الوجود الصيني في أفريقيا يقلق المستعمرين القدامى

وصفوه بنمط الاستعمار الجديد للقارة السمراء

فازت إحدى الشركات الصينية الكبرى بعقد حق استغلال حقل حديد في مدغشقر بقيمة 6.7 مليار يورو
فازت إحدى الشركات الصينية الكبرى بعقد حق استغلال حقل حديد في مدغشقر بقيمة 6.7 مليار يورو
TT

الوجود الصيني في أفريقيا يقلق المستعمرين القدامى

فازت إحدى الشركات الصينية الكبرى بعقد حق استغلال حقل حديد في مدغشقر بقيمة 6.7 مليار يورو
فازت إحدى الشركات الصينية الكبرى بعقد حق استغلال حقل حديد في مدغشقر بقيمة 6.7 مليار يورو

لا تزال الكعكة الأفريقية تمثل مطمعاً للكثير من الدول العظمى التي استعمر معظمها القارة لعقود كثيرة، ويأخذ هذه المطمع شكل الحرب الخفية المستترة، وبخاصة بعد أن تكالبت على الطاولة السمراء قوى أخرى جديدة.
في إطار هذا التكالب اهتمت دوائر النشر الفرنسية برصد التحرك الدولي صوب القارة الأفريقية، وبخاصة جمهورية الصين الشعبية عبر صفحات كتاب «الصين وأفريقيا... هل يتعلق الأمر بحلم صيني أم كابوس أفريقي؟» للصحافي الفرنسي جوليان ونر، الصادر حديثاً عن دار النشر الفرنسية إيرول، مؤكداً عبر صفحاته البالغة 128 صفحة من القطع المتوسط على مساعي الصين الحثيثة منذ 20 عاماً نحو السيطرة على القارة الأفريقية وغزوها اقتصادياً، تارة باستغلال ما تتمتع به القارة السمراء من موارد طبيعية تفتقر إليها الصين، وتارة أخرى بأن تجعل منها سوقاً رائجة لبيع منتجاتها وبضائعها بثمن بخس، إضافة إلى الإشكالية الكبرى التي تكمن في تطويق القارة الأفريقية بالقروض الصينية الممولة من كبريات الشركات التابعة للدولة الصينية؛ الأمر الذي يقدم لنا نموذجاً استعمارياً في ثوب جديد يبدو أن بكين عازمة على تنفيذه حتى النهاية من خلال محاور كثيرة، منها: السيطرة على الموارد الطبيعية الأفريقية، وإقامة فروع لشركاتها في أفريقيا، والحفاظ على معدلات الفساد في القارة بما يخدم المصالح الصينية، كذلك السيطرة على وسائل الإعلام الأفريقية بما يحافظ من شأنه على الصورة الذهنية الإيجابية للصين في القارة.
