع الحدث. وما شهدناه في حراك 17 أكتوبر (تشرين الأول) الشعبي، وفي انفجار مرفأ بيروت، يندرج تحت (الاستنفار الإعلامي) ذاته الذي نعيشه اليوم».

هذا «المراس» - كما يسميه عبود - «زوّد الفريق الإخباري بالخبرة، فدخل المواكبة الإعلامية للحرب براحة أكبر، وصار يعرف الأدوات اللازمة لهذا النوع من المراحل». وتابع: «لم نتفاجأ باندلاع الحرب بعد 11 شهراً من المناوشات والقتال في جنوب لبنان، ضمن ما عرف بحرب المساندة. لقد توقعنا توسعها كما غيرنا من محللين سياسيين. ومن كان يتابع إعلام إسرائيل لا بد أن يستشفّ منه هذا الأمر».

جورج صليبي (إنستغرام)

المشهد سوريالي

«يختلف تماماً مشهد الحرب الدائرة في لبنان اليوم عن سابقاته». بهذه الكلمات استهل الإعلامي جورج صليبي، مقدّم البرامج السياسية ونشرات الأخبار في محطة «الجديد» كلامه لـ«الشرق الأوسط». وأردف من ثم: «ما نشهده اليوم يشبه ما يحصل في الأفلام العلمية. كنا عندما نشاهدها في الصالات السينمائية نقول إنها نوع من الخيال، ولا يمكنها أن تتحقق. الحقيقة أن المشهد سوريالي بامتياز حتى إننا لم نستوعب بسرعة ما يحصل على الأرض... انفجارات متتالية وعمليات اغتيال ودمار شامل... أحداث متسارعة تفوق التصور، وجميعها وضعتنا للحظات بحالة صدمة. ومن هناك انطلقنا بمشوار إعلامي مرهق وصعب».

وليد عبود (إنستغرام)

المحطات وضغوط تنظيم المهام

وبالفعل، منذ توسع الحرب الحالية، يتابع اللبنانيون أخبارها أولاً بأول عبر محطات التلفزيون... فيتسمّرون أمام الشاشة الصغيرة، يقلّبون بين القنوات للتزوّد بكل جديد.

وصحيحٌ أن غالبية اللبنانيين يفضّلون محطة على أخرى، لكن هذه القناعة عندهم تتبدّل في ظروف الحرب. وهذا الأمر ولّد تنافساً بين تلك المحطات؛ كي تحقق أكبر نسبة متابعة، فراحت تستضيف محللين سياسيين ورؤساء أحزاب وإعلاميين وغيرهم؛ كي تخرج بأفكار عن آرائهم حول هذه الحرب والنتيجة التي يتوقعونها منها. وفي الوقت نفسه، وضعت المحطات جميع إمكاناتها بمراسلين يتابعون المستجدات على مدار الساعات، فيُطلعون المشاهد على آخر الأخبار؛ من خرق الطيران الحربي المعادي جدار الصوت، إلى الانفجارات وجرائم الاغتيال لحظة بلحظة. وفي المقابل، يُمسك المتفرجون بالـ«ريموت كونترول»، وكأنه سلاحهم الوحيد في هذه المعركة التنافسية، ويتوقفون عند خبر عاجل أو صورة ومقطع فيديو تمرره محطة تلفزيونية قبل غيرها.

كثيرون تساءلوا: كيف استطاعت تلك المحطات تأمين هذا الكمّ من المراسلين على جميع الأراضي اللبنانية بين ليلة وضحاها؟

يقول وليد عبود: «هؤلاء المراسلون لطالما أطلوا عبر الشاشة في الأزمنة العادية. ولكن المشاهد عادة لا يعيرهم الاهتمام الكبير. ولكن في زمن الحرب تبدّلت هذه المعادلة وتكرار إطلالاتهم وضعهم أكثر أمام الضوء».

ولكن، ما المبدأ العام الذي تُلزم به المحطات مراسليها؟ هنا يوضح عبود في سياق حديثه أن «سلامة المراسل والمصور تبقى المبدأ الأساسي في هذه المعادلة. نحن نوصيهم بضرورة تقديم سلامتهم على أي أمر آخر، كما أن جميعهم خضعوا لتدريبات وتوجيهات وتعليمات في هذا الشأن... وينبغي عليهم الالتزام بها».

