رحلتي اليوم بعيدة، رحلتي اليوم جديدة ومليئة باللوحات الطبيعية التي مهرت كل منها بريشة مختلفة. لوحات تمزج ما بين دفء البراكين وبرد الثلوج التي تغطيها، وتنسج الزهور برمال الصحراء لتكون بادية فريدة من نوعها... هذه هي باختصار رحلتي إلى جنوب تشيلي الباهر الذي لا يشبه سواه ولا يمكن وصف زيارته إلا برحلة من العمر.
تشيلي هي عبارة عن عدة بلدان بمناخات مختلفة في بلد واحد؛ فإذا زرتَ العاصمة سانتياغو فلا تسلم جدلاً بأنك أصبحت «ابن بطوطة» عصرك لأن ما خفي في تلك البلاد الساحرة كان أعظم وأجمل، ولا يقتصر فقط على تلك المدينة ولو أنها الأكبر في البلاد وتشكّل العصب الحيوي فيها لأن زيارة تشيلي دون الولوج إلى جنوبها تُعد ناقصة لأن الجنوب هو الأجمل من حيث الغنى السياحي والثقافي والطبيعي.
في صباح تشيلي بارد، وقبل بزوغ الفجر، وعلى متن رحلة داخلية توجهنا إلى «بويرتو مونت» Puerto Montt حيث يقع المطار في منطقة جبلية لا يعرف الصيف طريقاً إليها، فالجنوب بارد طيلة أيام السنة وأجمل ما فيه هو أنه يجمع المتناقضات، ففيه صحراء أتاكاما التي تُعد الأكثر جفافاً في العالم، وبالوقت ذاته فيه الأنهار الجليدية والغابات الساحرة وبحيرات تقع على سفوح البراكين.
أشهر مناطق الجنوب للسكن والإقامة هي «بويرتو فاراس» Puerto Varas، فهي أشبه بالقرى الجبلية في سويسرا أو ألمانيا، بيوتها على شكل شاليهات من الخشب، وكلها تطلّ على البحيرة التي تعلمك في الصباح الباكر بشروق الشمس ملونة السماء بألوان الطيف التي تخطط الأفق البعيد، فالمشهد الصباحي من نافذة فندق «بيلافيستا» الواقع على البحيرة مباشرة يحبس الأنفاس يومياً، ويدعو الناس للاستفاقة باكراً لالتقاط أجمل الصور لشروق شمس ساحر يلقي بظلاله على صفح الماء.
- ثلج ونار
من المستحيل أن تزور جنوب تشيلي وتفوت عليك رحلة مائية في بحيرة «جميع القديسين» Todos Los Santos، تبحر طيلة اليوم بكامله في زرقة ماء غريبة اللون تسورها الغابات والبراكين المكسوة بالثلج وتأخذك إلى شلالات «بتروهيه» Petrohue التي تركع عندها تشكلات صخرية داكنة اللون ناتجة عن غضب البراكين الحية التي تنفض بنارها ولهيبها من دون إذن أو استئذان، ويخبرنا دليلنا السياحي التشيلي المخضرم بأنه من الممكن أن ينفجر البركان في أي لحظة، وهذا ما حصل العام الماضي أمام عينه عندما قرر البركان الأشهر «أوسورنو» Osorno الانفجار في الوقت الذي كان عدد من هواة التزحلق على الثلج يمارسون هوايتهم على البركان، وعندما شاهدنا مقطع الفيديو الذي التقطته أحد المتزلجين أدركنا هيبة البركان وما يكمن بداخله.
شلالات «بيتروهيه» رائعة، ولكن موقعها بارد جداً، فمن الضروري التسلح بثياب تصارع الصقيع، ولكن المشاهد التي ستراها وأنت عند أسفل البركان ومعلق عند الصخور المنشطرة على سطح الماء وصوت الشلالات المهيب ولون الماء الغريب سينسيك الصقيع، ويأخذك إلى عالم من الروعة.
ومن الشلالات تستمر الرحلة لتحطّ رحالك في قرية «بويللا» Peulla الصغيرة التي يقطنها 120 شخصاً فقط، فيها مدرسة بحجم غرفة يأتيها نحو 5 أطفال، ويسكنها طبيب واحد، يعمل سكانها جميعهم في مزرعتها وفي الفندق الوحيد فيها الذي يضم هو الآخر مطعماً واحداً.
