منبج... نقطة تماس بين أميركا وروسيا وتركيا في شمال سوريا

«الشرق الأوسط» تستطلع موقع التفجير الانتحاري وخطوط الانتشار بين قوات دول كبرى

سوق الخضار الرئيسي في مدينة منبج (الشرق الأوسط)
سوق الخضار الرئيسي في مدينة منبج (الشرق الأوسط)
TT

منبج... نقطة تماس بين أميركا وروسيا وتركيا في شمال سوريا

سوق الخضار الرئيسي في مدينة منبج (الشرق الأوسط)
سوق الخضار الرئيسي في مدينة منبج (الشرق الأوسط)

على رصيف مستشفى الأمل وسط مدينة منبج التابعة لريف حلب الشرقي، أجهش رجل أربعيني بالبكاء بحرقة وحزن شديدين، بعدما آلت ابنته الصغيرة سحر ووالدتها إلى أشلاء. وضعوها في صندوق مخصّص للموتى، حيث إنهما لقيا مصرعيهما بالتفجير الانتحاري الذي وقع الأربعاء الماضي أمام مطعم قصر الأمراء وسط مدينة منبج راح ضحيته 15 قتيلاً، كان من بينهم أربعة أميركيين.
سحر كانت تبلغ من العمر 13 ربيعاً طالبة بالمعهد المتوسط. وبعد انتهاء دوامها الصباحي، ذهبت والدتها لتصحبها إلى المنزل خشية من الأوضاع الأمنية المتردية في مسقط رأسها منذ أشهر، لكن الموت كان أسرع من طريق العودة، فيما لم يتبقَ للأب المفجوع سوى الذكريات.
وبصوت مصحوب بالحزن وعيون تذرف الدموع، قال حسين والد سحر الذي خط الشيب شعره وذقنه: «يا ريت لو كنت معهم لحظة الانفجار وارتحت من هذا العذاب. ماذا بقي لي من أعزّ الناس على قلبي، ذكريات مثقلة والقليل من الصور التي سأبقى طوال حياتي أعيش بعذاب فراقها».
فالهجوم الذي وقع في مركز مدينة منبج بوضح النهار، كان الأكبر من حيث عدد القتلى الذين تعرضت له القوات الأميركية العاملة في سوريا منذ انتشارها هناك عام 2015، في مدينة تسيطر عليها «قوات مجلس منبج العسكري»، المتحالفة مع «وحدات حماية الشعب» الكردية والمنضوية في صفوف «قوات سوريا الديمقراطية» المدعومة من التحالف الدولي بقيادة واشنطن.
ويقول عبد الجيل (47 سنة) وهو سائق سيارة أجرة عمومي، الذي كان موجودا قرب مطعم قصر الأمراء لحظة وقوع الانفجار: «عادة تقوم دوريات أميركية بتفقّد أوضاع المدينة بعد تصاعد التهديدات التركية قبل أشهر، كانوا يتودّدون للسكان المحليين عبر شراء أطعمة ومشروبات محلّية، ولحظة دخولهم للمطعم قام الانتحاري بتفجير نفسه».
والهجوم تبنّاه تنظيم داعش بعد نحو شهر من إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قراره في 19 ديسمبر (كانون الأول) بسحب قوات بلاده البالغ قوامها ألفي جندي من سوريا معلنا هزيمة التنظيم هناك.
وذكر الطبيب أحمد (40 سنة) الذي يعمل في مشفى الأمل الخاص وسط منبج، أنّ الحصيلة النهاية كانت مقتل 15 شخصاً، «كان من بينهم مقتل 4 أميركيين، جنديان ومترجم مدني ومتعاقد، إلى جانب مقتل عنصرين من مجلس منبج العسكري المرافقين لهم، فيما راح ضحيتها 9 مدنيين».
ويروي أنّه لحظة الانفجار كان متواجداً بالمشفى، وأضاف: «شعرت بأنّ نوافذ المشفى والأبواب ستتعرض للخلع من شدة الصوت، بعد لحظات بدأت تصل الجثث والمصابون، واستنفر الطاقم الطبي واستدعي كلّ الأطباء»، وبحسب الطبيب المناوب وصل يومذاك إلى المستشفى أكثر من 15 جريحاً، مشيرا إلى أنّ: «من بينها كانت هناك 5 حالات حرجة، إحداها فارقت الحياة عند منتصف الليل، لترتفع الحصيلة إلى 15 ضحية».
وتضم مدينة منبج ومحيطها قواعد ومقرات عسكرية لقوات التحالف لا سيما الأميركية، ونادراً ما تُستهدف بتفجيرات من هذا النوع، منذ طرد تنظيم داعش سنة 2016. والعملية الانتحارية فتحت باب التساؤل لدى المراقبين والمتابعين، ما إذا كانت واشنطن ستنفّذ قرارها بسحب قواتها من سوريا بحجة أنّ تنظيم داعش قد تمت هزيمته.
بينما نقل عبد الجبار (30 سنة) والذي يمتلك متجراً لبيع الألبان والاجبان، إنه ومنذ وقوع التفجير الانتحاري أغلق محله، لكنه عاد وفتحت من جديد وأعرب عن قلقه قائلاً: «حركة السوق ضعيفة وتكاد تنعدم البيع والشراء، وعلامات الخوف والقلق ارتسمت على وجوه الجميع».
وفي الآونة الأخيرة صعّدت تركيا من تهديداتها للقيام بهجمات على منبج لطرد القوات المتحالفة مع «وحدات حماية الشعب» الكردية منها، وكانت قد حشدت نحو 8 آلاف مسلح من الفصائل السورية الموالية لها على طول خط نهر الساجور، مهددة بالدخول إلى منبج خلال أيّام معدودة.
وأكد إبراهيم (57 سنة) والذي يمتلك متجراً للذهب وتحويل الأموال، أن غالبية سكان المدينة ليسوا مع دخول فصائل درع الفرات والجيش التركي، وقال: «ينقل أصدقاء من هناك لي صورة الفوضى التي تعيشها المناطق الخاضعة لسيطرة درع الفرات، حروب وسرقة وخطف وسطوا بقوة السلاح، أما منبج تديرها قوة عسكرية منضبطة وجهاز أمني وإدارة مدنية تحظى بقبول من أبناء المدينة».

خوف ورعب
حركة غير اعتيادية في ساحة منبج المركزية وتحديداً أمام شارع مطعم قصر الأمراء. السادس عشر من يناير (كانون الثاني) الجاري يوم غيّر معادلة الحياة في المدينة التي قد تشعل شرارة حرب عالمية ثالثة مصغرة. وارتسمت علامات الاستفهام والقلق على وجوه سكان المدينة، بعد وقوع عملية انتحارية راح ضحيتها مدنيون أبرياء وجنود أميركيون، مخلفة حالة من الفزع في قلوب الأهالي، وزادت حالة الحيرة والترقب بعد التقلبات الميدانية التي تعيشها المدينة ومنطقة شرقي الفرات.
وفي المطعم الذي تعرض للانفجار قبل أيّام، يقف عامل على سلم يقوم بتلبين الجدران التي تهاوت من شدة التفجير، فيما انشغل معلم الديكور بتنظيف سقفه الذي احترق معظمه، بينما كان عمال المطعم منشغلون بإزالة الركام والدمار، وكان يقف على مقربة منهم صالح اليوسف (32 سنة) صاحب مطعم قصر الأمراء يتابع أعمال الصيانة والإصلاح يشرف على العمال.
يروي صالح كيف أنه نجا بأعجوبة من العملية الانتحارية وموت محقق، وأنّ الدورية الأميركية كانت تأتي في الأسبوع مرتين لسوق المدينة، وكانوا يتبضعون يومي الأحد والأربعاء من السوق لشراء حاجاتها بعد الانتهاء من مهمتها، وقال: «أثناء عودتهم قصدوا مطعمي لتناول وجبة الغداء، وعندما وصل الأميركان ذهبت إلى المطبخ لتفقد طلبتهم، ووقع الانفجار وسقطت على الأرض من شدة الانفجار، وأغمي عليه وأسعفوني إلى المستشفى».
ونشر نشطاء وصفحات التواصل الاجتماعي الجمعة الماضي، مقطع فيديو أظهر لحظة وقوع التفجير الانتحاري والذي أودى بحياة جنود أميركيين و9 مدنيين ومقاتلين من قوات «مجلس منبج العسكري»، ولم يتم التأكد من هوية منفذ العملية وجنسه ما إذا كانت سيدة أو رجل، وتشرف قوات التحالف الدولي والولايات المتحدة الأميركية على سير التحقيقات.
ولم يخف صالح أنّ الحادثة تسببت بنشر حالة من الخوف والرعب بين الناس: «منذ 8 سنوات ونحن نعيش بين الموت، شاهدنا الموت بقصف الطيران الحربي والعبوات الناسفة والصواريخ وقذائف الهاون، لكنها المرة الأولى التي أتعرض فيها لحادثة انفجار حزام ناسف»، مؤكداً أنّ الحياة ستستمر.
وأضاف: «كما تشاهد، نعيد ترميم المطعم ما جنينياه خلال عشرات السنوات دمر في لحظة، لكن نشكر الله ونحمده».
وكانت تعد منبج نقطة جغرافية مهمة في شمال سوريا، إذ استخدمها تنظيم داعش سابقاً لاستقبال وإرسال عناصره من وإلى سوريا، وخاصة أولئك القادمين من أوروبا وباقي أنحاء العالم، إلا أن «قوات سوريا الديمقراطية التي دعمها طيران التحالف الدولي تمكنت من طردها منذ عام 2016».
أما حسن (47 سنة) والذي كان منشغلاً بإصلاح واجهة ستوديو التصوير الذي يمتلكه، ويقع بجوار المطعم الذي تعرض للانفجار، يروي التفاصيل الأولى للحادثة، ليقول: «لحظة وقوع الانفجار كنت داخل المحل، تطايرت الشظايا بسرعة مثل الرصاص، وتعرضت النوافذ والأبواب للكسر من شدة الضغط، ركضت إلى المكان ولكني وجدت الجثث ملقاة في كل مكان»، ووصف اللحظات التي عاشها كأنه يوم الحشر، يضيف: «كأنها القيامة، فالجثث كانت متقطعة ولم يتبق منها سوى الأشلاء، كنت أركض فوق الموتى لأسعف الجرحى والمصابين على قيد الحياة، حملت أطفالاً بعمر الربيع كانوا يتنفسون أنفاسهم الأخيرة».
وسادت حالة من الخوف والترقب عند أصحاب المحال والأهالي الذين كانوا يتبضعون بالسوق المركزي لمنبج، ونقل الأهالي أنّ حركة المتسوقين وتنقلهم اقتصرت على شراء حاجات أساسية بعد تدهور الأوضاع الأمنية فيها.
يقول الصيدلي محمود (49 سنة) المتحدر من مدينة منبج، إنّ «الخيط الأبيض من الأسود بات ظاهراً للجميع، فالذين قاموا بالعملية ليسوا بشرا. من يستهدف المدنيين العزل ليس إنسانا، لأنه تسبب بمقتل 9 أبرياء لا ذنب لهم»، في إشارة إلى العملية الانتحارية التي تنباها تنظيم داعش المتطرف.
وأشار إلى أنّ سكان منبج والسوريين عموماً لم ينعموا بالاستقرار والأمان، وتابع حديثه ليقول: «بعد طرد (داعش) شهدت منبج ازدهاراً تجارياً وانتعاشا اقتصاديا، لكن منذ أشهر تحولت من جديد لساحة صراع تتنافس عليها جميع الجهات العسكرية المتصارعة»، ونقل أنّ سكان المدينة يخشون من عودة النظام ويعزو السبب إلى: «الكثير لم يخدم الجيش الإلزامي، وهناك نشطاء مطلوبون وهناك من عمل مع الجيش الحر و(داعش)، وحالياً مع الإدارة الذاتية. ففي حال عادت الأجهزة الأمنية هؤلاء بالدرجة الأولى يخافون من عودته».
وتعد مدينة منبج خطا اقتصاديا ساخناً تربط مدينة حلب البوابة التجارية لسوريا بطرفي نهر الفرات الشرقي والغربي منه، وممراً تجارياً يربط شمال سوريا بشرقه. وفي سوق المدينة، ينتشر عناصر من قوات الأمن الداخلي وشرطة المرور ينظمون السير رغم ضعف الحركة المرورية بعد الانفجار.
ويرى شوقي محمد الخبير في اقتصاديات الطاقة والنفط، أنّ الحالة السورية عموما ومنبج خصوصا، باتت معقّدة ولم يعد بالإمكان التكهّن بمجريات الأحداث، ويعزو السبب إلى «تقاطع مصالح اللاعبين الدوليين والإقليميين وتعارضها بالوقت نفسه على الساحة السورية».
ويرى أنّ التفوّق النوعي للعنصر الأميركي اليوم يجعل من الإدارة الأميركية الأكثر قدرة بالتحكم في سير الأحداث والضغط على باقي الأطراف، ويضيف: «لا أعتقد أن واشنطن ستنفذ قرار الانسحاب كما تشتهيه بعض الأطراف، ومردّ ذلك أنّ تهديد تنظيم داعش لا يزال قائما من جهة، والتهديد الإيراني وتوغله في الجغرافيا السورية من جهة ثانية».
وتقع منبج عند ملتقى ثلاث مناطق نفوذ منفصلة للروس والأتراك والأميركيين. وانسحاب القوات الأميركية قد يؤدي إلى مواجهة محتملة بين «وحدات حماية الشعب» الكردية مع تركيا، ويفتح الطريق أمام اتساع نطاق النفوذ الروسي والإيراني في المناطق التي ستغادرها القوات الأميركية.
فإعلان ترمب بسحب قوات بلاده من سوريا، جاء لتبيان حقيقة واقعية من وجهة النظر الأميركية، مفادها أن تواجد قواتها صمّام الأمان لهذه المنطقة بحسب الخبير شوقي محمد، الذي أضاف: «هي رسالة قوية للحكومة السورية وحلفائها إيران وروسيا، بأن انسحابها يعني دخول القوات التركية والجيش الحر إلى منبج، ورسالة بالوقت نفسه للجانب التركي بأنّ وجودها يعني عدم قدرة الجيش السوري السيطرة على المنطقة، وبالتالي عدم تمدّد النفوذ الإيراني لحدودها الجنوبية».

مجلس حكم
تتبع منبج مدينة حلب شمال سوريا، وتبعد عنها نحو 80 كيلومتراً إلى الشمال الشرقي، كما تبعد 30 كيلومتراً فقط عن الحدود التركيّة. خرجت عن سيطرة النظام الحاكم في شهر يوليو (تموز) 2012، بعد أن حررتها فصائل من الجيش السوري الحر آنذاك، لتخضع صيف 2014 لسيطرة عناصر تنظيم داعش؛ لكن «قوات سوريا الديمقراطية» و«مجلس منبج العسكري» وبدعم من التحالف الدولي، تمكنوا من انتزاع منبج في 15 أغسطس (آب) 2016، وطرد عناصر التنظيم، بعد معارك عنيفة استمرت لأكثر من شهرين.
ومنذ بداية 2017 يتولى المجلس التنفيذي لمنبج وريفها إدارة المدينة، ويتشكل من 13 هيئة ولجنة خدمية، منها الصحة والتعليم وقوات الأمن الداخلي وهيئة العدالة وغيرها، وشكلت الإدارة جهازاً للشرطة وللمرور، يتلقى التدريب والدعم العسكري من التحالف الدولي.
ولدى حديثه إلى «الشرق الأوسط» قال محمد خير الشيخو، الرئيس المشترك للمجلس التنفيذي إنّ منبج جزء من سوريا تنتظر حلا شاملا، وقال: «الحلّ الوحيد هو جلوس السوريون على طاولة الحوار، لوضع حدّ للنزاع الدائر في بلدهم منذ 8 سنوات عجاف، لأنّنا نؤمن بالحوار السوري - السوري».
وقال الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في تصريحات صحافية نشرت قبل يومين، إنّه أبلغ الرئيس الأميركي دونالد ترمب في اتصال هاتفي «استعداد تركيا لتولي الأمن في منبج السورية»، والتي شهدت مقتل أربعة أميركيين في تفجير وقع الأسبوع الماضي.
وفي رده على إعلان إنشاء منطقة آمنة، يقول محمد خير: «تركيا طالبت مراراً بمنطقة آمنة، والسؤال آمنة من أي طرف، تركيا تعتدي على الأراضي السورية وتحتل مناطق بريف حلب الشمالي وتصعّد من تهديداتها»، ونقل أنّ ميثاق مجلس سوريا الديمقراطية والمجلس التنفيذي يعمل تحت جناحيه، يتعهد بالحفاظ على علاقات حسن الجوار، منوها: «منذ سيطرة (قوات سوريا الديمقراطية) على الشريط الحدودي لم يهدّد أي طرف الأمن القومي التركي، ولم تطلق رصاصة واحدة على الجانب التركي».
وأكد رئيس المجلس التنفيذي أنّ التحالف الدولي والولايات المتحدة تدعمان المجلس خدميا عبر مشاريع إعادة استقرار المناطق المحرّرة من قبضة تنظيم داعش، وقال: «حتى اليوم لم تتوقف البرامج المخططة، ولا يزال الأميركان متواجدين على مستوى الموظفين والعاملين في هذه البرامج»، لكن الخطط المستقبلية والتي كانت عادة ما تتم مناقشتها مع بداية كلّ عام جديد، لافتا إلى أنّه: «لم يتم طرح أي مشروع أو تخصيص موازنة لتنفيذ برامج، ولم يبلغونا رسميا بجدول زمني لانسحابهم من منبج».
وكشف رئيس المجلس التنفيذي عن وجود حوارات مع محافظة حلب التابعة للحكومة السورية لعودة دائرة السجل المدني إلى مدينة منبج، وقال: «الكثير فقدوا هوياتهم جراء الحرب، أو عمرهم صار بسنّ الحصول على بطاقة شخصية ورقم وطني، حتى تاريخية لم نصدر أي بطاقة شخصية، على عكس مناطق ثانية والتي أصدرت هويات ووثائق رسمية»، مرحّباً بعودة مؤسسات الدولة الخدمية والتي باتت ضرورية لتقديم التسهيلات لسكان مدينة منبج، على حدّ تعبير محمد خير الشيخو.
وتشدّد قوات الأمن الداخلي من إجراءاتها الأمنية خشية وقوع المزيد من العمليات الانتحارية. وفي مدخل منبج الشرقي يطلب عناصر من الأسايش (شرطة كردية) يلبسون زيا موحدا الهويات الشخصية وتتأكد من أصحابها، كما تسيّر قوات النجدة دوريات داخل المدينة وفي مخارجها الرئيسية، إلا أنّ ذلك كله لا يهدئ من نفوس السكان القلقين بعد الانفجار حيث تسبب بنشر حالة من الخوف والرعب.
ونقلت ساجدة البالغة من العمر أربعين عاماً وكانت تلبس ثوباً أسود وغطاء رأس ملونا، أنّ الأوضاع الأمنية في مدينتها تدهورت منذ تصعيد تركيا تهديداتها بشن عملية عسكرية.
وقالت: «بعد سواد (داعش) شهدت منبج حالة من الهدوء والاستقرار، كّنا بألف خير. فمنذ أشهر وفي كل مساء لا نعلم من هي الجهة العسكرية التي ستدخل المدينة باليوم التالي، والله أعلم». تقع مدينة منبج على الطريق الدولي السريع، حيث يربط مدينة حلب بالمحافظات الشرقية الرقة ودير الزور والحسكة، وتتقاسم السيطرة عليها ثلاث جهات عسكرية متصارعة:
القوات النظامية المدعومة من روسيا تسيطر على ريفها الجنوبي أبرزها بلدات الخفسة ومسكنة، فيما تسيطر فصائل «درع الفرات» بدعم من الجيش التركي على غرب نهر الساجور، بينما تسيطر قوات «مجلس منبج العسكري» على مركز المدينة وريفها الشرقي والشمالي المدعومة من التحالف الدولي بقيادة واشنطن.
ودعت قوات مجلس منبج العسكري الشهر الماضي القوات الموالية لدمشق لحماية منبج من هجوم تركي بعد تصعيد تهديداتها، وردت القوات الحكومية المدعومة من روسيا بنشر قواتها خارج المدينة، وتسيّر روسيا والقوات النظامية دوريات مشتركة على الحدود الفاصلة بين مناطق التماس الخاضعة لطرفي الصراع هناك، ويتقاسم «مجلس منبج العسكري» شرق نهر الساجور، فيما تسيطر «قوات درع الفرات» والجيش التركي على غرب النهر.
وعن عدد عناصر القوات الحكومية، قال علي أبو نجم نائب القائد العام لـ«مجلس منبج العسكري»، إن «عددهم لا يتجاوز 300 عنصر، ومعظمهم على خط التماس مع فصائل (درع الفرات) على الحدود الإدارية الفاصلة بين منبج وجرابلس - الباب، ومنطقة العريمة فقط». وأكد أنه خلال الاجتماعات الرسمية مع التحالف الدولي وأميركا: «لم تذكر جدولا زمنيا لانسحابها من منبج وشرق نهر الفرات، ولا تزال قوات التحالف تسير دوريات على طول خط التماس شرق نهر الساجور، في حين تسير روسيا والقوات النظامية دورياتها في مدينة العريمة حتى نقطة التقاء الساجور مع العريمة».
وذكر أن مجلسي الباب ومنبج المتحالفين مع قوات سوريا الديمقراطية، وبالتنسيق مع قوات النظام، «نشروا 5 نقاط مراقبة داخل العريمة، حتى المثلث الفاصل بين الجيش التركي وروسيا وأميركا»، منوهاً بأن القوات النظامية وروسيا كانت متواجدة سابقاً في العريمة، لكنها انسحبت قبل 6 أشهر: «اتصلنا مع الروس عبر قاعدة حميميم وطلبنا منهم بشكل رسمي عودة نقاط المراقبة ودخول الجيش السوري لحماية الحدود الفاصلة من التهديدات التركية».
وفي بدايات عام 2017، تشكل مجلس منبج العسكري من أبناء المدينة من العرب والأكراد وتلقى استشارات وتدريبات عسكرية من التحالف الدولي، وأعلن المجلس في بيان رسمي نشر على حسابه أمس أنه سيواصل العمل لـ«إحباط كل المؤامرات التي تستهدف إعادة الفوضى وضرب الأمن والاستقرار». ويبلغ عدد سكان منبج حسب الأرقام الصادرة عن المكتب المركزي للإحصاء عام 2004، ما يقارب 100 ألف نسمة، إلا أن هذا العدد تضاعف مرات عدة بعد نزوح السكان من المناطق المجاورة إليها مثل حلب وكوباني (عين العرب) وعفرين وغيرها من المدن السورية التي شهدت دماراً واسعاً.
ونقل صالح اليوسف صاحب مطعم «قصر الأمراء»، أنّ الانتحاري أو الانتحارية الذي استهدف الدورية الأميركية: «إذا كانت أميركا خصمه لماذا لم يذهب إلى مكان أو نقطة عسكرية واستهدفهم، لماذا نفذ العملية وسط شارع مزدحم راح ضحيته المدنيون وسقط 9 أغلبهم نساء وأطفال»، وفتح المطعم: «رسالة للجهة التي نفذت العملية والتي وقفت خلفها، لن تثنينا هذه العمليات، سنواصل الحياة بهمة وسواعد هؤلاء الذين يساعدونا في إعادة افتتاح المطعم».



إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
TT

إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)

عاشت إيران على مدى 25 عاماً صراعاً داخلياً مريراً بين البعد الآيديولوجي «الثوري» والنظرة الاستراتيجية الساعية لحماية الدولة ومصالحها في عالم متغير.

ورغم الآمال بتحولات جذرية، اصطدمت محاولات الإصلاح بمقاومة مراكز القوى التقليدية، مما حال دون حسم التناقض بين مبادئ «الثورة» ومتطلبات المصالح القومية بشكل جذري، أو تحقيق توافق مستدام بين هذين النهجين المتعارضين.

منذ عام 2000، شهدت إيران تداول السلطة بين خمسة رؤساء للجمهورية بصلاحيات محدودة، وتعاقب خمسة برلمانات تأثرت بالتيارين الرئيسيين «الإصلاحي» و«المحافظ»، في ظل جدل مستمر حول طبيعة الحكم، اتجاهاته، وأولوياته.

ومع دخول إيران منتصف العقد الرابع من عمر ثورة 1979، لا تزال صلاحيات الجهازين المنتخبين، التشريعي (البرلمان) والتنفيذي (الحكومة)، خاضعة بالكامل لهيمنة مراكز صنع القرار، على رأسها مؤسسة المرشد علي خامنئي الذي يتمتع بصلاحيات شبه مطلقة تجعله فوق جميع مؤسسات الدولة.

في المقابل، توسع دور المؤسسات العسكرية والسياسية مثل «الحرس الثوري» و«مجلس صيانة الدستور» اللذين يحملان على عاتقهما حماية المبادئ الآيديولوجية لنظام الحكم، المستند إلى دستور يقوم على مبدأ «ولاية الفقيه» الركيزة الثابتة في موازين القوى الداخلية. هذه المؤسسات تشكل أدوات أساسية في الحفاظ على هوية «الجمهورية الإسلامية» وتعزيز نهجها المعادي للغرب.

بعد نحو 45 عاماً من «الثورة الإسلامية» في إيران لم يحسم التناقض بين مبادئها والمصالح القومية (غيتي)

خاتمي وتحول الصراع

تزامنت بداية الألفية الجديدة في إيران مع مرحلة حاسمة من عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، تحديداً الفترة الأخيرة من رئاسته (1997 - 2005). اتسمت هذه المرحلة بتصاعد المواجهة بين الإصلاحيين والمحافظين، إذ عمل التيار المحافظ على عرقلة الشعارات الإصلاحية التي رفعها خاتمي، خصوصاً في مجالي الحريات المدنية وحرية التعبير.

ولعبت المؤسسات غير المنتخبة التي تخضع لإشراف مباشر من المرشد علي خامنئي، مثل «مجلس صيانة الدستور» والقضاء، دوراً حاسماً في تعطيل الإجراءات الإصلاحية، مما جعل الإصلاحيين يواجهون تحديات متزايدة في تحقيق أجندتهم السياسية والاجتماعية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية. عدَّ خاتمي أن الإصلاحات ضرورة استراتيجية لضمان استمرارية نظام الحكم وتكيّفه مع المتغيرات الداخلية والخارجية، بينما رأى منتقدوه في طروحاته تدخلاً خطيراً يهدد أسس نظام «ولاية الفقيه».

عملت طهران على تحسين علاقاتها مع الغرب وتعزيز الهوية الوطنية من خلال مبادرات مثل «حوار الحضارات»، إلا أن هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 والغزو الأميركي للعراق عام 2003 شكّلا ضربة لهذا التوجه. ومع سقوط نظام صدام حسين، وجدت إيران فرصة لتوسيع نفوذها الآيديولوجي في العراق عبر دعم جماعات مرتبطة بها كانت قد نشأت وتشكّلت داخل أراضيها.

ساهم الملف النووي في تقويض مبادرة «حوار الحضارات» لخاتمي، وزيّف محاولات بناء الثقة مع الغرب، مما زاد من عزلة إيران والتوترات الإقليمية والدولية.

لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في البرنامج النووي وحروب المنطقة (موقع خامنئي)

«الحرس» والدور الإقليمي

كما لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في قضايا البرنامج النووي، والتطورات الداخلية، وحروب أفغانستان والعراق في نهاية عهد خاتمي.

في أفغانستان، دعم «الحرس الثوري»، الولايات المتحدة، في إطاحة حركة «طالبان». أما في العراق، فقد قاد «فيلق القدس» جماعات عراقية مسلحة لتعزيز النفوذ الإيراني الذي استمر لسنوات. كما توسعت أنشطة الفيلق بقيادة الجنرال قاسم سليماني في لبنان، مما أسهم في إنشاء شبكة عمل موازية للدبلوماسية الإيرانية في السياسة الإقليمية.

تعزيز الحضور العسكري الأميركي في المنطقة دفع إيران إلى الشعور بالتهديد، مما أدى إلى توسيع برامجها الأمنية والاستراتيجية، على رأسها البرنامج النووي وتطوير الصواريخ الباليستية.

وفي عام 2002، أثار اكتشاف منشآت نووية سرية شكوك المجتمع الدولي حول نيّات البرنامج الإيراني، بما في ذلك احتمال إنتاج أسلحة نووية. ومع تصاعد التوترات، تحولت أولويات الغرب مع طهران إلى لجم أنشطتها النووية.

كما هدد المسؤولون الأميركيون، خصوصاً خلال فترة حكم جورج بوش، مراراً باستخدام الخيار العسكري إذا استمرت إيران في أنشطتها النووية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية

«النووي» ملفاً للجدل الداخلي

مُذّاك، أثار الملف النووي جدلاً داخلياً في إيران حول الأولويات الوطنية، إذ سعى الإصلاحيون للحفاظ على العلاقات الدولية وتقليل التوتر، بينما دفع المحافظون نحو التشبث بالمبادئ الآيديولوجية.

في 2003، أعلنت طهران وقف تخصيب اليورانيوم «طواعية» كجزء من اتفاق «سعد آباد» مع الترويكا الأوروبية، مع تعهد بعدم إحالة الملف إلى مجلس الأمن، وإقامة علاقات اقتصادية مع أوروبا. في العام نفسه، بدأت إيران الترويج لفتوى المرشد علي خامنئي التي تحرم إنتاج السلاح النووي أو تخزينه أو استخدامه، مما أصبح أساس الموقف الإيراني الدولي حول البرنامج النووي.

لكن الولايات المتحدة المتشككة في نيّات طهران، عدّت الاتفاق غير كافٍ، واتهمت إيران بتوسيع برنامجها النووي، ما دفعها لفرض عقوبات اقتصادية على البنوك الإيرانية وقطاع الطاقة.

ولاحقاً أحالت ملف إيران إلى مجلس الأمن في خطوة لاقت مساندة دولية. حدث ذلك في بداية عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد، مما دفع إيران لتبني سياسة هجومية تجاه القوى الغربية.

لم تعلن إيران رسمياً امتلاكها برنامجاً لتطوير السلاح النووي. ونشرت الاستخبارات الأميركية في 2007 تقريراً يفيد بأن إيران أوقفت برنامجاً لتطوير السلاح النووي في 2003، وساهم التقرير في تعديل الموقف الأميركي.

خلال ثماني سنوات من رئاسة محمود أحمدي نجاد، تصاعد التوتر مع الغرب بسبب البرنامج النووي الإيراني الذي ارتفع تخصيب اليورانيوم فيه إلى 20 في المائة. وأصر أحمدي نجاد على حق إيران في استخدام التكنولوجيا النووية سلمياً. رداً على ذلك، فرضت عقوبات مشددة على إيران استهدفت برنامجها النووي، ومبيعات النفط، والاقتصاد، ووُضعت تحت الفصل السابع.

عززت إيران نفوذها في الشرق الأوسط فازداد التوتر مع قوى إقليمية (أ.ب)

إيران وفرصة «الربيع»

على صعيد العلاقات الخارجية، سعت إيران لتعزيز علاقاتها مع الدول العربية والأفريقية وأميركا اللاتينية، ودعمت جماعات مسلحة مثل «حزب الله» و«حماس».

مع اندلاع ثورات «الربيع العربي»، سعت إيران لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، خصوصاً في العراق وسوريا ولبنان واليمن، مما زاد التوترات مع القوى الإقليمية والدول العربية. وكان دعم نظام بشار الأسد في سوريا من أولويات حكومة أحمدي نجاد، قبل تسليم السلطة لحسن روحاني.

داخلياً، شهدت إيران أزمة كبيرة بعد فوز أحمدي نجاد في انتخابات 2009، ما أدى إلى احتجاجات «الحركة الخضراء» إثر رفض نتائج الانتخابات التي جرت بين أحمدي نجاد والمرشحين الإصلاحيين مير حسين موسوي ومهدي كروبي.

بعد انتهاء فترة رئاسة أحمدي نجاد، سعت إيران إلى تهدئة التوترات مع الغرب، ودخلت في مفاوضات نووية بهدف إدارة هذه التوترات مع القوى الكبرى. استمرت المفاوضات لعامين، وأسفرت عن اتفاق نووي في 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة) الذي أدى إلى تجميد العقوبات الأممية المفروضة على إيران وفرض قيود على برنامجها النووي.

لعب المرشد الإيراني دوراً محورياً في المفاوضات، إذ مهّد لذلك بمفاوضات سرية خرجت للعلن بإعلان «المرونة البطولية». ووضع خامنئي خطوطاً حمراء تتضمن الحفاظ على حق إيران في تخصيب اليورانيوم، ورفع العقوبات الاقتصادية، ورفض دخول المفتشين الدوليين إلى المنشآت العسكرية.

دعم خامنئي بحذر فريق الرئيس حسن روحاني في المفاوضات النووية، رغم الضغوط من التيارات المحافظة، من دون أن يتحمل المسؤولية المباشرة عن النتائج. كانت المفاوضات توازناً بين الآيديولوجيا والمصالح الاستراتيجية، إذ سعت إيران للحفاظ على شعاراتها «الثورية»، وفي الوقت نفسه التعامل مع المتغيرات الدولية، ومواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية، وتمويل أنشطتها الإقليمية، وضمان استمرارها لاعباً رئيسياً في الشرق الأوسط.

استمر «الحرس الثوري» الإيراني في تعزيز نفوذ إيران في المنطقة، لا سيما في سوريا والعراق، وتوسعت أنشطته في دعم الجماعات التي تدعمها إيران وتعزيز وجودها العسكري هناك. كما وسّع أنشطته الصاروخية. وفي الوقت نفسه، هدد المرشد الإيراني بطرد القوات الأميركية من المنطقة. هذه الأنشطة أثارت قلق الإدارة الأميركية، ما دفع الرئيس دونالد ترمب إلى الانسحاب من الاتفاق النووي.

خامنئي خلال لقائه قدامى المحاربين في أثناء الحرب العراقية - الإيرانية (إ.ب.أ)

«الصبر» لمواجهة «الضغوط»

وفي مواجهة «الضغوط القصوى» التي مارستها إدارة ترمب، بما في ذلك منع إيران من مبيعات النفط، تمسكت طهران أكثر بسياسات «السير على حافة الهاوية» و«الصبر الاستراتيجي». كما شهدت المياه الإقليمية توترات بسبب احتجاز ناقلات نفط من قبل «الحرس الثوري» بعدما هددت طهران بعرقلة خطوط النفط. وقرر ترمب تصنيف «الحرس الثوري» على قائمة الإرهاب.

جاء مقتل قاسم سليماني بأمر من ترمب في لحظة مفصلية من تفاقم التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، مما قرب البلدين من حافة الانزلاق إلى حرب مباشرة.

في تسجيل مسرب عام 2021، دعا وزير الخارجية الإيراني الأسبق، محمد جواد ظريف، إلى تحقيق توازن بين السياسة الخارجية و«الميدان»، مشيراً إلى تأثير «فيلق القدس» الذراع الخارجية لـ«الحرس الثوري». وكشف عن انقسام داخلي بين التيار الآيديولوجي والبراغماتي، إذ سعى الأخير لتحقيق مصالح مثل رفع العقوبات. دافع ظريف عن قناعته بأن العمل الدبلوماسي يعتمد على الواقع الميداني، والعكس صحيح، إذ يمكن للدبلوماسية أن تمنح «شرعية دولية» للإنجازات الميدانية.

مع مجيء الرئيس الأميركي جو بايدن، استخدم المرشد الإيراني نفوذه لدعم «الحرس الثوري»، وأبدى مرونة محدودة لإدارة التوترات عبر المفاوضات النووية. حاول بايدن العودة للاتفاق النووي مع طهران، لكن الإجراءات النووية غير المسبوقة التي اتخذها الجانب الإيراني وتولي حكومة محافظة بقيادة الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، ودخول روسيا في حرب مع أوكرانيا، عرقلت المسار الدبلوماسي إلى حد كبير.

قاسم سليماني (تسنيم)

رئيسي و«الحكومة الثورية»

مع تولي رئيسي، تمسكت طهران بالإبقاء على المسار الدبلوماسي لطاولة المفاوضات مع الغرب، من دون أن تعبر المفاوضات خط النهاية.

فسرت مرحلة رئيسي في البداية بأنها امتثال لمقاربة طرحها المرشد الإيراني بشأن تولي «حكومة ثورية» في بداية العقد الرابع من نظام الحكم، وتوحيد توجهات أركان الدولة، وحصرها بيد المحافظين، بعدما واصل هيمنته على البرلمان.

حملت حكومة إبراهيم رئيسي نقاط تشابه كبيرة مع حكومة محمود أحمدي نجاد؛ فمن جهة عادت طهران لمساعي التقارب مع القوى الإقليمية، ومن جهة أخرى راهنت على الالتفاف على العقوبات وإبطال مفعولها. وسرعت خطواتها النووية، اعتماداً على قانون أقره البرلمان في نهاية 2020، بدعم كبير من المرشد.

شهد عام 2024 تطورات غير متوقعة في إيران، إذ أدى تحطم مروحية الرئيس إبراهيم رئيسي إلى انتخابات رئاسية مبكرة فاز فيها النائب مسعود بزشيكان. تعهد الرئيس المدعوم من الإصلاحيين بمواصلة سياسة «التوجه نحو الشرق» وتعزيز العلاقات مع الصين وروسيا، إضافة إلى السعي لرفع العقوبات عبر العودة للمفاوضات النووية.

إقليمياً، تحولت طهران من «حرب الظل» مع إسرائيل إلى ضربات مباشرة، بينما تعرضت لانتكاسات استراتيجية مهمة، أبرزها سقوط نظام بشار الأسد وتراجع دور «حزب الله» و«حماس». ومن شأن هذه التطورات أن تضعف دور «الحرس الثوري» الإقليمي، لكنها قد تنذر بانتقاله لمحاولة تعويض ذلك في مناطق أخرى، بما في ذلك الداخل الإيراني.

بزشكيان ومصالحة داخلية

تأتي رئاسة بزشكيان التي ينظر إليها على أنها محاولة للمصالحة الداخلية في إيران، في فترة حساسة مع ترقب الإيرانيين لملف خلافة المرشد. من غير المتوقع أن تحدث تغييرات جذرية في العلاقات مع الغرب، ويُحتمل أن يحصل بزشكيان على صلاحيات محدودة في المفاوضات النووية.

شدد بزشكيان بعد فوز ترمب بالانتخابات الرئاسية على ضرورة إدارة العلاقة والمواجهة مع الولايات المتحدة من قبل الإيرانيين أنفسهم. قال بزشكيان إن نهج حكومته سيكون في إطار استراتيجية نظام الحكم وتوجهاته الشاملة.

من المرجح أن يحصل بزشكيان على دعم خامنئي والتيار «الثوري» للتوصل إلى تسوية تهدف إلى تخفيف الضغوط على إيران. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو لا يعني بالضرورة الابتعاد عن حافة الهاوية، بل يعكس توجهاً لتوسيع هامش المناورة في مواجهة التوترات مع الغرب. ومن المتوقع أن تستمر إيران في هذا النهج على المدى القريب، على الأقل حتى تتضح ملامح هوية المرشد الإيراني الثالث.