علي الشوك ... نموذجاً لثلاث حيوات

TT

علي الشوك ... نموذجاً لثلاث حيوات

يقول توماس مان إن حياة أي إنسان هي ليست حياته فقط بل حياة جيله وعصره. ولعلي أجد في الفقيد علي الشوك نموذجاً لثلاث حيوات تعاقبت وتزامنت مع بعضها بعضا: فحياته الشخصية التي أشار في مكان ما إلى محفزاتها الأربعة: الرياضيات والموسيقى والأدب والمرأة. وحياة جيله بأفكاره وقناعاته واهتماماته وحياة عصره بانتمائه السياسي وقناعاته الفلسفية العميقة.
ولعل الرياضيات هي ما يميزه عن أبناء جيله الذين رحل أغلبهم قبله: فؤاد التكرلي، نجيب ألمانع، غائب طعمة فرمان، بدر شاكر السياب، عبد الوهاب البياتي، وآخرون. وكل هؤلاء ولدوا بين عامي 1926 و1930. تلك الفترة التي بدأ العراق يخرج من معطف الإمبراطورية العثمانية المنتمي إلى القرون الوسطى، ويدخل في العصر الحديث.
جيل علي الشوك واجه هذا التحول المفاجئ: الدخول المتأخر في عصر الحداثة مع ظهور ملامح عصرية لبغداد من مطاعم وفنادق ومقاه وشوارع فسيحة ومحطات قطار وباصات وبيوت حديثة بشيء من القطيعة مع الأجيال التي سبقتهم، وفي الوقت نفسه مع النظام الذي صاغه المحتلون البريطانيون للعراق. وهذا العالم الجديد يمكن تلمسه في رواية غائب طعمة فرمان: خمسة أصوات: بغداد خلال عقد الخمسينيات من القرن الماضي.
ولعل انتماء علي الشوك لجيله وعصره تمثل في الارتباط المبكر بالحركة الشيوعية في العراق، رغم خلفيته الطبقية إذا جاز القول.
كان هذا الانتماء بالنسبة إليه رومانسياً أكثر منه عقائدياً محضاً. مع ذلك فقد دفع ثمناً باهظاً حين اعتقل بعد انقلاب 8 فبراير (شباط) الدموي عام 1963.
الاختلاف الأساسي مع أبناء جيله هو ولعه بالرياضيات الذي دفعه إلى ترك دراسة الهندسة المعمارية في جامعة بيروت والتحول إلى الرياضيات. مع ذلك كان الفقيد علي الشوك مشدوداً إلى ما هو نقيض الرياضيات: الأدب. فبالقدر الذي تطالب الرياضيات عاشقها التفرغ لها تماماً والدخول في عوالمها المجردة ومنطقها الصارم يطالب الأدب بالانجرار إلى الحياة اليومية للآخرين وللنفس والسعي إلى اكتشاف أسرارها: أي التورط الكامل في الحياة.
وكأن هذا الجمع كان على حساب الاثنين. فعلي الشوك لم يكمل دراسته في حقل الرياضيات ليصبح أكاديمياً جامعياً ومبدعاً فيها كما هو الحال مع عالم الرياضيات ريمون نجيب شكوري الذي هو الآخر ترك دراسة الهندسة المعمارية واتجه إلى الرياضيات في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي ليصبح بعد عودته من الولايات المتحدة وإكمال دراسته للدكتوراه أستاذاً في كلية العلوم بجامعة بغداد ومؤسساً لمنهج الرياضيات المعاصرة التي تم اتباعها في منتصف السبعينيات من القرن الماضي في العراق.
على العكس من ذلك، لم يكمل الراحل علي الشوك دراسة الرياضيات في الولايات المتحدة واكتفى بشهادة البكالوريوس، وعند عودته للعراق عمل مدرساً للرياضيات في الثانويات حتى اضطراره مغادرة العراق عام 1979. كذلك هو الحال مع الموسيقى الكلاسيكية، فالجيل الذي خرج من شرنقة مدينة قرون وسطى خربة كبغداد إلى نور الحداثة المفاجئ لم يواجه ذلك الإرث الموسيقي إلا بالقطيعة.
بدلاً من ذلك أصبح للموسيقى الكلاسيكية جمهور صغير يحضر في تلك البيوت الفخمة ببغداد جلسات استماع ونقاش للسيمفونيات الكبرى.
باعتراف علي الشوك كان للراحل نجيب المانع أثر بارز في خلق هذا الولع والدخول إلى عالم الموسيقى. وفي كتابه «عمر أكلته الحروف» يشير ألمانع أيضاً إلى عاملين لعبا دوراً في خلق ولعه بالموسيقى الكلاسيكية: شرح توفيق الحكيم للسيمفونية الخامسة لبتهوفن في روايته «عصفور من الشرق» حين حضر البطل حفلة موسيقية في باريس، والثاني هو تلك الأسطوانات التي كان يتخلص الجنود البريطانيون في قاعدة الشعيبة بالبصرة منها فتصل إلى السوق الشعبية وتباع بأسعار بخسة ومنها تعرف خلال الأربعينات على بيتهوفن وموتزارت وشوبان وغيرهم.
الفارق الآخر هو اهتمام علي الشوك بالميثولوجيا واستغراقه المعمق في قراءة الكثير من كتبه ولا أتذكر اسم الكتاب الذي أصدره عنها وأظنه ينتمي إلى الإعداد أكثر منه إلى التأليف. ومن فضائله على المكتبة العربية أنه ترجم الكثير من المصطلحات والمفاهيم في هذا الحقل إضافة إلى تعريفه بأحد العلماء في هذا الحقل: روبرت غريفز.
في الموسيقى قدم علي الشوك وبشكل معمق كل ما يحتاج إليه القارئ لمقاربة هذا الحقل الرفيع وهو مسلح بالمعرفة.
وفي مجال الرياضيات وعلاقته بالفنون الأخرى كان كتاب «الأطروحة الفنطازية» الذي اعتبر ولحد اليوم رائعته المتفردة، للكثير من القراء.
وقد ساعدته الرياضيات على الغور في الفيزياء الحديثة بحقولها المختلفة من علم الكون وفيزياء الكم وعلم الوراثة وغيرها. ولعل كتابه «الثورة العلمية الحديثة وما بعدها» (الصادر عن دار المدى عام 2004) معلماً فارقاً. وهو خليط ما بين التأليف والإعداد. والحقول التي تضمنها تشير بشكل مثير للإعجاب مدى اطلاع الفقيد الشوك بهذه الحقول المعقدة والمختلفة وقدرته على المحاججة مع هذا الرأي أو ذاك.
في هذا الكتاب وجدت علي الشوك ابن جيله الذي تربى على الفكر المادي فكانت محاججته ضد بعض أفكار أحد مكتشفي وصائغي علم فيزياء الكم الدنماركي نيلز بوهر استنادا إلى كتاب لينين «المادية والنقد التجريبي» دليلاً على أن الفرد يبقى منتمياً إلى عصره وجيله حتى لو تغيرت قناعاته السياسية لاحقاً.
في هذا الكتاب يقدم علي الشوك مساهمة مهمة في تعريب عدد كبير من المصطلحات العلمية المعقدة بصيغة معبرة ودقيقة.
تأتي المرحلة الرابعة الأخيرة من حياة علي الشوك وهو يقترب من الثمانين: إنه الأدب الذي ظل قارئاً ملماً له أكثر منه مبدعاً. وفي رواياته الثلاث الأولى التي قرأتها وجدت أنها أقرب لرواية السيرة الذاتية منها إلى الرواية التقليدية. والشخصيات هي أصدقاء وزملاء ورفاق التقى بهم في رحلة الحياة.
كأن علي الشوك في اندفاعه الأخير يكتشف أنه كان عليه التفرغ للأدب منذ البداية حتى بوجود نوازع قوية تجره بعيداً عنها: كأن وجود أكثر من معشوق بالنسبة إلى العاشق تفقده القدرة على سكب العاطفة كاملة في آنية واحدة فتتوزع هذه العاطفة بشكل غير متساوٍ على عكس قانون الأواني المستطرقة الذي يجعل السائل يأخذ نفس المستوى في جميعها.
مفاجأة أخرى في رواياته: معرفة علي الشوك بالمحيط البريطاني وتغلغله فيه مدهشة وهو الذي قدم إلى لندن في أوائل التسعينيات لاجئا أي بعد تخطيه سن الستين، وهذا بالذات إنجاز فريد يحسب له.
الشيء الآخر وكما قال هو: ولعه بالمرأة الذي ظل مخفياً بسبب طبيعته الخجولة الحيية تجلى بشكل مثير للاهتمام (والجدل) في هذه الروايات.
سيظل الإرث الفكري الذي تركه علي الشوك محض اهتمام أجيال تعقبنا من عراقيين وعرب بشكل عام. ففيها من الغنى الذي لا يقدم معرفة بهذه الحقول الأربعة فقط: الرياضيات والعلوم، الموسيقى، الميثولوجيا والأدب بل هي تمنحهم فرصة التعرف على الإنسان نفسه: الإنسان سواء كان علي الشوك أو الإنسان ابن جيله أو الإنسان بشكل عام، أي أنفسهم.



افتتاح «مركز الدرعية» الوجهة الأولى لفنون الوسائط الجديدة في الشرق الأوسط وأفريقيا

المركز يقدم وجوهاً إبداعية تجمع بين الفن التكنولوجيا والابتكار (واس)
المركز يقدم وجوهاً إبداعية تجمع بين الفن التكنولوجيا والابتكار (واس)
TT

افتتاح «مركز الدرعية» الوجهة الأولى لفنون الوسائط الجديدة في الشرق الأوسط وأفريقيا

المركز يقدم وجوهاً إبداعية تجمع بين الفن التكنولوجيا والابتكار (واس)
المركز يقدم وجوهاً إبداعية تجمع بين الفن التكنولوجيا والابتكار (واس)

نحو إثراء المشهد العالمي لفنون الوسائط الجديدة عبر تقديم وجوه إبداعية من المنطقة، تجمع بين الفن، والتكنولوجيا، والابتكار، افتتح مركز الدرعية لفنون المستقبل أبوابه رسمياً، اليوم (الثلاثاء)، بوصفه أول مركز مخصص لفنون الوسائط الجديدة في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، متخذاً من منطقة الدرعية التاريخية المسجّلة في قائمة اليونيسكو للتراث العالمي موقعاً له.

ويأتي المركز في مبادرة تجمع بين وزارة الثقافة، وهيئة المتاحف، وشركة الدرعية في السعودية، في الوقت الذي انطلق ببرنامج متنوع يشمل أنشطة ومعارض فريدة ومبادرات تفاعلية مع الجمهور، مع التركيز على تمكين الفنانين والباحثين ومتخصصي التكنولوجيا من داخل المنطقة وخارجها، في بيئة إبداعية مجهزة بأحدث المختبرات والاستوديوهات الرقمية ومساحات العرض المبتكرة.

وقالت منى خزندار المستشارة في وزارة الثقافة السعودية إن «مركز الدرعية لفنون المستقبل يجسّد التزامنا بتطوير الإنتاج الفني المبتكر واحتضان أشكال جديدة من التعبير الإبداعي، فمن خلاله نسعى إلى تمكين الفنانين والباحثين ودعمهم لإنتاج أعمال بارزة والخروج بأصواتهم الإبداعية إلى الساحة العالمية».

وأشارت إلى أن المركز سيُوظّف مساحاته للتعاون والإبداع لترسيخ مكانة المملكة في ريادة المشهد الثقافي والتأكيد على رؤيتها في احتضان أشكال التعبير الفني محلياً وعالمياً.

من جانبه، بين الدكتور هيثم نوار مدير مركز الدرعية لفنون المستقبل أن افتتاح المركز يمثّل منعطفاً في السردية القائمة حول فنون الوسائط الجديدة، لكونه يخرج بالمرئيات والتصوّرات الإقليمية إلى منابر الحوار العالمية.

المركز يقدم وجوهاً إبداعية تجمع بين الفن التكنولوجيا والابتكار (واس)

وقال: «إن المركز سيتجاوز حدود الإبداع المتعارف عليها نحو آفاق جديدة، وسيقدّم للعالم مساحة للابتكار والنقد الفني البنّاء عند تقاطع الفن والعلوم والتكنولوجيا».

وتتزامن انطلاقة مركز الدرعية لفنون المستقبل مع افتتاح معرضه الأول بعنوان «ينبغي للفنّ أن يكون اصطناعياً... آفاق الذكاء الاصطناعي في الفنون البصرية» خلال الفترة من 26 نوفمبر (تشرين ثاني) إلى 15 فبراير (شباط) المقبل، حيث يستكشف المعرض، الذي أشرف عليه القيّم الفني جيروم نوتر، تاريخ فن الحاسوب منذ نشأته في ستينات القرن الماضي وحتى يومنا الحاضر، من خلال أعمال فنية متنوعة تحمل توقيع أكثر من 30 فناناً إقليمياً وعالمياً.

وسيحظى الزوار بفرصة استكشاف أعمال من صنع قامات في الفن أمثال فريدر نايك (ألمانيا) وفيرا مولنار (هنغاريا/فرنسا) وغيرهما من المُبدعين في ميادين الابتكار المعاصر مثل رفيق أناضول (تركيا) وريوجي إيكيدا (اليابان).

وسيكون للفنانين السعوديين لولوة الحمود ومهند شونو وناصر بصمتهم الفريدة في المعرض، حيث يعرّفون الزوّار على إسهامات المملكة المتنامية في فنون الوسائط الجديدة والرقمية.

وبالتزامن مع الافتتاح، يُطلق المركز «برنامج الفنانين الناشئين في مجال فنون الوسائط الجديدة»، بالتعاون مع الاستوديو الوطني للفن المعاصر - لوفرينوا في فرنسا. ويهدف البرنامج، الذي يمتد لعام كامل، إلى دعم الفنانين الناشئين بالمعدات المتطورة والتوجيه والتمويل اللازمين لإبداع أعمال متعددة التخصصات.

وأعلن المركز عن برنامج «مزرعة» للإقامة الفنية، المخصص لفناني الوسائط الرقمية، في الفترة من فبراير (شباط) حتى أبريل (نيسان) 2025، ويهدف إلى استكشاف العلاقة بين الطبيعة والتكنولوجيا والمجتمع من خلال موارد المركز.

ويجسد مركز الدرعية لفنون المستقبل «رؤية السعودية 2030»، التي تسعى إلى تعزيز الابتكار، والتعاون العالمي، وترسيخ مكانة المملكة بوصفها وجهة رائدة في الاقتصاد الإبداعي العالمي.