عند وصولك إلى القرية ستكون الحافلات التراثية البرمائية المفتوحة بانتظارك، فتنقلك في مجموعات لمشاهدة المكان، بدءاً من المزرعة التي تضم الخيل وحيوانات أخرى، ووصولاً إلى قارب صغير يأخذك في رحلة مائية أخرى فيها سحر من نوع آخر، لأن المشاهد تتبدل ولون الماء يصبح داكناً ليعلمك من جديد بأنك بحضرة البراكين.
«بويللا» هي الطريق لعبور قطاع «أنديان» (Andean)، وفي القرية يمكنك القيام بكثير من النشاطات مثل ركوب الخيل في الماء والمشي.
- تشيلي الألمانية
ميزة الشعب التشيلي هي طيبته؛ فهو عبارة عن تجمعات إثنية كوَّنتها الهجرة، وفي كل منطقة تجد جالية مختلفة؛ ففي سانتياغو هناك تجمع كبير للفلسطينيين، وفي الجنوب هناك وجود للسوريين، وبحسب دليلنا السياحي فأغنى عائلة في جنوب تشيلي سورية، ولكن سوء الحظ يرافقها وتعرضت لكثير من النكسات، ويشبّهها التشيليون بعائلة كيندي من حيث قلة الحظ، كما يوجد عدد كبير من أصول ألمانية، لا سيما في منطقة «فروتيلار» (Frutillar) الوادعة عند بحيرة «يانكيهيه» Llanquihue، وفي هذه المنطقة تشعر وكأنك في إحدى القرى الألمانية، بيوتها من الخشب، أتى بتصميمها المهاجرون الألمان القدامى، وطبقوا أسلوب البناء الألماني هناك، فجميع البيوت مصممة على طريقة المزخرفات الخشبية الخارجية «شينغل»، وحتى الكنسية الوحيدة فيها ألمانية.
غالبية المنازل المطلّة على البحيرة العملاقة تحولت إلى فنادق صغيرة، وتنتشر فيها المطاعم التقليدية المتخصصة بتقديم المأكولات البافارية، وفيها يمكن أن تتناول أفضل أنواع فطائر التفاح (أبل شترودل).
وبما أن تشيلي هي عنوان الروعة والثقافة، فلا تمر بمكان، إلا وستأخذ منه جرعة من الثقافة والانفتاح، ففي «فروتيلار» تجد مبنى ضخماً مبنياً على الماء يُطلق عليه اسم «مسرح البحيرة» (Theatro Del Lago) وتعرض فيه العروض والمعارض الفنية والمسرحيات، ومنه يمكنك المشي على شاطئ من الرمل الأسود يأخذك إلى قبة خشبية تشهق رومانسية في وسط الماء تصل إليها عبر ممشى من الخشب يطفو فوق الماء.
- السلمون قوتك اليومي
إذا كنتَ من محبي سمك السلمون، فأنت في المكان الصحيح، لأن تشيلي تشتهر بمزارع السلمون، وفي طريقك للوصول إلى «فروتيللا» يمكنك أن تسلك الطريق الجبلي الذي يعلو تارة ليلمس قمم البراكين، وينخفض تارة أخرى، إلى مستوى البحيرات، وسترى على امتداد الطريق حاويات السلمون في الماء.
وتتفنن المطاعم في تشيلي بتقديم أطباق السلمون بأشكال تجعلك لا تمل منها، ومن المأكولات الشهيرة الأخرى لحم الستيك عالي الجودة.
- العملة في تشيلي
تحولت العملة في تشيلي منذ عام 1975 إلى «بيزو» ومن الممكن التداول بالدولار الأميركي في المحلات الكبرى أيضاً.
- الموقع
تشتهر تشيلي بشكلها الاستثنائي على الخريطة فهي الأطول والأرفع من حيث المساحة في العالم وتمتد من «أنديز» إلى المحيط الهادي، وتحدّها كل من الأرجنتين والبيرو وبوليفيا.
تشيلي... براكين الثلج تهمس في أذن بحيراتها
https://aawsat.com/home/article/1539321/%D8%AA%D8%B4%D9%8A%D9%84%D9%8A-%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D9%83%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%84%D8%AC-%D8%AA%D9%87%D9%85%D8%B3-%D9%81%D9%8A-%D8%A3%D8%B0%D9%86-%D8%A8%D8%AD%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D8%AA%D9%87%D8%A7
تشيلي... براكين الثلج تهمس في أذن بحيراتها
جنوبها لوحات فنية وجليدها نار
- بويرتو فاراس: جوسلين إيليا
- بويرتو فاراس: جوسلين إيليا
تشيلي... براكين الثلج تهمس في أذن بحيراتها
مواضيع
مقالات ذات صلة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة