الانتحار العاطفي في مصر... نهايات تراجيدية لقصص حب فاشلة

شاب ألقى بنفسه في نهر النيل بعد تخلي حبيبته عنه

TT

الانتحار العاطفي في مصر... نهايات تراجيدية لقصص حب فاشلة

برزت في الآونة الأخيرة بمصر، حوادث انتحار كثيرة لشبان أتعبهم الحب والغرام لفترات طويلة، لكنهم قرروا إنهاء قصصهم العاطفية بحكايات مأساوية انتهت إلى التخلص من الحياة والانتحار بعد فشل الكثير منهم في الوصول إلى شريكة حياته، لتكون مقولة «ومن الحب ما قتل» عنوانا بارزا وشاملا لمعظم القصص المتنوعة في مدن وأقاليم مصر. وهو أمر يرجعه الخبراء إلى أزمات وأمراض نفسية حادة، بالإضافة إلى ضعف الوازع الديني للكثير من المنتحرين بصفة عامة.
آخر قصص الانتحار العاطفي في مصر، كان بطلها (م.أ) شاب عشريني، ألقى بنفسه في نهر النيل بالقاهرة، لفشله في إتمام الخطوبة من فتاة كان يرغب في الزواج منها. وعثرت الأجهزة الأمنية المصرية على جثة الشاب بمنطقة الوراق بالجيزة، بعدما قام والده بإبلاغ قسم شرطة روض الفرج، بغياب نجله عن المنزل، وفور العثور على الجثة في الوراق، وباستدعاء الأسرة تعرفت عليه.
وروى والد الشاب، خلال التحقيقات، أن «ابنه كان مرتبطا بفتاة ويرغب في الزواج منها، لكن الظروف حالت دون إتمام الخطوبة والزواج» وقال «إن البنت قررت التخلي عنه، فأصيب الابن الشاب بحالة نفسية سيئة دفعته إلى الانتحار» وفق ما نقلته صحف مصرية من أوراق التحقيقات.
وقطع الشاب العشريني الطريق من منطقة عين شمس (شرق القاهرة) حتى كورنيش منطقة الساحل المطلة على نهر النيل سيرا على الأقدام، وفق رواية والده. بينما كشفت المعاينة الأولية أن الجثة لشاب في أواخر العشرينات من العمر، بشرته سمراء، يرتدي ملابسه كاملة (قميصا وبنطالا) ولا يحمل أوراق تحقيق شخصية تفيد بهويته، ولا توجد به إصابات ظاهرية. وانتهت النيابة العامة إلى قرارها بدفن جثمان الشاب، بعد التأكد من عدم وجود شبهة جنائية.
قصة الحب الأخيرة التي انتهت بالانتحار في نهر النيل بالوراق بالجيزة، سبقتها حالة انتحار أخرى في منتصف شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي، في محافظة المنيا (جنوبي القاهرة)، حيث انتحر شاب يبلغ من العمر 21 سنة شنقا في مدينة العدوة، بعد خلافات مع أسرته كانت تتعلق برغبته في الزواج من إحدى الفتيات، وبسبب إصرار أسرته على الرفض قرر الانتحار.
وفي شهر يناير (كانون الثاني) من العام الماضي، انتقل فريق من نيابة المرج (شرق القاهرة) لمعاينة جثة شاب أقدم على الانتحار بسبب رفض الفتيات المتكرر الزواج منه، وتحرر محضر بالواقعة. وأكد أقاربه أنه أقدم على خطبة أكثر من 7 فتيات في الفترة الأخيرة، لكنه كان يقابل بالرفض دائما، ما جعله يدخل في حالة اكتئاب حاد، حتى فوجئوا بانتحاره.
وفي محافظة الشرقية شهد مركز الإبراهيمية حادثة مؤلمة بانتحار طالب بسبب رفض والده الزواج من فتاة يحبها، في شهر يوليو (تموز) عام 2017. وعثرت الأجهزة الأمنية على جثة «عبده أ ع. ع»، 17 سنة، طالب، مشنوقا بمزرعة الدواجن الخاصة بوالده في عزبة العمدة. وكشفت معاينة النيابة، أن هناك خلافات أسرية بين المنتحر ووالده، بسبب رفضه الزواج من فتاة لصغر سنه، مما دفعه للإقدام على التخلص من حياته، كما دلت المعلومات الأولية على أن المتوفى سبق له محاولة الانتحار بتناوله مادة سامة إلا أنه تم إنقاذه.
وفي أبو النمرس بالجيزة تخلص فريد شوقي 26 عاما من حياته بعد أن تركته حبيبته في شهر يناير من العام الماضي، حيث عثرت عليه أجهزة الأمن جثة هامدة، بعد تناوله مبيدا حشريا.
ورغم عدم إصدار الجهات المصرية إحصائية رسمية موثقة بأعداد المنتحرين في البلاد، فإن الأخبار المتكررة التي تنقلها وسائل الإعلام المصرية حول الانتحار العاطفي باتت لافتة في الآونة الأخيرة، ويرجع خبراء علم الاجتماع والطب النفسي إقدام الشبان والمراهقين على الانتحار بسبب فشل العلاقات العاطفية إلى عدم قدرتهم على التعامل مع المتغيرات الجديدة، أو مرورهم بأزمات نفسية كبيرة.
من جهته قال محمد صلاح، اختصاصي الطب النفسي والمخ والأعصاب، بمستشفى العباسية للصحة النفسية، لـ«الشرق الأوسط»: عند تحليل وقائع الانتحار بشكل عام، يجب الأخذ في الاعتبار الحالة النفسية للمنتحر قبل شروعه في الانتحار، وهل هو مريض نفسي أم لا، وبالتالي إن كان مريضا نفسيا مصاب بالفصام، أو الاكتئاب الحاد أو نوبات الهلع، فإن عملية الانتحار هنا ستكون إلى حد ما معروفة أو متوقعة.
وأضاف أن الإنسان الصحيح الذي لا يعاني من أمراض نفسية، ويقدم على الانتحار، يكون غالبا مصاب بهشاشة نفسية، وهو مصطلح علمي لا يكون لديه غالبا القدرة على مواجهة الضغوط أو عدم التأقلم مع المتغيرات الجديدة فيقرر إنهاء حياته.
وأوضح: «في مجتمعاتنا يكون الوازع الديني فعّال جدا في منع هذه الحوادث، وبالتالي يقرر أحيانا بعض الشبان الانتحار لكن يراجعون أنفسهم في اللحظات الأخيرة بسبب الوازع الديني».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)