يكتسب هذا الكتاب أهمية بالغة، ليس لأن مؤلفة جوليان ونر متخصص في الشأن الصيني ومتعمق في الملف الأفريقي بأدق تفاصيله وله مؤلفات وأبحاث كثيرة في هذا الملف، لكن أيضاً لأنه يكشف لنا النقاب عن الاستراتيجية الصينية وطموحات بكين الجيوسياسية «الحلم الصيني» الذي نادي به جين بينغ، سكرتير عام الحزب الشيوعي عام 2012، قائلاً: «إن طموحنا يكمن في أن نجعل من الصين القوة الأولى عالمياً، وأن أفريقيا هي الوسيلة الأساسية لبلوغ وتحقيق هذا الحلم».
في سياق متصل، يؤكد لنا المؤلف أن كل رئيس للصين يبدأ ولايته باتخاذ شعارات له يعمل على تحقيقها عبر المساندة الشعبية والحزبية، ومن أبرزها دعوتا «الإصلاح والانفتاح» اللتان ميزتا الانتقال نحو الرأسمالية المتوحشة، والتصالح المستحيل مع ورثة الرئيس دينج ماو و«المجتمع المتناسق» وسبل تلبية احتياجات التنمية بالحفاظ على أسس المجتمع الصيني وبخاصة الحزب الشيوعي.
من جانبه، وخلال تنصيبه لمنصب سكرتير عام للحزب الشيوعي في نوفمبر (تشرين الثاني) 2012، لم يشذ جين بينغ هو الآخر عن القاعدة المعمول بها بإطلاق ما سماه «الحلم الصيني»، معرّفاً إياه بأنه يعد بمثابة استكمال لرغبة الشعب الصيني في الحياة السعيدة وتحقيق نهضة الصين كأمة عظمى، وهو الشعار الذي تبناه كذلك جميع أعضاء الحزب ووسائل الإعلام الصينية وأيضاً بعض الفنانين، كما أن هذا التوجه لا يتعارض مع آليات اتخاذ القرار في قلب السلطة الصينية، بل على العكس فقد سعت جميع طوائف المجتمع الصيني نحو تحقيق هذا الحلم باعتباره «حلم الصين»، حسب تعبير بعض الخبراء، لبلوغ غايتها لتتبوأ ما تصبو إليه من مكانة كقوة دولية أولى.
يستهل جوليان ونر كتابه هذا بالتأكيد على أن الإشكالية لم تعد تكمن في معرفة ما إذا كانت الصين ستصبح قوة عظمى عالمياً أم لا، لكن تكمن في معرفة متى سيتحقق ذلك. وهنا يرى المؤلف أن جين بينغ، الرئيس الصيني الحالي يرغب في بلوغ هذه المكانة بحلول عام 2022؛ لذلك فقد ركز جهوده على القارة الأفريقية التي لم تعد منذ ذلك الحين قارة مهملة ومهمشة، وبالتالي لم تعد بمنأى عن العولمة، وبخاصة أنها تمثل منذ بداية القرن الحالي نسبة 5 في المائة من معدل النمو الاقتصادي السنوي العالمي، كما يرى بعض الخبراء أنها تمثل مستقبل الاقتصاد العالمي؛ لأنها تجمع جوهر وأساس رهاناته المستقبلية: الرهانات الديموغرافية والاقتصادية والمواد الأولية وحماية البيئة ومكافحة الأوبئة. لذلك؛ نحن بصدد عهد التفاؤل الأفريقي الواعد وليس التشاؤم الأفريقي.

انتهاء عهد التهميش

يؤكد المؤلف أن نهاية التنافس بين الكتلتين الشرقية والغربية قد صاحبه تراجع ملحوظ في قيمة ما تتمتع به القارة الأفريقية من أدوات فاعلة، ففي تسعينات القرن الماضي اختفى الاتحاد السوفياتي واستشعرت الولايات المتحدة الأميركية أنها غير مجبرة على التمسك بالقارة الأفريقية، وبالتالي تخلت عن وجودها في القارة الأفريقية، هذا إلى جانب اتهام الأوروبيين بالتخاذل والبعد عن القارة الأفريقية وإهمالها جراء انشغالهم بأهدافهم الخاصة التي تكمن في توحيد قارتهم العجوز.
ويرى المؤلف أن اليوم قد تبدل الوضع وتغير، فلم تعد أفريقيا هي القارة المهملة والمهمشة، ولكنها بدأت تمثل موضع جذب لجميع القوى الدولية لما لها من مصالح استراتيجية فيها، لكن يأتي النفوذ الكبير والجهد العظيم لصالح الصين التي تعتبر «أن أفريقيا ليست هدفاً في حد ذاتها، لكنها تمثل أداة مهمة وفاعلة في سبيل بلوغ حلمها وقوتها ورخائها».
ويذكر المؤلف أنه على خلفية حالة العجز الذي تعاني منه الصين بشأن تحقيق اكتفائها الذاتي من المواد الأولية، نجدها تسعى نحو تجاوز هذا العجز عن طريق القارة الأفريقية العامرة والزاخرة بالمواد الأولية؛ إذ تؤكد بعض التقديرات على أن «القارة الأفريقية تتمتع وحدها فيما بين ثلث ونصف الاحتياطي العالمي من الموارد الطبيعية»، الأمر الذي دفع الصين نحو الهرولة صوب القارة السمراء، وترتب على هذا التوجه إحداث قفزة كبيرة في التبادلات التجارية بين الصين والدول الأفريقية، من 12 مليار دولار عام 2000 إلى 200 مليار دولار عام 2012، ومن ثم، نجحت الصين في تعزيز سياستها في القارة الأفريقية أكثر من القوى الغربية وإعطاء دروس فيما يسمى بـ«الاستعمار الجديد والتدخل والاندماج». ويلفت المؤلف هنا إلى أن الأفارقة غير محظوظين أو مستهدفين بالانصياع والخضوع دائماً لتبعية الغير، فما لبثوا أن تخلصوا من تبعية الاحتلال الغربي لهم، حتى نجدهم يقعون في شباك وبراثن تبعية الصين التي أضحت تمثل رقماً مهماً في الاقتصاد الأفريقي ينعكس إيجاباً على وضع مفاوضها في مواجهة الجانب الأفريقي. ولعل النموذج الصارخ في هذا الشأن يتجسد في فوز إحدى الشركات الصينية الكبرى بعقد حق استغلال حقل حديد في مدغشقر بقيمة 6.7 مليار يورو، وهو رقم ضخم للغاية بالنسبة لاقتصاد مدغشقر، يضعنا أمام واقع يعزز من وضع المفاوض الصيني الذي نجح في انتزاع مدة حق الانتفاع إلى 30 عاماً مبادلة لإقامة منطقة صناعية ساحلية ومركز هيدروليكي؛ لأن قيمة العقد تُصيب المفاوض الأفريقي بالدوار، ولا سيما أن صافي الناتج القومي لمدغشقر يقدر بـ10 مليارات يورو، وعلى ذلك فنحن أمام حالة من الهيمنة والسيطرة الصينية للقارة الأفريقية يمكن توصيفها بأنها تمثل «أحد أنماط الاستعمار الجديد للقارة الأفريقية».
يؤكد الكتاب على أن الأخطر من ذلك يكمن في أن الصين لا تحترم البيئة الأفريقية في تعاملها مع موارد القارة الأفريقية ومقدراتها، فشهوة بكين أمام المواد الأولية الأفريقية له تكلفة بيئية ضخمة لا يمكن أن تتحملها القارة الأفريقية على المدى الطويل، وبخاصة أن الصين تسعى في المقام الأول نحو تحقيق مصالحها بغض النظر عن الخطاب الرسمي الذي يتبناه الجانب الأفريقي.
ويخلص المؤلف بأنه على خلفية الفراغ الذي شهدته القارة الأفريقية جراء الإهمال والتجاهل الأميركي لها من جانب، وانشغال الأوروبيين بتقوية وتعزيز وضع قارتهم العجوز من جانب آخر، لم تجد الصين صعوبة في غزو القارة الأفريقية اقتصادياً، ومن ثم سياسياً لأن الأفارقة وجدوا في بكين ضالتهم؛ إذ خصصت الصين مبلغاً كبيراً للاستثمار في ربوع القارة الأفريقية يقدر بـ4000 مليار دولار وهو مبلغ ضخم للغاية وبخاصة لو علمنا أن إجمالي حجم الاحتياطي بالبنوك المركزية في منطقة اليورو يقدر بـ800 مليار دولار، وأن البنك الفيدرالي الأميركي لا يملك سوى 150 مليار دولار فقط، أي أننا أمام قوة اقتصادية صينية عاتية تسعى بجدية نحو تحقيق حلمها لأن تصبح القوة الاقتصادية الأولى عالمياً، وهو حلم قاب قوسين أو أدنى من الواقع، وأن القارة الأفريقية تمثل «كلمة السر» الحقيقية في سبيل تنفيذ هذا الحلم.


مقالات ذات صلة

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)
كتب بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة

ندى حطيط

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما
TT

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما» Simon Schama، في كتابه «قصة اليهود» The story of the Jews الصادر عن دار نشر «فينتغ بوكس» في لندن Vintige Books London، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين في دلتا النيل في مصر سنة 475 قبل الميلاد حتى نفيهم من إسبانيا سنة 1492 ميلادية. وهو يذكر أنهم في البداية كانوا عبيداً في مصر وطُردوا بشكل جماعي، وهم حتى اليوم يحتفلون بذكرى تحررهم من العبودية في مصر. وقد أمرهم إلههم بعدم العودة إلى مصر لكنهم عصوا أمره وعادوا مراراً وتكرارً إليها. واعتماداً على أسفار موسى الخمسة، وعلى آثار عمليات التنقيب في مصر، كانت بين يدي الكاتب مادة خصبة أعانته على جمع أدلة تفيده في نثر كتابه الذي يتناول مدة زمنية أسهمت في تكوين مصير مَن حُكم عليهم بالعيش حياة الشتات في الشرق والغرب.

ويذكر الكاتب أن اليهود عاشوا حياة الشتات، وأنهم أقلية مسحوقة دائماً بين قطبين، وبين حضارتين عظيمتين؛ بين الحضارة الأخمينية وحضارة الإغريق، بين بابل ووادي النيل، بين البطالمة والسلوقيين، ثم بين الإغريق والرومان.

وهكذا عاشوا منغلقين في قوقعة في أي مجتمع يستقرون فيه ، فمثلاً فترة انتشار الإمبراطورية الإغريقية وجدوا صعوبة في الحصول على المواطَنة الإغريقيّة لأنها كانت تعتمد على ثلاث ركائز: المسرح، والرياضة (الجيمانيزيوم) التي لا يمكن أن تتحقق من دون ملاعبَ العريُ التامُّ فيها إلزاميٌّ، الشيء الذي لا يتماشى مع تعاليم اليهودية، والدراسة الأكاديمية، التي لا يمكن أن يصلوا إليها.

صحيح أنهم عاشوا في سلام مع شعوب المنطقة (سوريين، وإغريقاً، وروماناً، وفُرساً، وآشوريين، وفراعنة، وفينيقيين) لكن دائماً كانوا يشعرون بأن الخطر على الأبواب، حسب الكاتب، وأي حدث عابر قد يتحول إلى شغب ثم تمرُّد ثم مجزرة بحقهم. ومن الطبيعي أن تتبع ذلك مجاعة وصلت أحياناً إلى تسجيل حالات أكل الأحذية وحتى لحوم البشر، ومذابح جماعية تشمل الأطفال والنساء وتدنيس المقدسات. ويضرب الكاتب هنا مثلاً بمحاولة انقلاب فاشلة قام بها القديس ياسون على الملك السلوقي أنطيوخس إبيفانيوس الرابع، فتحول هذا الأخير إلى وحش، وأمر بقتل كل يهودي في شوارع القدس وهدم المقدسات، وقدَّم الخنازير أضحية بشكل ساخر بدلاً من الخراف، وأجبر اليهود على أكل لحم الخنزير، وأخذ آلاف الأسرى لبيعهم في سوق النخاسة. وبعد فترة استقرار قصيرة في القدس، وأفول الحضارة الإغريقيّة لتحل مكانها الحضارة الرومانية، ذهب وفد من اليهود إلى الملك الروماني لمناشدته منح اليهود في القدس حكماً ذاتياً.

طبعاً هذه كانت مماطلة لا تُلغي وقوع الكارثة لكن تؤجلها. حتى إن الملك غاليكولا أمر ببناء تمثال له على هيئة إله وتنصيبه وسط معبد اليهود الذين كانوا يَعدّون ذلك من الكبائر.

حتى جاء اليوم الذي وقف فيه على أبوابها الملك الروماني بومبي الكبير فارضاً حصاراً دام عامين انتهى باصطحابه الأسرى اليهود مقيدين بالسلاسل لعرضهم في شوارع روما، تلت ذلك هجرة جماعية كانت آخر هجرة لهم. وهم فسروا ذلك بوصفه عقاباً إلهياً «لأنه لا يمكن أن يكون الله قد تخلى عنهم في وقت السلم كما في وقت الحرب. لأن السلم لم يكن سلم عزٍّ بل كان ذلاً».

