لا تزال الكعكة الأفريقية تمثل مطمعاً للكثير من الدول العظمى التي استعمر معظمها القارة لعقود كثيرة، ويأخذ هذه المطمع شكل الحرب الخفية المستترة، وبخاصة بعد أن تكالبت على الطاولة السمراء قوى أخرى جديدة.
في إطار هذا التكالب اهتمت دوائر النشر الفرنسية برصد التحرك الدولي صوب القارة الأفريقية، وبخاصة جمهورية الصين الشعبية عبر صفحات كتاب «الصين وأفريقيا... هل يتعلق الأمر بحلم صيني أم كابوس أفريقي؟» للصحافي الفرنسي جوليان ونر، الصادر حديثاً عن دار النشر الفرنسية إيرول، مؤكداً عبر صفحاته البالغة 128 صفحة من القطع المتوسط على مساعي الصين الحثيثة منذ 20 عاماً نحو السيطرة على القارة الأفريقية وغزوها اقتصادياً، تارة باستغلال ما تتمتع به القارة السمراء من موارد طبيعية تفتقر إليها الصين، وتارة أخرى بأن تجعل منها سوقاً رائجة لبيع منتجاتها وبضائعها بثمن بخس، إضافة إلى الإشكالية الكبرى التي تكمن في تطويق القارة الأفريقية بالقروض الصينية الممولة من كبريات الشركات التابعة للدولة الصينية؛ الأمر الذي يقدم لنا نموذجاً استعمارياً في ثوب جديد يبدو أن بكين عازمة على تنفيذه حتى النهاية من خلال محاور كثيرة، منها: السيطرة على الموارد الطبيعية الأفريقية، وإقامة فروع لشركاتها في أفريقيا، والحفاظ على معدلات الفساد في القارة بما يخدم المصالح الصينية، كذلك السيطرة على وسائل الإعلام الأفريقية بما يحافظ من شأنه على الصورة الذهنية الإيجابية للصين في القارة.
يكتسب هذا الكتاب أهمية بالغة، ليس لأن مؤلفة جوليان ونر متخصص في الشأن الصيني ومتعمق في الملف الأفريقي بأدق تفاصيله وله مؤلفات وأبحاث كثيرة في هذا الملف، لكن أيضاً لأنه يكشف لنا النقاب عن الاستراتيجية الصينية وطموحات بكين الجيوسياسية «الحلم الصيني» الذي نادي به جين بينغ، سكرتير عام الحزب الشيوعي عام 2012، قائلاً: «إن طموحنا يكمن في أن نجعل من الصين القوة الأولى عالمياً، وأن أفريقيا هي الوسيلة الأساسية لبلوغ وتحقيق هذا الحلم».
في سياق متصل، يؤكد لنا المؤلف أن كل رئيس للصين يبدأ ولايته باتخاذ شعارات له يعمل على تحقيقها عبر المساندة الشعبية والحزبية، ومن أبرزها دعوتا «الإصلاح والانفتاح» اللتان ميزتا الانتقال نحو الرأسمالية المتوحشة، والتصالح المستحيل مع ورثة الرئيس دينج ماو و«المجتمع المتناسق» وسبل تلبية احتياجات التنمية بالحفاظ على أسس المجتمع الصيني وبخاصة الحزب الشيوعي.
من جانبه، وخلال تنصيبه لمنصب سكرتير عام للحزب الشيوعي في نوفمبر (تشرين الثاني) 2012، لم يشذ جين بينغ هو الآخر عن القاعدة المعمول بها بإطلاق ما سماه «الحلم الصيني»، معرّفاً إياه بأنه يعد بمثابة استكمال لرغبة الشعب الصيني في الحياة السعيدة وتحقيق نهضة الصين كأمة عظمى، وهو الشعار الذي تبناه كذلك جميع أعضاء الحزب ووسائل الإعلام الصينية وأيضاً بعض الفنانين، كما أن هذا التوجه لا يتعارض مع آليات اتخاذ القرار في قلب السلطة الصينية، بل على العكس فقد سعت جميع طوائف المجتمع الصيني نحو تحقيق هذا الحلم باعتباره «حلم الصين»، حسب تعبير بعض الخبراء، لبلوغ غايتها لتتبوأ ما تصبو إليه من مكانة كقوة دولية أولى.
يستهل جوليان ونر كتابه هذا بالتأكيد على أن الإشكالية لم تعد تكمن في معرفة ما إذا كانت الصين ستصبح قوة عظمى عالمياً أم لا، لكن تكمن في معرفة متى سيتحقق ذلك. وهنا يرى المؤلف أن جين بينغ، الرئيس الصيني الحالي يرغب في بلوغ هذه المكانة بحلول عام 2022؛ لذلك فقد ركز جهوده على القارة الأفريقية التي لم تعد منذ ذلك الحين قارة مهملة ومهمشة، وبالتالي لم تعد بمنأى عن العولمة، وبخاصة أنها تمثل منذ بداية القرن الحالي نسبة 5 في المائة من معدل النمو الاقتصادي السنوي العالمي، كما يرى بعض الخبراء أنها تمثل مستقبل الاقتصاد العالمي؛ لأنها تجمع جوهر وأساس رهاناته المستقبلية: الرهانات الديموغرافية والاقتصادية والمواد الأولية وحماية البيئة ومكافحة الأوبئة. لذلك؛ نحن بصدد عهد التفاؤل الأفريقي الواعد وليس التشاؤم الأفريقي.
