وهم ديمقراطية المعرفة

عن الوجه المظلم لـ«الأخ الأكبر» غوغل

وهم ديمقراطية المعرفة
TT
20

وهم ديمقراطية المعرفة

وهم ديمقراطية المعرفة

من منّا لا يعرف «غوغل»؟ محرّك البحث الأشهر على الإنترنت، الذي أصبح عبر نافذته الصغيرة تلك التي تتوسط صفحته شديدة التواضع كما البوابة الأكبر والأقرب والأهم لولوج خُلاصة المعارف البشريّة المتراكمة بعد أن انتهت جلّها معلّقة في فضاء الشبكة العنكبوتية السيبيري الغامض. لقد أُسر مرتادو الإنترنت بكفاءة وسرعة وسهولة هذا «الغوغل»، كما قدرته الاستثنائية على التشبيك بين أنظمة معرفيّة متوازية ومن ثم تقديمه إجابات تبدو بشكل متزايد متفردة وشخصيّة ومتفهمة لطريقة تفكير مستخدمها واهتماماته، حتى أصبح اسم «غوغل» صنو كل بحث ممكن، وتحوّل في كثير من اللغات الدارجة بالعالم إلى صيغة «فعل» بديلة عن وصف تعامل الأشخاص مع محركات البحث على الإنترنت. بحضوره، فقدت الموسوعات قيمتها، وهُجرت القواميس ومسارد معاني الكلمات، ولم تعد هناك حاجة فعليّة للتعامل بالورق، أو تكديس الوثائق أو الكتب أو الاستعانة بالصحف والمجلات المطبوعة لتتبع الأحداث. بل وأصبحت بعده المفكرات الشخصيّة والتقاويم وحتى تلك الخربشات على قصاصات الورق والمكاتيب وأوراق الملاحظات اللاصقة والخرائط والآلات الحاسبة نوعاً من لزوم ما لا يلزم، إذ جمعها هذا الساحر كلّها في مكان واحد تظنّه ملكيتك الفردية وفضاءك الخاص بعد أن منحك وحدك مفتاحه السريّ، ومكّنك من تزيينه بألوان تختارها، وربما أيضاً بصورتك الشخصيّة أو صورة من تحب.
حتى سنة 1999 لم يكن «غوغل» شيئاً مذكوراً أقلّه لناحية قدرته على توريد عوائد مقنعة، نظير ما يستثمر به من أموال طائلة. بالتأكيد هو امتلك وقتها إمكانات تقنيّة متقدّمة ومحرك بحث فعالاً لركوب عباب الإنترنت المتسع باطراد، إلا أن منطق محرك البحث ذاته لم يسمح بتقاضي بدلات على خدماته التي كان من شأنها أن تفقده فرصة الانتشار العالمي حال فُرضت.
«غوغل» وقتها كان يحصد تغذية راجعة عن سلوكيّات مرتاديه ومعالم شخصياتهم الافتراضية كما هم على الشبكة في إطار منهجيته لتحسين خدمات البحث المقدّمة لهم وتسريعها وجعلها أكثر صلة بهم، وهي معلومات مجانيّة يتطوع المستخدمون بإعطائها لتفعيل الخدمة على أفضل مستوياتها بوعي أو من دون وعي، غافلين عن حقيقة أن أكبر منظومة ذكاء اصطناعي في العالم كانت تراكم تلك المعلومات بشكل هائل وتحللها وتصنفها وتتخذ قرارات بشأنها بأسرع من لمح البصر، ومكنّت «غوغل» من تطوير أدائه وإضافة خدماتٍ أخرى موازية بفضلها. لكن من دون التوفر على وسيلة ما لاستيفاء بدل مقابل تلك الخدمات، فإن المشروع العبقري كان يمشي بتسارع نحو المجهول.
مؤسسا «غوغل» سيرجي برين ولاري بيج، اللذان تبنيا شعار «لا تكن شريراً» أدركا أنّ عليهما إعادة صياغة نموذج العمل الكلّي الذي تقوم عليه شركتهما، إن هما أرادا لها تجاوزَ مرحلة انفجار فقاعة شركات الإنترنت التي تسببت بخروج الآلاف من الخدمة فترة عام 2000 لعجزها عن إيجاد منهجيّة فعالة تكفل تحصيل عوائد كافية مقابل خدماتها الذّكيّة المُكلفة. في تلك اللحظة التاريخيّة كان محيط المعلومات المتراكمة عن سلوكيات المستخدمين قد بدأ يؤتي ثماراً، إذ وجد «غوغل» أن مؤسسات رأسماليّة كثيرة تجد في معطيات خوارزمياته (وهي مجموعة من المعادلات الرياضية المترابطة لتنفيذ إجراء ما) منجم ذهب لا قرار له يمكنها تحقيق استهداف شديد الفعاليّة لقاعدة واسعة من المستهلكين المناسبين والتأثير عليهم لشراء منتجات تلك المؤسسات على اختلافها، ليتحول «غوغل» من وقتها إلى ما يشبه شركة إعلانات هائلة لخدمات الترويج المستهدف، تبيع محصولها من المواد الخام المجانيّة التي تحصل عليها من المستخدمين الغافلين بعد تعليبها وفق رغبات الزبائن مقابل مليارات الدّولارات. تلك الأموال الطائلة مكنت الشركة من إغراق موظفيها العباقرة بالرواتب والمنافع غير المسبوقة والاستثمار في تطوير القدرات التقنية وخوارزميّات المراقبة السلوكيّة إلى ما يفوق الخيال.
رؤية المؤسسين بأن يغدو «كل الإنترنت عبر (غوغل)» بدأت بالتحقق الفعلي شيئاً فشيئاً، مع سعي أكيد منهما دائماً للظهور بمظهر «العملاق» المحبوب والموثوق، أمين مكتبة المعارف البشريّة ونصير ديمقراطيّة الاطلاع والتواصل لجميع البشر وعبر الحدود، ومساعداً شخصياً لا يمكن الاستغناء عنه للعيش في المجتمع المعاصر، ومنصة توفر أدوات ثمينة لتطوير البرمجيّات المفتوحة مجاناً ودون مقابل. بل وحتى شرع بتوثيق التراث الفني والثقافي للعالم، كما عرض خرائط تفاعليّة ذكيّة وعالية الدّقة للاستخدامات المدنيّة وغيرها من الخدمات الأخرى الثمينة، مع تعمّد توفيرها دائماً دون مقابل لكل مريد. وهكذا مثلاً صار ممكناً بفضل «غوغل» مشاهدة صور عالية الجودة لأعمال الفنانين الكلاسيكيين الكبار المتوزعة على متاحف العالم كلّها من شاشة الكومبيوتر الشخصي، أو أخذ صورة جويّة لأي بقعة من بقاع الكوكب - تقريباً - أو الاستعانة باطلاعه الواسع ومعلوماته المحدّثة لاختيار دروب تنقلهم، وكل ذلك دون تكلفة تذكر.
لكن وراء هذي الصورة الحميدة والإيجابيّة التي يُشتغل عليها بعناية فائقة، ثمة وجه آخر داكن الظلمة لهذا «الغوغل»، تسكن فيه عند التدقيق أشباح كثيرة وتنانين لا ندري متى تنقلب - أو هي انقلبت بالفعل - على البشريّة التي بسذاجة المغفلين وبكل حسن النيّة سلّمته أسرارها، بينما أصبحت في الوقت ذاته رهينة له يبيعها لمن أراد أنّى شاء.
خذ مثلاً وهم ديمقراطية الوصول إلى المعرفة التي يدّعيها «غوغل»، بينما هو يدير خوارزميات متفوقة تُفلتر البحث على الإنترنت، وتُقدّم للمستخدم معلومات تقرر هي وحدها أنها ذات صلة وبترتيب معيّن تحسب أنه متناسق مع سلوكياته السابقة. المشكلة هنا بالطبع ليست فقط بشأن تقديم نتائج بحث أقرب للمستخدم، وهو ما يراه البعض مفيداً، بقدر ما هي أن يختار القائمون على تلك الخوارزميّات معايير عرقيّة أو دينية أو آيديولوجيّة أو عمريّة أو مكانيّة أو لغويّة معينة تحرف عرض النتائج بحيث تقدّم نوعاً من حقيقة مصنوعة - وفق إرادتهم حصراً عن - موضوع البحث وفق جداول أعمال مشبوهة وسريّة وربما غير قانونيّة من حيث المبدأ. خوارزميات «غوغل» لا توزع ديمقراطية المعرفة مجاناً، بقدر ما هي تمتص معلوماتنا مجاناً وتتربح من تقديمها لنا معارف مفلترة مقابلها.
حتى الآن، فإن هذا العملاق التزم دائماً بفصل شبه تام بين المستخدمين وزبائن المعلومات السلوكيّة عبر تشييد جدار عال من السريّة بينهما، سواء في نوعيّة المعلومات المتبادلة أو طريقة توظيفها للتأثير على سلوك هؤلاء المستخدمين وأفكارهم. لكن الأخطر دون أدنى شك يتأتى من حقيقة أن الانتشار المتشظّي للإلكترونيات الذكيّة في جميع مناحي الحياة المعاصرة، وتداخلها العضوي مع منظومة تواصل هائلة على الإنترنت تسمح تقنياً الآن لـ«غوغل» مثلاً، بالتحكّم بصفة فاعلة في تشكيل طبيعة سلوك المواطنين: التلفزيون يقرر أن هذا البرنامج لا يجب عرضه عليك، وربما إذا كنت يافعاً يتوقف عن العمل عند حلول موعد نومك، وبراد حفظ الأطعمة قد يقرر أنه من الأفضل امتناعك عن تناول الطعام بعد ساعة معينة فيغلق أجزاء منه، بينما يراقب «غوغل» ضغط دمك ويرسل إشارات لطبيبك عن تدهور وضعك، وهو قد يلجأ إلى إيقاف سيارتك عن العمل إن تأخرت عن دفع أقساط التأمين، أو هو يزيدها بناءً على أسلوبك في القيادة ومدى التزامك بقوانين السير وحدود السرعة على الطرقات.
صفة «الأخ الأكبر» - كما تنبأ بها الأديب البريطاني جورج أورويل قبل سبعين عاماً - ليست بالتأكيد مقتصرة على مسائل مدنيّة فحسب، مهما بلغت خطورتها على حريّة الأفراد، إذ لا بدّ أن من يبيع ملفك السلوكي لشركات المواد الاستهلاكية ويعمل معها لصياغة استجابتك لبضائعها، قادرٌ في أي لحظة على بيع الملف ذاته أيضاً لحكومات أو منظمات قد تتوخى مراقبة المستخدمين أو التأثير على أفكارهم وتصوراتهم لأغراض تتجاوز مجرد الربح التجاري المحض، لا سيما أن «غوغل» يخضع لقوانين دولة عظمى لها سياسات إمبراطوريّة جادة وتسعى للهيمنة على بقيّة العالم.
لقد تغيّر «غوغل» كثيراً في عشرين عاماً، وأصبح عملاقاً ذا كفاءة رهيبة، لكن وراء قناعه الرائق الجميل هذا، وجه مظلم لا يريدنا أن نعرف عن ملامحه شيئاً.



«عائلة شكسبير» يفتح أبواب «نوادي المسرح» بمصر

جانب من عرض «عائلة شكسبير» (وزارة الثقافة المصرية)
جانب من عرض «عائلة شكسبير» (وزارة الثقافة المصرية)
TT
20

«عائلة شكسبير» يفتح أبواب «نوادي المسرح» بمصر

جانب من عرض «عائلة شكسبير» (وزارة الثقافة المصرية)
جانب من عرض «عائلة شكسبير» (وزارة الثقافة المصرية)

افتتح العرض المسرحي «عائلة شكسبير» مهرجان نوادي المسرح المصري في دورته الثانية والثلاثين، الخميس، على مسرح قصر ثقافة القناطر الخيرية، شمال القاهرة، بمشاركة 27 عرضاً من مختلف محافظات مصر.

عرض «عائلة شكسبير» قدّمته فرقة الجيزة المسرحية، وهو مأخوذ عن نصّ «شكسبير في السبتية» من تأليف أحمد الأباصيري، وإعداد وإخراج سامي سلامة، وتدور أحداثه حول شخصية رئيسية تتعرض لصدمة نفسية حادة تؤدي إلى فقدانها الإيمان بأي شيء دنيوي، باستثناء الفن، الذي يصبح ملاذاً للتنفيس عن مشاعرها وأفكارها.

وفي ظل الانهيار النفسي للبطل، يرتبط بشخصيات مسرحيات وليم شكسبير، متخيلاً سيناريوهات جديدة أكثر مأساوية، يعيشها معهم ليلاً في عزلة تامة داخل «بدروم» أفكاره، بعيداً عن الواقع. وفق بيان لوزارة الثقافة المصرية.

وعن الرؤية الإخراجية للعمل، أوضح المخرج سامي سلامة أن العرض يطرح تساؤلات جوهرية حول محاولة تغيير مصائر شخصيات شكسبير التراجيدية. من بين هذه التساؤلات: «هل من الصواب أن نغير هذه النهايات؟ وهل يمكن فعلاً تغيير القدر؟». ليكتشف البطل في النهاية أن عليه تقبل ما كتب له، والرضا بما هو مقدر.

وأشار سلامة إلى أن «العرض يستند إلى إعادة معالجة عدد من كلاسيكيات شكسبير مثل (هاملت)، و(روميو وجولييت)، و(أنطونيو وكليوباترا)، و(عطيل)، وغيرها من القصص التي اقترنت بالحب والنهايات التراجيدية، مع تقديم رؤية تمزج بين النصّ الكلاسيكي والمعالجة الحديثة».

العرض المسرحي من بطولة أحمد دبور، وسارة عماد، بمشاركة عبده خالد، ووعد الحكم، ويوسف بولس، ونور السعودي، وطه تايسون، وأميرة راشد، ومحمد زغلول، ورضوى شريف، وسامي سلامة.

عرض «عائلة شكسبير» افتتح مهرجان نوادي المسرح (وزارة الثقافة المصرية)
عرض «عائلة شكسبير» افتتح مهرجان نوادي المسرح (وزارة الثقافة المصرية)

ويقول الفنان أحمد دبور، بطل العرض، إنه جسّد شخصية «سيد»، الكاتب الذي يصاب بصدمة نفسية حادة بعد وفاة زوجته أثناء شهر العسل، ما يدفعه إلى الهروب من الواقع والتفاعل مع شخصيات شكسبير كما لو كانت حقيقية. وأوضح أن «سيد» يحاول من خلال مهنته كاتباً تغيير النهايات المأساوية لتراجيديات شكسبير؛ لأنها تذكّره بخسارته الشخصية، لكنه يكتشف تدريجياً أن كل ما يمر به هو نتاج للصدمة النفسية، وأن عليه مواجهة الواقع والتصالح مع قدره.

وتحدثت الفنانة سارة عماد، بطلة العرض، عن دورها في شخصية «أمل»، حبيبة «سيد»، التي تربطها به علاقة حبّ امتدت لأكثر من 16 عاماً. وأكدت أن العمل أعجبها منذ البداية بسبب رسالته الإنسانية العميقة، إذ يمسّ قضايا نفسية ووجدانية يمرّ بها كثيرون .

ويعدّ مهرجان نوادي المسرح في مصر من أهم المنصات الثقافية لاكتشاف ورعاية المواهب المسرحية الشابة من مختلف المحافظات، حيث تتيح هيئة قصور الثقافة من خلاله مساحة حرة للإبداع والتجريب، تأكيداً على دورها في تحقيق العدالة الثقافية.

ويشهد برنامج المهرجان تقديم عرضين كل يوم متاحين مجاناً للجمهور، ويقدم الجمعة عرض «اللحاد» من تأليف عبد الفتاح رواسي، وإخراج نهى أشرف، وتدور أحداثه حول الصراع الإنساني بين القهر والطموح، من خلال فنان يعرض لوحاته في منطقة المقابر، حيث يصطدم باللحاد الذي يروي له حكايات الموتى.

يليه العرض المسرحي «الدخاخنجي» عن نص «الدخان» للكاتب ميخائيل رومان، إعداد وإخراج ماهينور طارق، ويتناول قضية الإدمان وتأثيره على الفرد والمجتمع، من خلال قصة شاب يقع فريسة الضغوط الاجتماعية والاقتصادية.