قبل وفاة المخرج الهندي مرينال سن في الثلاثين من ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعاد نشر كتابه الصادر قبل عقدين تحت عنوان «مونتاج». الكتاب هو «مونتاج» فعلي؛ إذ يتألف من مزيج من الذكريات والمقابلات والمقالات النقدية، وربما ما يلفت أكثر من سواه اعتراف المخرج فيه بأنه عندما أمّ الإخراج لأول مرّة، سنة 1956، لم تكن السينما هي اختياره الأول ولا مجاله. يكتب: «أقول بكل وضوح: لم يكن لدي أي اهتمام بالسينما».
ما يقوله صحيح؛ فهو درس الطب في «المعهد الكنسي الإسكتلندي» في كالكوتا، وانتقل إلى جامعة المدينة طالباً، وكان خلال ذلك يعيش الواقع الاجتماعي والثقافي بعيداً عن جانبهما الفني. يشارك في المظاهرات ويتبنى الفكر اليساري ويحث على المساواة والعدالة وكل ما سيق في تلك الفترة من هموم وطنه السياسي والاجتماعي.
- اكتشف السينما عبر كتاب
هي الفترة ذاتها التي عرفت فيها الهند مثل تلك التجاذبات بين الآيديولوجيات اليسارية واليمينة. وهي الفترة ذاتها التي أنجبت مخرجين مختلفين عن سينما الترفيه الهندية، هما ريتويك خاداك وساتياجيت راي.
راي لمع أكثر من زميليه؛ كونه قدّم أفلاماً مطرّزة بأسلوب غير خطابي. مثل مرينال سن كان ناقداً، لكنه ردم حدة النقد بطريقته في معالجة ما ينتقده وحصر ملاحظاته في النماذج البشرية التي قد - وربما قد لا - تمثّـل السُلطة ذاتها. تنهل من الواقع، لكنها لا تمتد لكي تصرخ في وجهه. في لقائي الأول (من اثنين) مع مرينال سن سألته عن رأيه في ساتياجت راي فابتسم وأجاب: «لدينا طريقتان مختلفتان للنظر إلى الأمور، وأنا أحب طريقتي».
هذا الاختلاف أفاد مرينال سن من حيث إنه كان، فعلياً، المخرج الهندي الأشهر القادم من منطقة البنغال الذي لديه أسلوب عمل ومعالجة واقعيان ينظر من خلالهما إلى الحياة اليومية للشخصيات المردمة تحت وابل الضغوط المعيشية. أفلامه، مثل «في البحث عن مجاعة» (الذي نال جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان برلين سنة 1981) و«القضية أقفلت» (عرضه مهرجان «كان» في عام 1982) كانت متجذرة بالمسائل الإنسانية ليس في منطقة البنغال فقط، بل سعى لتحقيق أفلامه في عموم الهند.
ولد مرينال سن في الرابع عشر من مايو (أيار) سنة 1923. القرية البنغالية التي ولد فيها اسمها فريدبور، وفي أيامه كانت جزءاً من المقاطعة، لكن الأحداث اللاحقة جعلتها جزءاً من بنغلادش ذات الغالبية المسلمة. يقول في فصل عنونه بـ«دائماً مولود» (Always Being Born) إنه قصد كالكوتا شاباً، وأقبل على القراءة في المكتبة الوطنية (حينها، في أواخر الثلاثينات) كان اسمها «المكتبة الإمبريالية»): «قرأت كل ما وقعت عليه عيناي. كنت أقرأ أي شيء يلفت اهتمامي وكل شيء آخر».
كان لا بد لهذا القارئ النهم أن يرتطم يوماً بكتاب ما عن السينما، وهذا ما حدث فعلاً؛ إذ وقع على كتاب نقدي وضعه في الثلاثينات رودولف أرنهايم بعنوان «الفيلم كفن». هذا فتح شهيته على قراءة المزيد عن السينما نقداً وتاريخاً وتيارات.
ساعده هذا الاكتشاف الموحي للسينما على تغيير خطة سيره؛ فبدأ الكتابة ناقداً في منتصف خمسينات القرن الماضي، وأنجز فيلمه الأول سنة 1956 بعنوان «رات بهور»، ثم واصل الإخراج بلا انقطاع من عام 1959 من دون أن يُلحظ جهده نقدياً أو تجارياً.
في الفصل ذاته ذكرٌ لحادثة سمعتها منه قبل سنين. ففي عام 1967 أنجز مرينال سن واحداً من أفلامه الصغيرة التي لم تلق الرواج. لكن هذا الفيلم، وعنوانه «منظور متحرك» سقط تجارياً على نحو تام، وتبعاً لهذا الإخفاق عايش المخرج وضعاً اقتصادياً حرجاً.
خلال تلك الفترة، قصد صديقاً له في بومباي (مومباي حالياً) وحكى له وضعه. أدخله صديقه غرفة في بيته وأغلق الباب عليه بعدما قال له: «لن تخرج من هذه الغرفة إلا من بعد أن تنتهي من كتابة سيناريو فيلم جديد».
يذكر مرينال سن في كتابه، أن صديقه كان يدخل عليه كل تسعين دقيقة ومعه آنية تحمل الشاي والسكر. ويعد له ثلاث وجبات. ثم يتركه وحيداً. وعن ذلك قال «كان هذا أفضل تحدٍ جابهني في ذلك الحين. في البداية لم أكن متأكداً أنني أستطيع كتابة أي شيء تحت هذا الضغط. لكني خرجت بفكرة فيلم بعد ثلاث ساعات. في اليوم التالي بعث بها صديقي إلى بعض معارفه في الحكومة، وبعد أيام جاء الرد مصحوباً بتمويل خاص».
النتيجة كانت سيناريو أول فيلم مهم أنجزه مرينال سن وهو «بهوڤان شوم» (Bhuvan Shome). العنوان ينتمي إلى اسم شخصيته الأولى (مثلها أوبتال دوت الذي ظهر في أكثر من 250 فيلماً).
من هذا الفيلم ارتفعت أسهم مرينال سن و اتسعت الفجوة بينه وبين ساتياجيت راي الذي وصفه مرينال سن لي، كما ردده في أكثر من مناسبة، بـ«المخرج المهم الذي لا يثيرني ما يقوم به».
حين سألته ذات مرّة عن السبب قال: «لدى راي ذلك الإيمان بأنه يستطيع حل الأزمات التي يطرحها في أفلامه عبر النوايا الإنسانية الحسنة. هذه النوايا لا تفعل شيئاً في الواقع. لا تفيد المحتاجين والمعوزين. إنها تنقلهم إلى حلم وردي... كذلك تفعل الأفلام الميلودرامية في بلادي».
لكن شعور مرينال سن حيال ساتياجيت راي كانت ذاتها مشاعر الثاني حياله. هذا البعد بين المواقف أثرى السينما الهندية البديلة في تلك الآونة. فبينما كانت السينما الهندية تغرق السوق بألف فيلم غنائي وميلودرامي واستعراضي وكوميدي كان هناك القلة التي تعمل خارج هذا النطاق، ومرينال سن من بينهم بكل تأكيد. تأثره بالموجة الفرنسية الجديدة وقف خلف أعماله، لكن تعبيره عن حياة الإنسان الهندي بعيداً عن التنازلات استمر ونما في مطلع السبعينات عندما أنجز ثلاثية دارت أحداثها في مدينة كالكوتا، وهي «مقابلة» (1971) و«كالكوتا 71» (1972) و«ذا غوريللا فايتر» (1973).
بعض حكاياته انطلقت من حبكة محدودة. في «مقابلة» نرى قصة بسيطة القوام حول الرجل الذي فقد وظيفته لأنه لم يستطع شراء بدلة جديدة يرتديها. في المقابل أنجز أعمالاً أعلى طموحاً في المعالجة من «مقابلة». «ذا غوريللا فايتر» كان عن اليسار الهندي المتطرف وفيه قال: «رغبت في صنع فيلم مزعج. لم أكترث لتحقيق فيلم فني».
«الصيد الملكي» (The Royal Hunt) سنة 1976 كان أول فيلم ملوّن ينجزه، وأحداثه تقع في الثلاثينات في قرية هندية نائية فيما كان يسمى بـ«الهند البريطانية».
أفضل أفلامه، بالنسبة لهذا الناقد على الأقل، كان «والفجر ينبلج بهدوء» (And Quiet Rolls the Dawn). إنه عن غياب مفاجئ لإحدى شخصيات الفيلم الرئيسية. صوّره في 21 يوماً وعزز عبره مكانته العالمية التي تنطوي الكثير من صفحاتها بوفاته.
قابلته مرّة أخيرة في إحدى دورات مهرجان القاهرة السينمائي الأخيرة. كان كبر في العمر، بطبيعة الحال، لكنه كان لا يزال يحافظ على لياقته وابتسامته. تقدمت منه وذكّرته بنفسي. في البداية لم يتذكر. بعد نحو ربع ساعة من تجاذب الحديث سألني إذا ما كنت ذلك الناقد العربي الذي التقاه في مهرجان موسكو ذات مرّة. قال: «لا بد أنك هو. كنت أول ناقد عربي ألتقي به في حياتي».