اختارت باريس اليوم الأول من اجتماع وارسو الذي دعت إليه الولايات المتحدة الأميركية لحشد أوسع تجمع عالمي ضد السياسات الإيرانية، للإعلان عن عودة سفيرها «قريباً» إلى طهران ووصول سفير إيراني جديد إلى باريس. وهذه الإشارة الثالثة من نوعها التي تصدر عن فرنسا في الأيام القليلة الماضية والتي تعكس استمرار «الفتور» بين باريس وواشنطن بشأن الملف الإيراني. فقد سبقها قرار باريس الامتناع عن إرسال وزير خارجيتها للمشاركة في مؤتمر وارسو مكتفية بمستوى تمثيلي منخفض؛ إذ أرسلت المدير السياسي لوزارة الخارجية نيكولا ريفيير، رغبة منها في عدم «إثارة» الطرف الإيراني. أما الإشارة الأولى، ولعلها الأهم، فقد تمثلت في قرار باريس «استضافة» الآلية المالية المراد منها، بالتعاون مع بريطانيا وألمانيا، تمكين طهران من الالتفاف على العقوبات الأميركية على إيران والاستمرار في تصدير نفطها والبقاء داخل الدورة المالية العالمية. والبادرة الأوروبية جاءت على طرف نقيض مما تريده واشنطن التي دعت، أمس، على لسان نائب الرئيس مايك بنس، الدول الأوروبية إلى الانسحاب من الاتفاق النووي «لأن الوقت حان» لقرار من هذا النوع، فيما الأخيرة تعمل على حمايته.
في هذا السياق، يبدو قرار باريس بعودة سفيرها إلى طهران، الذي لم يسم رسميا بعد، بالغ الدلالة. وجاء الإعلان الفرنسي على لسان وزير الخارجية جان إيف لو دريان في شهادة له أمام لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان مساء أول من أمس. وحتى اليوم، وبسبب العلاقات المعقدة بين الطرفين، لم تعمد الحكومة الفرنسية إلى تعيين بديل عن السفير السابق فرنسوا سينيمو، الذي عينه الرئيس إيمانويل ماكرون «ممثلاً شخصياً» له للملف السوري، أواسط يونيو (حزيران) الماضي. وقالت مصادر فرنسية لـ«الشرق الأوسط» أمس إن عملية التعيين «موضع تشاور في الوقت الحاضر».
حقيقة الأمر أن ما دفع باريس إلى «تعليق» تعيين سفيرها في طهران يعود للمحاولة الإرهابية الإيرانية التي أحبطت نهاية يونيو الماضي ضد تجمع للمعارضة الإيرانية ممثلة في «مجاهدين خلق» في ضاحية فيلبانت الواقعة على مدخل باريس الشمالي. وقال لودريان لأعضاء لجنة الشؤون الخارجية إن بلاده «قدمت احتجاجا شديدا (بسبب محاولة الهجوم) ما أدى إلى تعليقنا تعيين السفير لدى إيران، وقد ردت طهران بالمثل».
لكن الأمور لم تتوقف عند هذا الحد؛ إذ إن باريس عمدت إلى تسليم الشخص الإيراني الذي قبضت عليه القوى الأمنية إلى بلجيكا التي من جانبها كانت أوقفت رجلا وزوجته كانا يحملان في سيارتهما كمية قليلة من المتفجرات.
كذلك عمدت ألمانيا، من جهتها، إلى توقيف دبلوماسي إيراني يعمل في فيينا تحوم حوله الشبهات بأنه «العقل المدبر» للعملية التي نفتها إيران بقوة. وتوترت الأمور أكثر فأكثر بين باريس وطهران بعد أن كشف النقاب عن مذكرة داخلية صادرة عن وزارة الخارجية نهاية شهر أغسطس (آب) الماضي، تدعو الدبلوماسيين الفرنسيين والموظفين الرسميين إلى عدم التوجه إلى إيران إلا «عند الضرورة القصوى».
بيد أن أهم بادرة اتخذتها باريس في هذا السياق، كانت عندما نشرت بيانا رسميا مشتركا صادرا في 2 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي عن وزارات الخارجية والداخلية والاقتصاد، يوجه الاتهام رسميا لجهاز استخباري تابع لوزارة الداخلية الإيرانية، وكذلك فرض عقوبات مالية على مواطنين إيرانيين (أسد الله أسدي وسعيد هاشمي مقدم) وعلى إدارة الأمن الداخلي في وزارة المخابرات الإيرانية. كذلك عمدت القوى الأمنية إلى القيام بعملية «استباقية» لمنع حدوث أعمال إرهابية على الأراضي الفرنسية من خلال مداهمة مقر جمعية شيعية شمال فرنسا ومنازل المسؤولين عنها في مدينة «غراند سينت»؛ حيث عثرت على أسلحة غير مرخص لها.
وتفيد المصادر الفرنسية بأن إيران وعدت باريس بإطلاعها على «عناصر موضوعية» من شأنها المساعدة على تسوية الخلافات بين البلدين بشأن هذه المسألة. وكان الرئيس ماكرون قد أثارها في اجتماعه مع الرئيس الإيراني حسن روحاني في نيويورك على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة. ويبدو أن طهران ربما وفرت أخيرا هذه «العناصر»، علما بأنها تمسكت دوما بالقول إن العملية كانت مدبرة لإجهاض جولة روحاني وقتها في أوروبا التي كان بدأها من النمسا. وقال لودريان للنواب ما حرفيته: «لكننا قريبون من الاتفاق على تسوية هذا الوضع ما دامت إيران ملتزمة بالاتفاق النووي الموقع في 2015».
رغم خطورة هذه العناصر، فإن باريس بقيت متمسكة بالاتفاق النووي وبالعمل على إبقاء إيران داخله. وتسير السياسة الفرنسية «والأوروبية» إزاء طهران على خطين: الأول، رفض السير في الركب الأميركي الذي يدفعها لاحتذاء واشنطن والخروج من الاتفاق لممارسة مزيد من الضغوط على إيران، وهو ما أعاد التأكيد عليه مايك بنس في وارسو أمس. والثاني، التزام موقف متشدد من برامج طهران الصاروخية – الباليستية، ومن سياستها الإقليمية «المزعزعة للاستقرار» وفق ما جاء في البيان الأخير للدول الثلاث الموقعة على الاتفاق النووي «فرنسا وبريطانيا وألمانيا» في 1 فبراير (شباط) الحالي بمناسبة الإعلان عن إطلاق الآلية المالية.
ومن بين الثلاث، كان موقف باريس الذي عبر عنه لودريان في 23 يناير (كانون الثاني) الماضي الأكثر بروزا؛ إذ هدد بفرض عقوبات «مشددة» «فرنسية - أوروبية» على إيران في حال لم تفض المفاوضات الجارية معها حول الملفين المذكورين إلى «نتائج ملموسة».
هكذا تتأرجح المواقف إزاء طهران بين السعي لمد طوق النجاة لها دبلوماسيا وتجاريا واقتصاديا، والتهديد بأن تحذو حذو واشنطن في اللجوء إلى العقوبات دون التخلي عن الاتفاق النووي الذي تدافع عنه بحجج أصبحت معروفة؛ مثل «منع السباق النووي في المنطقة، وإبقاء الأنشطة النووية الإيرانية تحت المراقبة،...». إنها بشكل ما «دبلوماسية بهلوانية» تجمع بين الأنقاض، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: إلى متى تستطيع أوروبا؛ وعلى الأخص البلدان الثلاثة المعنية بالدرجة الأولى، الاستمرار في هذا النهج الذي يرضي، جزئيا، في جانب منه واشنطن؛ وفي الجانب الآخر طهران؟
باريس تعمل على تعيين سفير فرنسي جديد لدى إيران وملء المنصب الشاغر منذ يونيو الماضي
باريس تعمل على تعيين سفير فرنسي جديد لدى إيران وملء المنصب الشاغر منذ يونيو الماضي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة