وزير الثقافة الفرنسي السابق يروي اعترافاته واعتذاراته

فريديريك ميتران في أول دور له على المسرح

في مكتبه الوزاري
في مكتبه الوزاري
TT

وزير الثقافة الفرنسي السابق يروي اعترافاته واعتذاراته

في مكتبه الوزاري
في مكتبه الوزاري

ليست هي المرة الأولى التي يبرع فيها فريديريك ميتران في إثارة اللغط حول شخصيته. فهو نال شهرته، قبل كل شيء، باعتباره يشترك في اللقب مع عمه رئيس الجمهورية الأسبق فرنسوا ميتران. ورغم القرابة التي تربطه برئيس اشتراكي فإنه لم يتحرج من تسلم حقيبة الثقافة في عهد الرئيس اليميني ساركوزي. وعندما نبحث اليوم عن صورة له مع عمه الرئيس فإن من الصعب العثور عليها، باستثناء واحدة له أثناء استقبال فرنسوا ميتران للرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي. فمن المعروف أن فريديريك ميتران يعشق تونس ويتردد عليها كثيراً ويعتبرها بلده الثاني. أما صوره مع الرؤساء ساركوزي وهولاند وشيراك وجيسكار ديستان فموجودة ومتوفرة.
بالطول والعرض، عاش فريديريك ميتران حياته. وهو اليوم قد تجاوز السبعين بعام واحد، وتعددت صفاته: كاتب ومنتج ومخرج تسجيلي ونجم تلفزيوني ومكتشف مواهب. وكان صاحب صالات للسينما ومديراً للأكاديمية الفرنسية في روما. ثم إنه مهتم بالفنون العربية بشكل خاص. أما كتبه التي يسلط فيها الضوء، بكل جرأة، على جوانب من حياته وما تخللها من شطحات عاطفية وجنسية، فكانت مناسبة لمزيد من التساؤلات حول شخصيته الإشكالية وأبعاد حريته في التعبير.
اليوم يكشف ميتران عن موهبة جديدة هي التمثيل المسرحي. وطوال الأسابيع الماضية وقف على مسرح «مارينيي» في باريس ليقدم عرضاً منفرداً بعنوان «بونسوار»، أي «مساء الخير». وهي التحية التي اشتهر بإطلاقها، بصوته العريض المميز، في بداية برامجه وسهراته التلفزيونية التي يتناول فيها نجوم السينما الذين تحولوا إلى أساطير. وجاء العرض على لسان المتكلم الذي يروي اعترافات شخصية كان قد نشر جانباً منها في كتابه «أسفي هو الندم» الصادر قبل سنتين. ويبدو أن الرجل لا يشبع من الحديث عن نفسه، وهو لا يحتمل الغياب عن المشهد الثقافي العام، وسبق أن صرّح بأنه يتمنى أن يكون صاحب برنامج تلفزيوني يومي. فما الجديد لديه؟
يأخذ النص الذي يتلوه بإلقاء واضح مثل معلّم محترف، طابع الحنين إلى فصول فاتت من حياته، أو بالأحرى إلى زمن شباب ولى وإلى عصر كانت العلاقات فيه أكثر يسراً. فالممثل يقف أمام شاشة تتوالى عليها صور قديمة متداخلة بالأسود والأبيض، له ولأصدقائه الذين غيبهم الموت، ومعها رسوم ورسائل تخصه، وقصاصات من صحف تناولت سيرته وبرامجه و«فضائحه»، وهو يعلق عليها بأسلوبه الأدبي الراقي الذي ينم عن ثقافة واسعة تجيد طريقها إلى عموم المتفرجين. ولعل فريديريك ميتران هو واحد من أولئك القلائل الذين نجحوا في نشر المعرفة بطريقة مشوقة وأنزلوا الثقافة من برجها العاجي وطرحوها للجمهور بشكل ديمقراطي.
عندما يحكي الراوي عن حماقاته في الطفولة، يشعر المتفرج بأنه كان ذات الطفل الذي تلقى الضربات من رفاق المدرسة وأعاد توجيهها. والأمر نفسه عندما يستعيد الفرص التي فاتته والخسارات التي مني بها والأحباب الذين فارقهم، فإنه ينقل عدوى اللوعة والشعور بالفقدان إلى الحضور في الصالة. ويقول إنه يشعر بالذنب لأنه ما زال يعيش بعد موت أقرب صديق له، يستعيد صداقته مع الممثلة الفرنسية ماريا شنايدر، التي اشتهرت بعد دور واحد قامت به أمام مارلون براندو في فيلم «آخر تانغو في باريس». وكان في ذلك الدور مجدها ومقتلها. ويقول إنه يأسف لأنه لم «يعطها ما لم تطلب لكنها كانت تحتاجه». ما الذي احتاجته ولم تطلبه؟ الحب؟ النقود؟ الرفقة؟ العلاج؟ يتركنا الممثل مع التساؤلات. فكل ما نعرفه هو أن ماريا الجميلة رحلت قبل 8 سنوات، منسية على عتبة الستين من العمر، بعد أن دمرها الإدمان على المخدرات.
لكن حياة الراوي، على ما يحيط بها من نبرة حزينة، لم تكن كلها فشلاً في فشل. فقد أتيحت له الفرصة لأن يظهر على الشاشة الكبيرة أمام النجمة ميشيل مورغان حين كان في سن 12 عاماً. ونال شعبية واسعة من خلال التلفزيون، وصار وزيراً، وقام برحلات ممتعة في أرجاء العالم، واختلط بالمشاهير من الفنانين العالميين، وأسس عائلة بالتبني في تونس، وصار له ولدان يحملان اسمين عربيين: سعيد وجهاد. هل قال الممثل كل شيء أم ما زال هناك فصل مخبوء؟ هذا ما يوحي به ملصق العرض الذي نراه فيه مكمماً كأن هناك من يريد منعه من الكلام. وفي الختام، يخرج المتفرج بانطباع أن فريديريك ميتران ورث من عمه فرنسوا هاجساً ملحاً: أن ينشر غسيل سيرته بنفسه قبل أن ينبشه غيره بعد رحيله. أي بيده «لا بيد عمرو».



الشاعر طلال حيدر مكرماً كأحد أعمدة قلعة بعلبك

الشاعر طلال حيدر مكرماً كأحد أعمدة قلعة بعلبك
TT

الشاعر طلال حيدر مكرماً كأحد أعمدة قلعة بعلبك

الشاعر طلال حيدر مكرماً كأحد أعمدة قلعة بعلبك

قليلاً ما يتحول حفل تكريم مبدع كبير إلى احتفاءٍ بكل الحلقة الخلاّقة التي تحيط به. هذا يتطلب رقياً من المكرّم والمنظمين، يعكس حالةً من التسامي باتت نادرة، إن لم تكن مفقودة.

فمن جماليات حفل تكريم الشاعر الفذّ طلال حيدر على «مسرح كركلا»، برعاية وزير الإعلام اللبناني زياد المكاري وحضوره، الأحد الماضي، هذا التحلق اللافت لجمع من الشعراء وأهل الفكر والثقافة والفنانين والإعلاميين، حول شاعرهم الذي رفد الأغنية اللبنانية بأجمل القصائد، وأغنى الشعر بصوره المدهشة وتعابيره المتفجرة.

طلال حيدر قبل التكريم مع الفنان عبد الحليم كركلا ووزير الإعلام زياد المكاري

طربيه ودور البطل

قدم الحفل الممثل القدير رفعت طربيه الذي هو نفسه قيمة فنية، معتبراً أن حيدر «كان دائماً البطل الأول على (مسرح كركلا). فهو ابن الأرض، وابن بعلبك، لكنه في الوقت عينه واكب الشعر العالمي ودخل الحداثة فكراً وصورةً وإيقاعاً، راكباً صهيل الخيل». فليس شائعاً أن يترجم شاعر بالعامية إلى لغات أجنبية كما هي دواوين المكرّم وقصائده.

عبد الحليم كركلا مع الشاعر نزار فرنسيس (خاص - الشرق الأوسط)

ومن أرشيف المايسترو عبد الحليم كركلا، شاهد الحضور فيلماً قصيراً بديعاً، عن طلال حيدر، رفيق طفولته ودربه طوال 75 عاماً. قال كركلا: «لقاؤنا في طفولتنا كان خُرافياً كَأَسَاطِيرِ الزَمَان، غامضاً ساحراً خارجاً عن المألوف، حَصَدنَا مَواسم التراث معاً، لنَتَكَامل مع بعضنا البعض في كل عمل نبدعه».

فيلم للتاريخ

«طلال حيدر عطية من عطايا الله» عنوان موفق لشريط، يظهر كم أن جيل الستينات الذي صنع زهو لبنان ومجده، كان متآلفاً متعاوناً.

نرى طلال حيدر إلى جانبه كركلا، يقرآن قصيدة للأول، ويرسمان ترجمتها حركةً على المسرح. مارسيل خليفة يدندن نغمة لقصيدة كتبها طلال وهو إلى جانبه، وهما يحضّران لإحدى المسرحيات.

لقطات أثيرة لهذه الورشات الإبداعية، التي تسبق مسرحيات كركلا. نمرّ على مجموعة العمل وقد انضم إليها سعيد عقل، ينشد إحدى قصائده التي ستتحول إلى أغنية، والعبقري زكي ناصيف يجلس معه أيضاً.

عن سعيد عقل يقول حيدر: «كنا في أول الطريق، إن كان كركلا أو أنا، وكان سعيد عقل يرينا القوى الكامنة فينا... كان يحلم ويوسّع حلمه، وهو علّمنا كيف نوسّع الحلم».

في أحد المشاهد طلال حيدر وصباح في قلعة بعلبك، يخبرها بظروف كتابته لأغنيتها الشهيرة «روحي يا صيفية»، بعد أن دندن فيلمون وهبي لحناً أمامه، ودعاه لأن يضع له كلمات، فكانت «روحي يا صيفية، وتعي يا صيفية، يا حبيبي خدني مشوار بشي سفرة بحرية. أنا بعرف مش رح بتروح بس ضحاك عليي».

في نهاية الحوار تقول له صباح: «الله ما هذه الكلمات العظيمة!»، فيجيبها بكل حب: «الله، ما هذا الصوت!» حقاً ما هذا اللطف والتشجيع المتبادل، بين المبدعين!

كبار يساندون بعضهم

في لقطة أخرى، وديع الصافي يغني قصيدة حيدر التي سمعناها من مارسيل خليفة: «لبسوا الكفافي ومشوا ما عرفت مينن هن»، ويصرخ طرباً: «آه يا طلال!» وجوه صنعت واجهة الثقافة اللبنانية في النصف الثاني من القرن العشرين، تتآلف وتتعاضد، تشتغل وتنحت، الكلمة بالموسيقى مع الرقصة والصورة. شريط للتاريخ، صيغ من كنوز أرشيف عبد الحليم كركلا.

المقطع الأخير جوهرة الفيلم، طلال حيدر يرتجل رقصة، ويترجم بجسده، ما كتبه في قصيدته ومعه راقصو فرقة كركلا، ونرى عبد الحليم كركلا، أشهر مصمم رقص عربي، يرقص أمامنا، هذه المرة، وهو ما لم نره من قبل.

عبد الحليم كركلا يلقي كلمته (خاص - الشرق الأوسط)

روح الألفة الفنية هي التي تصنع الإبداع. يقول حيدر عن تعاونه مع كركلا: «أقرأه جيداً، قرأنا معاً أول ضوء نحن وصغار. قبل أن أصل إلى الهدف، يعرف إلى أين سأصل، فيسبقني. هو يرسم الحركة التصويرية للغة الأجساد وأكون أنا أنسج اللغة التي ترسم طريق هذه الأجساد وما ستذهب إليه. كأن واحدنا يشتغل مع حاله».

طلال حيدر نجم التكريم، هو بالفعل بطل على مسرح كركلا، سواء في صوغ الأغنيات أو بعض الحوارات، تنشد قصائده هدى حداد، وجوزف عازار، وليس أشهر من قصيدته «وحدن بيبقوا مثل زهر البيلسان» التي غنتها فيروز بصوتها الملائكي.

أعلن رئيساً لجمهورية الخيال

طالب الشاعر شوقي بزيع، في كلمته، بأن ينصّب حيدر «رئيساً لجمهورية الخيال الشعري في دولة لبنان الكبير» بصرف النظر عمن سيتربع على عرش السياسة. ورغم أن لبنان كبير في «الإبداعوغرافيا»، كما قال الشاعر هنري زغيب، فإن طلال حيدر «يبقى الكلام عنه ضئيلاً أمام شعره. فهو لم يكن يقول الشعر لأنه هو الشعر».

وقال عنه كركلا: «إنه عمر الخيام في زمانه»، و«أسطورة بعلبك التي سكبت في عينيه نوراً منها، وجعلت من هيبة معابدها حصناً دفيناً لشعره». وعدَّه بطلاً من أبطال الحضارة الناطقين بالجمال والإبداع. سيعيش دوماً في ذاكرة الأجيال، شعلةً مُضيئةً في تاريخ لبنان.

الفنان مارسيل خليفة الذي تلا كلمته رفعت طربيه لتعذّر حضوره بداعي السفر، قال إن «شعره مأخوذ من المتسكعين والباعة المتجولين والعاملين في الحقول الغامرة بالخير والبركة». ووصفه بأنه «بطل وصعلوك في آن، حرّ حتى الانتحار والجنون، جاهليّ بدويّ فولكلوريّ خرافيّ، هجّاء، مدّاح، جاء إلى الحياة فتدبّر أمره».

وزير الإعلام المكاري في كلمته توجه إلى الشاعر: «أقول: طلال حيدر (بيكفّي). اسمُك أهمّ من كلّ لقب وتسمية ونعت. اسمُك هو اللقب والتسمية والنعت. تقول: كبروا اللي بدهن يكبروا، ما عندي وقت إكبر. وأنا أقول أنتَ وُلِدْتَ كبيراً»، وقال عنه إنه أحد أعمدة قلعة بعلبك.

أما المحامي محمد مطر، فركزّ على أن «طلال حيدر اختار الحرية دوماً، وحقق في حياته وشعره هذه الحرية حتى ضاقت به، لذا أراه كشاعر فيلسوف ناشداً للحرية وللتحرر في اشتباكه الدائم مع تجليات الزمان والمكان».

الحضور في أثناء التكريم (خاص - الشرق الأوسط)

وفي الختام كانت كلمة للمحتفى به ألقاها نجله علي حيدر، جاءت تكريماً لمكرميه واحداً واحداً، ثم خاطب الحضور: «من يظن أن الشعر ترف فكري أو مساحة جمالية عابرة، إنما لا يدرك إلا القشور... الشعر شريك في تغيير العالم وإعادة تكوين المستقبل».