{قصاصات} رودان في معرض باريسي

النحات الفرنسي يلجأ إلى ملمس الورق للاستراحة من خشونة الحجر

الموديل الغافية
الموديل الغافية
TT

{قصاصات} رودان في معرض باريسي

الموديل الغافية
الموديل الغافية

في متحفه الواقع في الرقم 77 من شارع فارين في باريس، يقام معرض مدهش لأوغست رودان (1840 ـ 1917). ومصدر الدهشة أن الزائر لن يقف في مواجهة التماثيل الصلدة والقاتمة للنحات الفرنسي الأشهر في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن الماضي، بل سيطالع لوحات ذات ألوان بهيجة لتشكيلات هندسية وأجساد مرسومة بضربات من ألوان مائية. لقد استخدم الفنان طريقة تقطيع الورق بشكل منفرد أو متداخل ثم لصقه على خلفية ذات لون محايد. وهناك تخطيطات بالحبر الأسود أضافها إلى التكوينات المقصقصة لكي تكتمل الفكرة التي أرادها منها.
تبدو التشكيلات المعروضة وكأنها دراسات وتخطيطات أولية للتماثيل التي كان يستعد لها بإزميله. لكن من يتمعن فيها يجد أنها أعمال فنية قائمة بذاتها، ذات توجه حداثي مبكر، كما أنها تكشف عن ذلك الجانب الأثير لديه، وهو شغفه الكبير بالنساء. فالفنان الذي يصفه النقاد بأنه أبو النحت المعاصر، كان يحمل لقباً آخر هو «الثور المقدس»، في إشارة لفحولته وعلاقاته التي تسببت له، ولنسائه، في عدد من الفضائح والمآسي. إن المعروضات تعكس الولع الحسي والشهواني لرودان، وكأنه أنجزها في سويعات استراحته من النقر المضني في الحجر والرخام، حين ينظر لـ«الموديل» نظرة أكثر رقة، منتبهاً للون بشرتها وشعرها وعينيها. فالحجر أخرس، والقصاقيص ناطقة.
تعتبر طريقة تقطيع الورق تقنية حداثية تطورت بشكل مهم مع حلول القرن العشرين. وإلى جانب رودان، مارسها بشكل خاص النحاتون. كما ظهرت لدى رسامين كبار من أمثال هنري ماتيس وجورج براك وبيكاسو. وفي حين كان الأخيران من مبتكري تلك التقنية، فإن النحات الشهير مارسها بشكل متكتم. وفي المعرض 110 لوحات من هذه التقنية، بينها 3 فقط بالتقنية التقليدية للرسم وسبق عرضها من قبل. وتلفت النظر لوحات مرسومة بالأكواريل، أو جرى تشكيلها من صور فوتوغرافية جرى الاشتغال عليها بالحبر. كما خرجت من خزائن متحف رودان تلك الأقنعة القديمة أو اليابانية المشغولة من الورق المقصوص، التي تلقاها الفنان هدايا من زملائه. وهو قد حاول تقليدها أحياناً.
انشغل رودان بتقنية القصاصات بين 1880 و1889، كان يلتقط قطعاً من الملصقات الدعائية وعبوات كرتونية للتغليف، ثم يقوم بتقطيعها في أشكال من وحي مخيلته، ويلصقها بالصمغ على ورق أكبر مساحة، مؤلفاً منها تشكيلات تستدعي تنشيط الخيال. وفيما بعد، أي في عام 1897، جمع الفنان تلك الأعمال ونشرها فيما سمي «ألبوم فوناي»، نسبة إلى موريس فوناي، الصناعي وعضو أكاديمية الفنون الذي كان من كبار جامعي الأعمال الفنية في فرنسا.
كما يتلهى الأطفال بالدمى، كان رودان يجد ملهاته في تلك القصاصات الكرتونية التي ينتقيها من لا شيء ليبدع منها صوراً ذات قيمة فنية. وهنا يمكن للمشاهد أن يتساءل: «هل كل ما يخربشه فنان مشهور هو فن خالص يستحق هذه التسمية؟». وبعبارة أخرى: هل يكفي أن يمهر رودان بإمضائه أي ورقة لتصبح ذات قيمة فنية وبالتالي مالية؟ الجواب في هذا المعرض لا يقبل الشك. إن متعة النظر لا يمكن أن تتحقق من اللاشيء.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».