انتهاء عهد التهميش
يؤكد المؤلف أن نهاية التنافس بين الكتلتين الشرقية والغربية قد صاحبه تراجع ملحوظ في قيمة ما تتمتع به القارة الأفريقية من أدوات فاعلة، ففي تسعينات القرن الماضي اختفى الاتحاد السوفياتي واستشعرت الولايات المتحدة الأميركية أنها غير مجبرة على التمسك بالقارة الأفريقية، وبالتالي تخلت عن وجودها في القارة الأفريقية، هذا إلى جانب اتهام الأوروبيين بالتخاذل والبعد عن القارة الأفريقية وإهمالها جراء انشغالهم بأهدافهم الخاصة التي تكمن في توحيد قارتهم العجوز.
ويرى المؤلف أن اليوم قد تبدل الوضع وتغير، فلم تعد أفريقيا هي القارة المهملة والمهمشة، ولكنها بدأت تمثل موضع جذب لجميع القوى الدولية لما لها من مصالح استراتيجية فيها، لكن يأتي النفوذ الكبير والجهد العظيم لصالح الصين التي تعتبر «أن أفريقيا ليست هدفاً في حد ذاتها، لكنها تمثل أداة مهمة وفاعلة في سبيل بلوغ حلمها وقوتها ورخائها».
ويذكر المؤلف أنه على خلفية حالة العجز الذي تعاني منه الصين بشأن تحقيق اكتفائها الذاتي من المواد الأولية، نجدها تسعى نحو تجاوز هذا العجز عن طريق القارة الأفريقية العامرة والزاخرة بالمواد الأولية؛ إذ تؤكد بعض التقديرات على أن «القارة الأفريقية تتمتع وحدها فيما بين ثلث ونصف الاحتياطي العالمي من الموارد الطبيعية»، الأمر الذي دفع الصين نحو الهرولة صوب القارة السمراء، وترتب على هذا التوجه إحداث قفزة كبيرة في التبادلات التجارية بين الصين والدول الأفريقية، من 12 مليار دولار عام 2000 إلى 200 مليار دولار عام 2012، ومن ثم، نجحت الصين في تعزيز سياستها في القارة الأفريقية أكثر من القوى الغربية وإعطاء دروس فيما يسمى بـ«الاستعمار الجديد والتدخل والاندماج». ويلفت المؤلف هنا إلى أن الأفارقة غير محظوظين أو مستهدفين بالانصياع والخضوع دائماً لتبعية الغير، فما لبثوا أن تخلصوا من تبعية الاحتلال الغربي لهم، حتى نجدهم يقعون في شباك وبراثن تبعية الصين التي أضحت تمثل رقماً مهماً في الاقتصاد الأفريقي ينعكس إيجاباً على وضع مفاوضها في مواجهة الجانب الأفريقي. ولعل النموذج الصارخ في هذا الشأن يتجسد في فوز إحدى الشركات الصينية الكبرى بعقد حق استغلال حقل حديد في مدغشقر بقيمة 6.7 مليار يورو، وهو رقم ضخم للغاية بالنسبة لاقتصاد مدغشقر، يضعنا أمام واقع يعزز من وضع المفاوض الصيني الذي نجح في انتزاع مدة حق الانتفاع إلى 30 عاماً مبادلة لإقامة منطقة صناعية ساحلية ومركز هيدروليكي؛ لأن قيمة العقد تُصيب المفاوض الأفريقي بالدوار، ولا سيما أن صافي الناتج القومي لمدغشقر يقدر بـ10 مليارات يورو، وعلى ذلك فنحن أمام حالة من الهيمنة والسيطرة الصينية للقارة الأفريقية يمكن توصيفها بأنها تمثل «أحد أنماط الاستعمار الجديد للقارة الأفريقية».
يؤكد الكتاب على أن الأخطر من ذلك يكمن في أن الصين لا تحترم البيئة الأفريقية في تعاملها مع موارد القارة الأفريقية ومقدراتها، فشهوة بكين أمام المواد الأولية الأفريقية له تكلفة بيئية ضخمة لا يمكن أن تتحملها القارة الأفريقية على المدى الطويل، وبخاصة أن الصين تسعى في المقام الأول نحو تحقيق مصالحها بغض النظر عن الخطاب الرسمي الذي يتبناه الجانب الأفريقي.
ويخلص المؤلف بأنه على خلفية الفراغ الذي شهدته القارة الأفريقية جراء الإهمال والتجاهل الأميركي لها من جانب، وانشغال الأوروبيين بتقوية وتعزيز وضع قارتهم العجوز من جانب آخر، لم تجد الصين صعوبة في غزو القارة الأفريقية اقتصادياً، ومن ثم سياسياً لأن الأفارقة وجدوا في بكين ضالتهم؛ إذ خصصت الصين مبلغاً كبيراً للاستثمار في ربوع القارة الأفريقية يقدر بـ4000 مليار دولار وهو مبلغ ضخم للغاية وبخاصة لو علمنا أن إجمالي حجم الاحتياطي بالبنوك المركزية في منطقة اليورو يقدر بـ800 مليار دولار، وأن البنك الفيدرالي الأميركي لا يملك سوى 150 مليار دولار فقط، أي أننا أمام قوة اقتصادية صينية عاتية تسعى بجدية نحو تحقيق حلمها لأن تصبح القوة الاقتصادية الأولى عالمياً، وهو حلم قاب قوسين أو أدنى من الواقع، وأن القارة الأفريقية تمثل «كلمة السر» الحقيقية في سبيل تنفيذ هذا الحلم.