وفي أوروبا العصور الوسطى، كان مفروضاً عليهم ارتداء شعار خاص لتمييزهم أيضاً عن باقي الناس، ومُنعوا من العمل في الوظائف الرسمية الحكومية مثل مهن الطبيب والمحامي والقاضي، حتى المهن الحرفية تم حرمانهم من التسجيل في نقاباتها. هذا بالنسبة ليهود الأشكنازي، أما بالنسبة ليهود إسبانيا السفاردي، فقد أصدرت الملكة إيزابيلا سنة 1492 (نفس سنة خروج الإسلام من إسبانيا) قانوناً لطرد اليهود من إسبانيا، ومنع اليهود من ارتداء الملابس الفاخرة، والتجول فقط في النهار، والعيش في أحياءً منعزلة، كما لا يحق لهم العمل مع المسيحيين أو العكس أو يكون عندهم خادمة مسيحية مثلاً، ومنعهم من امتلاك عقارات أو منح القروض إلا بشروط معينة...

لكن ما سبب هذا الاضطهاد بحق اليهود؟

حسب الكاتب، هناك سببان: أولاً وشايتهم إلى الملك الروماني وتحريضه لمحاكمة يسوع وهتافهم وقت صلبه «اقتلوه... اقتلوه»، أما السبب الآخر فهو أن الملكة إيزابيلا وضعت أمام اليهود الاختيار بين ثلاثة احتمالات: اعتناق المسيحية أو القتل أو الطرد، في حملةٍ لتطهير البلد من اليهودية. القليل من اليهود اعتنق المسيحية؛ خوفاً، وكان يطلق عليهم اسم «كونفرتو»، أو «المسيحيون الجدد»، لكن في السر استمروا في ممارسة طقوسهم اليهودية، وكان يطلق عليهم اسم «Marranos».

كتاب «قصة اليهود» لم يقتصر فقط على ذلك، فإلى إلى جانب فصول عن الحملات والحروب، هناك فصول عن اليهود في شبه الجزيرة العربية فترة النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، ويهود الأندلس، وصلاح الدين الأيوبي، ويهود مصر، وكذلك يهود بريطانيا، ويهود إسبانيا. وكذلك يفتح لنا الكتاب نوافذ على الحياة الاجتماعية والثقافية لشعوب ذاك الزمان، ويسرد تفاصيل الهندسة المعمارية بجماليّاتها خصوصاً لدى الإغريق، حيث اشتهرت عمارتهم بالأعمدة والإفريز والرواق والفسيفساء، الشيء الذي أخذه منهم اليهود.

لكنَّ هناك نقاطاً أخفق المؤلف في تسليط الضوء عليها أو طرحها في سياق المرحلة التاريخية التي يتناولها الكتاب، ومنها مرحلة حياة عيسى، عليه السلام، من لحظة ولادته حتى وقت محاكمته وصلبه، رغم أهميتها في مجريات الأحداث بتفاصيلها التي كانت انعطافاً كبيراً في تاريخ اليهود خصوصاً والعالم عموماً. ثانياً، وعلى الرغم من دقة وموضوعية المعلومات ورشاقة السرد، فإن الكاتب لم يذكر لحظات أو مراحل إيجابية عن حياة اليهود بقدر ما ذكر أهوال الحروب والحملات ضدهم وتوابعها عليهم.

وأعتمد المؤلف على المخطوطات parchments، أو رسائل على ورق البردي، وعلى قطع فخارية أثرية اكتُشفت في القرن الماضي ضمن حملات بتمويل حكومي ضخم لبعثات أثرية بريطانية وأميركية وفرنسية تسمى «Fact finding expenditures»، أي «بعثات البحث عن الحقيقة». وكذلك على وثائق تروي قصص ناس عاديين من عقود زواج أو ملفات دعاوى قضائية، بالإضافة إلى مؤلفات المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيو.