الأزياء المستوحاة من مصر القديمة... تاريخ من الفن والإلهام

من إيلي صعب و«ديور» إلى عرض «شانيل» الأخير في نيويورك

من خط «ميتييه داغ» لـ«شانيل» في نيويورك
من خط «ميتييه داغ» لـ«شانيل» في نيويورك
TT

الأزياء المستوحاة من مصر القديمة... تاريخ من الفن والإلهام

من خط «ميتييه داغ» لـ«شانيل» في نيويورك
من خط «ميتييه داغ» لـ«شانيل» في نيويورك

لطالما مثلت مصر القديمة حقبة من الحضارة الإنسانية تبوح دائماً بأسرارها ونقوشها التي تتكشف يوماً بعد يوم. وكما ألهم وأثر الفراعنة في العاملين بمجالات العمارة والطب والهندسة والفلك، يظهر تأثيرهم الممتد على نحو واضح في عدد من عروض الأزياء المعاصرة.
محطات قديمة وحديثة تكشف كم ألهمت الحضارة الفرعونية مصممي الأزياء على مر التاريخ، ولعل أحدثها كان ما ذكرتنا به دار الأزياء الفرنسية «شانيل» التي أطلقت مجموعة من خطها السنوي «ميتييه داغ»، تستعرض فيها خبرات ومهارات ورشاتها المتخصصة، في بداية الشهر الماضي. قُدم العرض داخل متحف «متروبوليتان» للفنون في مدينة نيويورك، لكن كل ما فيه كان يعبق بروح مصرية. فعبر 81 تصميماً مستقى من الحضارة الفرعونية، قدم المدير الإبداعي للدار، كارل لاغرفيلد، وجهة نظره الفنية مستلهماً من الفراعنة، من دون أن يتخلى عن لمسات عصرية حققها من خلال السترات المصممة من نسيج التويد والجلد.
وعلاقة الأزياء بالحضارة الفرعونية بدأت قبل عرض «شانيل» بنحو قرن من الزمان، وتحديداً في مطلع القرن العشرين، عندما جسدت الممثلة الأميركية ثيدا بارا دور الملكة «كليوباترا» في فيلم صامت عام 1917. عندها، بدأ العالم يعرف أزياء ملكات مصر، ثم جاء اكتشاف عالم الآثار وعلم المصريات هوارد كارتر مقبرة الملك توت عنخ آمون، في 4 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1922، ليفتح كنزاً لكل عشاق الإبداع، ولم يكن أحد يتوقع مدى تأثير هذا الاكتشاف في عالم الموضة، فكانت مقبرة توت عنخ آمون بمثابة عالم من الحُلي والزخارف والفنون والتصاميم التي أثارت حِس مصممي الأزياء منذ ذلك الوقت إلى الآن.
وكان للفراعنة تأثير آخر على الموضة لا يتعلق بالتصاميم والزخارف، بل يرتبط بالنسيج الذي استخدمه المصريون القدماء لملابسهم، وأصبح الكتان الخفيف الرقيق الذي يسمح باللف والحركة مدخلاً جدياً لتطويع الخامات في الأزياء.
وفي خريف عام 1997، قدّم المدير الإبداعي لدار الأزياء «ديور»، المصمم البريطاني جون غاليانو المعروف بأسلوبه المسرحي وعشقه للاستعارات التاريخية، مجموعة أطلقت عليها مجلة «فوغ» وقتها «محاكاة فانتازية لمصر القديمة». وذكرت أن المصمم قدم تصاميم مستوحاة من مصر القديمة، مع مزيج عصري، ليخرج عرض أزياء شبيه بعمل فني على المسرح التجريبي، استلهم كثيراً من التصاميم من الملكة «كليوباترا» على وجه الخصوص، فكانت روحها حاضرة، ليس في التصميم فحسب، بل في المكياج والشعر والحُلي.
ويبدو أن غاليانو استحلى تأثره باللمحة الفرعونية، لذلك أعاد الكَرَّة في شتاء 2004 وقدم تشكيلة جديدة مستوحاة بالكامل أيضاً من أزياء المصريين القدماء، وشرح حينها أنه فعل ذلك بعد رحلة جوية قام بها في مصر، وحلق فيها بمنطاد فوق وادي الملوك وهو يزور القاهرة وأسوان والأقصر. وكانت النتيجة عرض أزياء مسرحياً مليئاً بالفانتازيا، مزج فيه غاليانو التاريخ والفن والخيال وحسه الإبداعي، واستعان فيه بكل الكنوز الفرعونية المتاحة، بداية من اللون الذهبي الذي سيطر على العرض، والمبالغة في المكياج الذي وصل إلى حد إخفاء ملامح العارضات بالكامل، ليظهرن وكأنهن ملكات فرعونيات، كما استعان بالحُلي من الذهب والفضة والأحجار مثل الفيروز والمرجان، والكريستال على شكل الجعران والنسور، إضافة إلى استخدامه جلد الحيوانات بنقوشه الجامحة.
وذهب المصمم الشهير إلى أقصى درجات الخيال، باعتماد أقنعة وقبعات تعود لملكات مصر القديمة، مثل نفرتيتي، حتى أن المومياوات ظهرت على ممشى الأزياء، حيث قدم غاليانو فساتين مُصممة من شرائط على قوام عارضة الأزياء من الرأس إلى أخمص القدمين.
وغازل آخرون الحضارة الفرعونية، ومنهم المصمم البريطاني ألكسندر ماكوين الذي بدأت علاقته بالتصاميم المستوحاة من الزخارف المصرية وأيقونات الحياة الفرعونية منذ 2007 حتى وفاته في 2010. واستعان ماكوين بتسريحات ومكياج الملكة «نفرتيتي» في مجموعة خريف 2007، وسيطر بريق اللون الذهبي على العرض، كما استعان بتصميم الثعابين التي تلف الصدر، محاكاة لأزياء الملكة «كليوباترا».
وكذلك كانت السمة المسيطرة على مجموعة خريف 2009، التي قدمتها المصممة الهولندية إيريس فان هيربن، هي الولع بعلم التحنيط ومومياوات مصر الفرعونية، وكان انجذابها ذا شقين: الأول هو تقنيات التحنيط، وأعربت عنه بتصاميم تقوم على تقنية الملابس المصممة من الشرائط والأربطة بالألوان الفاتحة. أما الشق الثاني، فكان مفهوم الحياة لدى قدماء المصريين، وكيف حاولوا خلق الواقع من خلال إبداعاتهم الفنية، معتقدين أن الوجود على الأرض كان وهماً، وأنه سيتحقق الكمال في الآخرة.
مجموعة ربيع 2014 لدار «Issa» جاءت هي الأخرى انعكاساً لإلهام مصر القديمة التي ظهرت عبر عين «الإله حورس» في المعتقد المصري القديم، ويرمز للأمن والحماية، وبدت طبعة العين مزينة للفساتين المصممة من الجاكار. كما قدمت تصاميم مزدانة بخط عنق مرصع بالحُلي الذي يحاكي أغطية الرأس المعروفة في الحضارة الفرعونية، كما حضرت أيضاً ضمن هذه التشكيلة حشرة الجعران المقدسة لدى الفراعنة، وكذلك أبو الهول، والأفعى، والمرجان، واللازورد، والعقيق، بالإضافة إلى خيوط الذهب.
ليس فقط الألوان والكائنات المقدسة هي التي ألهمت مصممي الأزياء، بل أيضاً حروف اللغة المصرية القديمة (الهيروغليفية) التي كانت محور عرض قدمه المصمم الفرنسي جان بول غوتييه في مجموعة أزياء العطلات لعام 2015، والتي عادة ما يحرص فيها على مظهر انتقائي متفائل حققه من خلال طبعات زهرة اللوتس، والحروف التي تأخذ شكل حيوانات، كما استعان بالرسوم المزينة لجدران المعابد التي تعكس شكل حياة المصري القديم.
وصحيح أن مصر القديمة الثرية بالألوان والأفكار غير الدارجة كانت مخزناً للتصاميم، لكن مصر الحديثة أيضاً ألهمت المصمم اللبناني إيلي صعب في مجموعة ربيع 2017 للأزياء الراقية، التي اعتمدت أفكاراً من فترة العشرينات من القرن الماضي، وعرض تشكيلة من مصر، خصوصاً مدينة دمياط الساحلية، في دلتا البلاد.
وجاءت مجموعة صعب لتظهر بشكل مغاير عن العروض السابقة. فمن البداية، تسللت الأجواء المصرية من خلال أغنية «ألف ليلة وليلة» لأم كلثوم، ثم ظهرت على ممشى الأزياء مجموعة من التصاميم المستقاة من المراكب الشراعية التي تسير بنهر النيل، وأشجار النخيل التي تحيط به على الجانبين. وعبر عن ذلك بتطريز مٌتقن على قماش التل الشفاف الذي جاء دلالة على نهر النيل. روح الثقافة المصرية امتدت في عرض إيلي صعب إلى مكياج العارضات أيضاً، الذي جاء مستوحى من نجمات السينما المصرية في الخمسينات، مثل هند رستم، ونادية لطفي المعروفة برسمة عيون القطة.
وقد كان عرض دار الأزياء «شانيل» الأخير، الذي أنهى دورة الموضة لعام 2018، تذكيراً بهذا التاريخ الملهم الذي لا ينضب أبداً.


مقالات ذات صلة

5 قطع لن تخسري إذا استثمرتِ فيها حالياً

لمسات الموضة الجينز لا يزال يتصدر منصات الموضة العالمية مثل عرض «ليبرتين» خلال أسبوع نيويورك الأخير (إ.ب.أ)

5 قطع لن تخسري إذا استثمرتِ فيها حالياً

مهما تغيرت المواسم والأذواق، هناك قطع من الموضة تتحدى الزمن وتعتبر بمثابة استثمار سعره فيه.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة اعتمد المصمم على التفاصيل الجريئة حتى يمنح كل زي ديناميكية خاصة (خاص)

فؤاد سركيس يرسم لوحة ملونة بالالوان والتفاصيل في مجموعته لـ 2025

في أحدث مجموعاته لموسم خريف وشتاء 2025، يعيد المصمم فؤاد سركيس رسم هوية جديدة لمعنى الجرأة في الموضة. جرأة اعتمد فيها على تفاصيل الجسم وتضاريسه. تتبعها من دون…

«الشرق الأوسط» (لندن)
لمسات الموضة مصممة الأزياء التراثية علياء السالمي (الشرق الأوسط)

علياء السالمي... تحمل تقاليد الماضي إلى الحاضر

من قلب المملكة العربية السعودية؛ حيث تتلاقى الأصالة والحداثة، تبرز مصممة الأزياء التراثية علياء السالمي واحدةً من ألمع الأسماء في عالم تصميم الأزياء.

أسماء الغابري (جدة)
لمسات الموضة كانت روح ماريا تحوم في قصر غارنييه بكل تجلياتها (ستيفان رولان)

من عاشقة موضة إلى مُلهمة

كل مصمم رآها بإحساس وعيون مختلفة، لكن أغلبهم افتُتنوا بالجانب الدرامي، وذلك التجاذب بين «الشخصية والشخص» الذي أثَّر على حياتها.

جميلة حلفيشي (لندن)
لمسات الموضة لم تحتج الدار يوماً إلى مدير إبداعي يرسم معالمها... لأن «نجمها الأول وعملتها الذهبية» هي أنسجتها (لورو بيانا)

«لورو بيانا»... تحتفل بمئويتها بفخامة تستهدف أصحاب الذوق الرفيع

لم تحتج الدار يوماً إلى مدير إبداعي يقودها ويحدد اتجاهاتها... فشخصيتها واضحة، كما أنها تمتلك نجماً ساطعاً يتمثل في أليافها وصوفها الملكي.

جميلة حلفيشي (لندن)

ماريا كاترانتزو تستوحي من حمامات كاراكالا مجموعة «كالا»

دخول ماريا مصممةَ أزياءٍ إلى دار جواهر بادرة رحبت بها أوساط الموضة (بولغاري)
دخول ماريا مصممةَ أزياءٍ إلى دار جواهر بادرة رحبت بها أوساط الموضة (بولغاري)
TT

ماريا كاترانتزو تستوحي من حمامات كاراكالا مجموعة «كالا»

دخول ماريا مصممةَ أزياءٍ إلى دار جواهر بادرة رحبت بها أوساط الموضة (بولغاري)
دخول ماريا مصممةَ أزياءٍ إلى دار جواهر بادرة رحبت بها أوساط الموضة (بولغاري)

بوصفها أول مديرة إبداعية يجري تعيينها لقسم الأكسسوارات والسلع الجلدية في «بولغاري» للجواهر، لم يكن أمام المصمِّمة اليونانية الأصل، ماري كاترانتزو أي خيار سوى العودة إلى جذور الدار لتستوحي من تاريخها ما يزيد من وهجها وبريقها. لم تكن المهمة صعبة؛ نظراً لتاريخ يمتد على مدى قرون، ويحوي ما لا ينضب من الأفكار والأحجار الكريمة. بعد تفكير، وجدت أن حمامات كاراكالا، واحدة من عجائب روما السبع في العصور القديمة، وزهرة الكالا بشكلها العجيب، تُشَكِّلان نَبْعَيْنِ يمكن أن تنهل منهما، ومن هنا جاءت التسمية التي أطلقتها على المجموعة «كالا».

ماريا كاترانتزو وحقيبة مرصعة بالأحجار تجسد فسيفساء حمامات كاراكالا (بولغاري)

عندما أعلنت «بولغاري» في شهر أبريل (نيسان) الماضي التحاق ماري كاترانتزو، بها مديرةً فنيةً للمنتجات الجلدية والأكسسوارات، باركت أوساط الموضة والجواهر على حد سواء هذا القرار؛ فهذه خطوة ذكية من شأنها أن تَضُخَّ دماءً شابة بدار يبلغ عمرها أكثر من قرن. كان اسم ماري كاترانتزو وحده يكفي كي يثير فضول عشاق الجمال والإبداع؛ لأنهم يتوقعون منها إبداعات مهمة؛ كونها تتمتع بصيت طيب منذ تخرجها في معهد سانترال سانت مارتنز في عام 2008، لتصبح من بين أهم المصمِّمين الشباب المشاركين في أسبوع لندن. ومنذ سنوات قليلة، انتقلت للاستقرار في بلدها الأصلي، وتحديداً أثينا، لكن اسمها ظل محفوراً في أوساط الموضة، ومنقوشاً بطبعاتها الفنية الجريئة وتصاميمها الهندسية المثيرة.

المصممة ماري كاترانتزو مع المؤثرة الإيطالية أناديلا روسو (بولغاري)

بعد استقرارها في أثينا، بدأت سلسلة من الشراكات كانت دائماً تحقق النجاحِ؛ ففي عام 2019 قدمت عرضاً فخماً من خط الـ«هوت كوتور» في أثينا على خلفية معبد بوسيدون. في هذا العرض، تزيَّنت العارضات بجواهر من «بولغاري» عزَّزت فخامة الصورة من جهة، ودشَّنت علاقتها بالدار الرومانية من جهة ثانية. ربما يتساءل البعض عن كيف لدار متجذرة في التاريخ الروماني أن تتعاون مع مصممة يونانية، خصوصاً أن إيطاليا لا تفتقر إلى المواهب الشابة والمحترفة، ليأتي الجواب بسيطاً، وهو أن مؤسس الدار في الأصل يوناني، اسمه سوتيريو بولغاريس، كان ذلك منذ أكثر من قرنين من الزمن، لكن تغيَّرت فيه الأماكن وكذلك الاسم من «بولغاريس» إلى «بولغاري».

بالنسبة لدار تخصصت في الجواهر أولاً وأخيراً، فإن قرار تعيين مصمِّمة أزياء في منصب إبداعي، أمرٌ تكتيكي وذكي يستهدف ضخ دماء جديدة على قسم الأكسسوارات، وفي الوقت نفسه يريد استقطاب عميلات يعشقن أسلوب كاترانتزو، ولا يزال بداخلهن حنين للمساتها الفنية. تشير المصمِّمة إلى أن القرار لم يُتَّخذ بشكل سريع؛ فعلاقتها بالدار والمجموعة المالكة لها «إل في إم إتش» عمرها سنوات، بدأت بشكل تدريجي وعضوي بشراكات كثيرة، منها مشاركتها في عام 2021، في سلسلة الشراكات التي أطلقتها «بولغاري» تحت عنوان «سيربنتي بعيون...» وهي فعالية تستضيف فيها كل مرة مصمِّماً يضع بصماته الفنية على منتجها الأيقوني.

تقول ماري كاترانتزو إنها استلهمت من أرضية الحمامات وفسيفسائها المتعددة الألوان، شكل مروحة رصَّعتها في ورشات الدار بفلورنسا، باللؤلؤ والجمشت والزمرد والذهب؛ حيث أرادتها أن تحاكي قطعة جواهر بكل المقاييس، وهو ما كان. أمَّا من زهرة الكالا فاستلهمت شكلها النحتي المتعرج الذي يرمز للقوة والمرونة. وتشمل المجموعة حقائب «مينوديير» للسهرة، وأخرى جلدية لكل المناسبات، إلى جانب أوشحة حريرية. كانت التجربة ناجحة على المستويين التجاري والفني على حد سواء؛ فماريا تُدرك تماماً أن الاثنين وجهان لعملة واحدة، وهو ما أكده المصمِّم السعودي زياد البوعينين الذي تدرَّب في بداياته على يدها قائلاً في لقاء سابق مع «الشرق الأوسط» إن العمل معها عن قُرب كان فرصة ذهبية بالنسبة له، حيث «تعلمت منها الكثير من الأمور التي ساعدتني على فهم كيف تُدار أي دار أزياء أو شركة صغيرة من الداخل»، وتابع: «لم يكن العمل مع ماريا كاترانتزو ممتعاً من الناحية الفنية فحسب، بل فتح عيني على أمور كثيرة كانت غائبة عني بوصفي مصمماً شاباً يعتقد أن الابتكار في التصميم وحده يكفي».