من ناحيته، يشير صليبي إلى أن المراسلين يبذلون الجهد الأكبر في هذه الحرب. ويوضح: «عملهم مرهق ومتعب ومحفوف بالمخاطر. لذلك نخاف على سلامتهم بشكل كبير».

محمد فرحات (إنستغرام)

«إنها مرحلة التحديات»

وبمناسبة الكلام عن المراسلين، يُعد إدمون ساسين، مراسل قناة «إل بي سي آي»، من الأقدم والأشهر في هذه المحطة. وهو لا يتوانى عن التنقل خلال يوم واحد بين جنوب لبنان وشماله. ويصف مهمّته خلال المرحلة الراهنة بـ«الأكثر خطراً». ويشرح من ثم قائلاً: «لم تعُد هناك خطوط حمراء أو نقاط قتال محددة في هذه الحرب. لذا تحمل مهمتنا التحدّي بشكل عام. وهي محفوفة بخطر كبير، لا سيما أن العدو الإسرائيلي لا يفرّق بين طريق ومبنى ومركز حزب وغيره، ويمكنه بين لحظة وأخرى أن يختار أهدافه ويفاجئ الجميع... وهذا ما وضع الفرق الصحافية في خطر دائم، ونحن علينا بالتالي تأمين المعلومة من قلب الحدث بدقة».

وفق ساسين، فإن أصعب المعلومات هي تلك المتعلقة بالتوغّل البرّي للجيش الإسرائيلي، «فحينها لا يمكن للمراسل معرفة ما يجري بشكل سليم وصحيح على الأرض... ولذا نتّكل أحياناً على مصادر لبنانية من جهة (حزب الله)، و(اليونيفيل) (القوات الدولية العاملة بجنوب لبنان) والجيش اللبناني والدفاع المدني، أو أشخاص عاشوا اللحظة. ومع هذا، يبقى نقل الخبر الدقيق مهمة صعبة جداً. ويشمل ما أقوله أخبار الكمائن والأسر، بينما نحن في المقابل نفتقر إلى القدرة على معرفة هذه الأخبار، ولذا نتوخى الحذر بنقلها».

«لبنان يستأهل التضحية»

في هذه الأثناء، يتكلم مراسل تلفزيون «الجديد» محمد فرحات «بصلابة»، عندما يُسأل عن مهمّته الخطرة اليوم.

محمد كان من بين الفريق الإعلامي الذي تعرّض لقصف مباشر في مركز إقامته في بلدة حاصبيا، وخسر يومذاك زملاء له ولامس الموت عن قرب لولا العناية الإلهية، كما يقول. ويتابع: «لقد أُصبت بحالة إنكار للمخاطر التي أتعرّض لها. في تلك اللحظة عشت كابوساً لم أستوعبه في البداية. وعندما فتحت عيني سألت نفسي لبرهة: أين أنا؟»، ويضيف فرحات: «تجربتي الإعلامية ككل في هذه الحرب كانت مفيدة جداً لي على الصعيدين: الشخصي والمهني. من الصعب أن أُشفى من جروح هذه الحرب، ولكني لم أستسلم أو أفكر يوماً بمغادرة الساحة. فلبنان يستأهل منا التضحية».

العلاج النفسي الجماعي ضرورة

أخيراً، في هذه الحرب لا إجازات ولا أيام عطل وراحة. كل الإعلاميين في مراكز عملهم بحالة استنفار. ولكن ماذا بعد انتهاء الحرب؟ وهل سيحملون منها جراحاً لا تُشفى؟

تردّ الاختصاصية النفسية الدكتورة سهير هاشم بالقول: «الإعلاميون يتعرضون لضغوط جمّة، وفي الطليعة منهم المراسلون. هؤلاء قد لا يستطيعون اليوم كشف تأثيرها السلبي على صحتهم النفسية، ولكن عند انتهاء الحرب قد يكون الأمر فادحاً. وهو ما يستوجب الدعم والمساندة بصورة مستمرة من مالكي المحطات التي يعملون بها». وأضافت الدكتورة هاشم: «ثمة ضرورة لإخضاعهم لجلسات علاج نفسية، والأفضل أن تكون جماعية؛ لأن العلاج الموسمي غير كافٍ في حالات مماثلة، خلالها يستطيعون أن يساندوا ويتفهموا بعضهم البعض بشكل أفضل».