المعهد الدولي للصحافة يتقصى أوضاع الإعلام في تركيا وينتقد «سياسة الانتقام»

«الناتو» يصنفها «بلداً غير حرّ»... وملاحقات الصحافيين بتهم الإرهاب مستمرة

حملة إلكترونية لإخلاء سبيل الصحافي النمساوي ماكس زيرنغاست المحتجز في تركيا بتهمة الإرهاب
حملة إلكترونية لإخلاء سبيل الصحافي النمساوي ماكس زيرنغاست المحتجز في تركيا بتهمة الإرهاب
TT

المعهد الدولي للصحافة يتقصى أوضاع الإعلام في تركيا وينتقد «سياسة الانتقام»

حملة إلكترونية لإخلاء سبيل الصحافي النمساوي ماكس زيرنغاست المحتجز في تركيا بتهمة الإرهاب
حملة إلكترونية لإخلاء سبيل الصحافي النمساوي ماكس زيرنغاست المحتجز في تركيا بتهمة الإرهاب

تصاعدت الانتقادات الدولية لسجل تركيا في مجال حرية الإعلام مع استمرار ملاحقة الصحافيين، وإضافة نقاط سلبية جديدة إلى هذا الملف الذي جعل تركيا تتذيل ترتيب الدول التي تحظى فيها الصحافة بالحرية في التعبير، بينما لا تعبأ أنقرة وتصم آذانها عما يوجه إليها من اتهامات بالقمع.
وتوصَّل وفد رفيع من المعهد الدولي للصحافة، بعد زيارة لتركيا خلال الفترة من 5 إلى 7 ديسمبر (كانون الأول) الحالي التقى خلالها العديد من المسؤولين، إلى نتيجة مفادها أنه «على الرغم من الوعود المتكررة من جانب الحكومة التركية حول حرية الصحافة في البلاد خصوصاً بعد رفع حالة الطوارئ التي استمرت عامين، في شهر يوليو (تموز) الماضي، فإن الصحافيين لم يروا أي علامات على احترام أكبر لحقهم في ممارسة مهنتهم بشكل مستقل ودون خوف».
وخلص وفد المعهد الدولي للصحافة، في بيان حول زيارته لتركيا، إلى أن حكومتها تمارس «سياسة الانتقام» تجاه الصحافيين.
والتقى الوفد، الذي ترأسه رئيس المجلس التنفيذي للمعهد الدولي للصحافة، ماركوس سبيلمان، ممثلين عن وزارتي العدل والخارجية التركيتين، بالإضافة إلى حزبي الشعب الجمهوري والشعوب الديمقراطي المعارضين ودبلوماسيين أجانب وصحافيين في أنقرة وإسطنبول.
- تعنت حكومي
أشار الوفد إلى أنه لم يتلق ردوداً إيجابية على جهود المتواصلة التي بذلها مع مكتب الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وممثلين عن حزب العدالة والتنمية الحاكم لمناقشة القيود «شديدة القسوة» على الأصوات المستقلة والمنتقدة في تركيا.
وأضاف أن «حملة القمع الحالية على وسائل الإعلام في تركيا، والتي بدأت تظهر قبل عقد من الزمن، بلغت ذروتها في الأشهر التي تلت محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو 2016، ما أدى إلى إغلاق ما يقرب من 170 منفذاً إعلاميّاً واتهامات جنائية ضد مئات الصحافيين».
وقال الوفد في بيانه: «اليوم، هناك 161 صحافياً في السجون، ولا يزال الكثيرون منهم في انتظار المحاكمة، ويواجه آخرون إجراءات جنائية، وتسيطر الحكومة بشكل مباشر على 95 في المائة من المشهد الإعلامي. فإن الصحافيين الذين سُجِنوا أو بحسب حملة PI›s #FreeTurkeyJournalists يواجهون الملاحقة القضائية متهمون بموجب قوانين مكافحة الإرهاب في البلاد فيما يتعلق بعملهم الصحافي».
وأضاف الوفد أنه على تركيا القيام بالتزاماتها الدولية وواجبها في تهيئة الظروف الملائمة لوجود مشهد إعلامي متنوع في البلاد. وشدد سبيلمان على أنه على أن تركيا إطلاق سراح الصحافيين المحتجزين حالياً في السجون، وإسقاط التهم الجنائية الموجهة إليهم، التي تشكل انتهاكاً خطيراً للمعايير الأوروبية والدولية وتمثل «إساءة لاستخدام قوانين مكافحة الإرهاب».
- تصنيف الناتو
في السياق ذاته، وجَّه حلف شمال الأطلسي (ناتو) انتقادات للتطورات التي شهدتها تركيا في الفترة الماضية على صعيد الديمقراطية وحقوق الإنسان. وذكر تقرير أعدته الجمعية البرلمانية لحلف الناتو، أن تركيا هي الدولة الوحيدة ضمن دول الحلف المصنفة «بلداً غير حر».
وقالت أورسولا شميت، العضو في البوندستاغ الألماني، إن تركيا مرَّت بتحول مقلق بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي شهدتها في منتصف يوليو عام 2016.
ولفت التقرير إلى أن حلفاء تركيا الغربيين وجماعات حقوق الإنسان رأوا أن تصرفات حكومة أنقرة في أعقاب محاولة الانقلاب كانت غير ملائمة.
وتم التعبير عن هذا الرأي بشكل متكرر من قبل أعضاء حلف الناتو خلال الدورة السنوية للجمعية في إسطنبول في نوفمبر (تشرين الثاني) 2016.
ﻭﺃﻓﺎﺩ التقرير بأن 50 ألف ﺷﺨﺺ ﺍﺣﺘُﺠﺰﻭﺍ (إضافة إلى من ﺃﻓﺮﺝ عنهم بعد التحقيق معهم)، ﻭﺃﻥ أكثر من 150 ألف موظف مدني ﻭﺃﻛﺎﺩيميين ﻓﻘﺪﻭا ﻭﻇﺎﺋﻔﻬﻢ، فضلاً عن إغلاق 1500 ﻣﻦ ﻣﺆﺳﺴﺎﺕ المجتمع ﺍلمدني ﻭ19 اتحاداً عمالياً ﻭﺃﻛﺜﺮ ﻣﻦ 2000 مدرسة و170 مؤسسة ومنصة إعلامية.
وتوالت الانتقادات الموجهة إلى سياسة الحكومة التركية في التعامل مع ملف حرية الإعلام، وأصدرت مفوضة حقوق الإنسان في المجلس الأوروبي، دونجا مياتوفيتش، تقريراً حول حرية التعبير في تركيا، ناقشت فيه إساءة استخدام القوانين من قبل السلطات التركية ودورها السلبي على حرية التعبير.
وفي مقابلة أجرتها مع موقع «دويتشه فيله» الألماني، أخيراً، شرحت مياتوفيتش أسباب مشاركتها في قضية رجل الأعمال المدافع عن حقوق الإنسان عثمان كافالا المحتجز في تركيا منذ أكثر من عام لاتهامه بمحاولة الإطاحة بنظام الحكم.
وقالت: «إن الوثيقة التي تبين أن إساءة استخدام القوانين لها تأثير سلبي على حرية التعبير أمر مهم لجميع دول مجلس أوروبا»، وتؤكد أنه حان الوقت «لمناقشة هذه القضية بشكل صريح وواضح».
وأضافت: «لا يمكن أن تكون ذريعة مكافحة الإرهاب على حساب حقوق الإنسان ولا سيما حرية التعبير... القوانين التي تم تبنيها في تركيا من أجل مكافحة الإرهاب جعلت الحياة مستحيلة بالنسبة للناس في البلاد، وأن حكومة تركيا بذريعة تلك القوانين زادت من قبضتها الأمنية وتعتقل كل شخص يخالفها الرأي».
- ملاحقات مستمرة
وعلى الرغم من الانتقادات المتصاعدة تواصل الحكومة التركية ملاحقاتها للصحافيين المعارضين، وأصدرت السلطات التركية، قبل أيام أمر اعتقال بحق رئيس تحرير صحيفة «جمهوريت» التركية السابق، جان دوندار، في إطار تحقيق حول احتجاجات جيزي بارك التي خرجت في إسطنبول عام 2013 ضد حكم الرئيس رجب طيب إردوغان، الذي كان رئيساً للوزراء في ذلك الوقت.
وقال ممثلو الادعاء العام إن دوندار لعب دوراً نشطاً في الاحتجاجات، خصوصاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فيما لم يتضح كيف يمكن تنفيذ المذكرة لأن دوندار يعيش خارج البلاد في منفى اختياري بألمانيا.
ومن قبل، صدر على دوندار حكم بالسجن 5 سنوات عام 2016 لنشره تسجيلاً مصوراً تظهر فيه عناصر تابعة للمخابرات التركية تنقل أسلحة إلى سوريا، وأطلق سراحه رهن المحاكمة وسافر للخارج.
وكانت السلطات ألقت القبض قبلها بأسبوعين على 13 شخصاً في إطار التحقيق في احتجاجات جيزي بارك التي يقول إردوغان إنها نظمت ومولت من جانب رجل الأعمال الناشط الحقوقي، عثمان كافالا، الذي اعتقل منذ أكثر من عام، فيما لم توجه السلطات له تهماً بشأن الاحتجاجات، التي ينفي الزعم الموجه ضده بشأنها، وذلك بالتعاون مع رئيس منظمة « المجتمع المفتوح» الأميركية جورج سوروس.
وذكر ممثلو الادعاء في أمر اعتقال مكتوب موجه إلى المحكمة أن دوندار كان على صلة بكافالا خلال الاحتجاجات. واتهموه بالعمل مع «متآمرين محليين وخارجيين» بالتحريض على الفوضى وتشجيع «الإرهابيين» خلال احتجاجات عام 2013، ونفى دوندار صحة الاتهامات الموجهة ضده، ووصفها بأنها «تهديد وافتراء»، وأكد أنه فخور بدعمه لاحتجاجات جيزي «السلمية».
وانتقد دوندار قرار السلطات التركية بتوقيفه، وكتب على حسابه في «تويتر»: «يجري توقيف من كانوا في طليعة احتجاجات متنزه (جيزي) بناء على مزاعم سخيفة».
ومن جانبه، قال الصحافي النمساوي ماكس زيرنغاست، المعتقل في تركيا منذ الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) الماضي، دون محاكمة، إن «طغيان نظام الرئيس التركي رجب طيب إردوغان يجعله آخر من يحق له التخفي تحت ستار قضية مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، والدعوة لاعتماد حرية الصحافة والإعلام».
وأضاف زيرنغاست، في مقال نشرته له صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، تحت عنوان: «أنا صحافي في المعتقل التركي: لماذا إردوغان يخاف من أمثالي؟»، أن ما شهده هو نفسه من تنكيل جسدي ومعنوي منذ اقتحام شقته في الساعة السادسة صباحاً، واعتقاله بتهمة الإرهاب، دون أي شواهد، يُشكّل نموذجاً صارخاً في تناقضه مع الدعاوى الحكومية التركية التي جرى توظيف قضية خاشقجي لها... لكن هذه هي تركيا إردوغان، حيث تسقط اليد الثقيلة للدولة على أي صحافي معارض، وعلى النشطاء والأكاديميين.
وأضاف أن «كل المنابر الإعلامية التركية أصبحت منذ عامين مستهدفة بالرقابة والتقييد، وهو الأمر الذي جعل تركيا تحصل على ميدالية الدولة الأسوأ في نهج اعتقال الصحافيين».
وفي التقرير الذي عرض فيه الصحافي النمساوي تفاصيل ما جرى له طوال شهرين، دون أن تكون هناك لائحة اتهامات موجهة إليه، قال زيرنغاست إن هذه المعلومات جرى تهريبها على شكل قصاصات متفرقة، ثم توصيلها إلى فيينا لتجهيزها للنشر في واشنطن.
وقال إنه منذ اليوم الأول لاحتجازه لدى الشرطة، جرى وضعه في زنزانة ينام فيها على الخشب مع بطانية رقيقة دون وسائد، علماً بأن درجة الحرارة كانت قريبة من التجمد، فيما يوجد بالسقف ضوء مسلَّط عليه طوال الليل، وأن استجوابه الأول بعد أيام عدة من الاعتقال، انصبّ على الكتب المنشورة التي وجدوها في غرفته عند اقتحام شقته، وجُلّها عن الأوضاع والسياسات الكردية التي كان تخصص بمتابعتها وهو في بلاده.
- مطاردات في الخارج
لم تعد ملاحقات الصحافيين تقتصر على الداخل التركي، فقد أوقفت السلطات الرومانية صحافياً تركياً يُشتبه في صلته بالداعية فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة، الذي تتهمه أنقرة بتدبير الانقلاب الفاشل في صيف 2016.
وقالت فيفيانا تشيوكا ممثلة الادعاء في بوخارست لـ«أسوشييتد برس»، إن الصحافي كمال دميركايا، الذي يعمل في صحيفة «زمان» الصادرة عن حركة الخدمة التابعة لغولن في رومانيا، احتجز، الأربعاء الماضي، استناداً إلى طلب ترحيل من تركيا، لكونه «عضواً في «جماعة إجرامية إرهابية»، في إشارة إلى حركة الخدمة.
كانت الحكومة التركية أغلقت صحيفة «زمان» في تركيا، بعد محاولة الانقلاب، التي ينفي غولن الضلوع فيها، فيما تصدر الصحيفة المنتقدة لإردوغان، حالياً في رومانيا وبلغاريا وعدد آخر من الدول الأوروبية والعربية.


مقالات ذات صلة

وفاة «أيقونة التعليق العربي» ميمي الشربيني

رياضة عربية المعلق التلفزيوني الشهير ميمي الشربيني (وسائل إعلام مصرية)

وفاة «أيقونة التعليق العربي» ميمي الشربيني

نعى النادي الأهلي أكثر الأندية المصرية تتويجاً بالألقاب في كرة القدم وفاة لاعبه السابق والمعلق التلفزيوني الشهير ميمي الشربيني.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شؤون إقليمية الصحافية الإيطالية سيسيليا سالا متفاعلة عند وصولها إلى منزلها في روما بعد إطلاق سراحها من الاحتجاز بإيران يوم 8 يناير 2025 (رويترز)

صحافية إيطالية كانت معتقلة بإيران تشيد بدور ماسك في إطلاق سراحها

قالت صحافية إيطالية، كانت محتجزة في إيران، إن اتصال صديقها بإيلون ماسك ربما كان عاملاً «جوهرياً» في إطلاق سراحها.

«الشرق الأوسط» (روما)
خاص مدير القنوات في «MBC» علي جابر يروي لـ«الشرق الأوسط» تفاصيل عودته من المرض والغيبوبة (علي جابر)

خاص علي جابر «العائد من الموت» يروي ما رأى على «الضفة الأخرى»

جراحة فاشلة في العنق، ساقٌ مكسورة، نزيف في الأمعاء، ذبحات قلبيّة متتالية، ودخول في الغيبوبة... هكذا أمضى علي جابر عام 2024 ليختمه إنساناً جديداً عائداً من الموت

كريستين حبيب (بيروت)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي دونالد ترمب (أ.ب)

الإعلام الأميركي يستعد لـ«الجولة» الثانية من «النزال» مع ترمب

سيتوجّب على الإعلام الأميركي التعامل مجدّداً مع رئيس خارج عن المألوف ومثير للانقسام ساهم في توسيع جمهور الوسائل الإخبارية... وفي تنامي التهديدات لحرّية الإعلام.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
العالم عدد الصحافيين السجناء في العالم بلغ 361 في نهاية عام 2024 (أرشيفية)

360 صحافياً مسجونون في العالم... والصين وإسرائيل في صدارة القائمة السوداء

أعلنت لجنة حماية الصحافيين، الخميس، أنّ عدد الصحافيين السجناء في العالم بلغ 361 في نهاية 2024، حيث احتلّت إسرائيل المرتبة الثانية في سجن الصحافيين، بعد الصين.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

شركات التكنولوجيا ووسائل الإعلام الليبرالية تتجه يميناً

إيلون ماسك (رويترز)
إيلون ماسك (رويترز)
TT

شركات التكنولوجيا ووسائل الإعلام الليبرالية تتجه يميناً

إيلون ماسك (رويترز)
إيلون ماسك (رويترز)

استقالت رسامة الكاريكاتير الأميركية -السويدية الأصل- آن تيلنيس، الحائزة على جائزة «بوليتزر»، من عملها في صحيفة «واشنطن بوست» خلال الأسبوع الماضي، بعد رفض قسم الآراء في الصحيفة رسماً كاريكاتيرياً يصوّر مالك الصحيفة، الملياردير جيف بيزوس مع مليارديرات آخرين من عمالقة التكنولوجيا، وهم ينحنون أمام تمثال للرئيس المنتخب دونالد ترمب. وفور إعلان الخبر رأى كثيرون أن الواقعة الجديدة تختصر صورة المرحلة المقبلة في الولايات المتحدة.

مارك زوكربيرغ (آ ب)

إعادة تموضع

خلال الحملة الانتخابية الأخيرة، بعدما بدا أن ترمب يتجه إلى العودة مجدداً إلى البيت الأبيض، بدأ الكثير من مسؤولي الشركات الكبرى ووسائل الإعلام الأميركية، رحلة «إعادة تموضع» تماشياً مع العهد الثاني لترمب. وهو ما تُرجم بداية بامتناع وسائل إعلام كانت دائماً تُعد رمزاً لليبرالية، مثل: «واشنطن بوست» و«لوس أنجليس تايمز»، عن تأييد أي من المرشحين الرئاسيين، فضلاً عن تغيير غرف التحرير في محطات تلفزيونية عدة، ومراجعة الكثير من سياسات الرقابة والإشراف والمعايير الناظمة لعملها، إلى إعادة النظر في تركيبة مجالس إدارات بعض شركات التكنولوجيا.

وبعيداً عن انحياز الملياردير إيلون ماسك، مالك تطبيق «إكس»، المبكر لترمب، واتجاهه للعب دور كبير في إدارته المقبلة، كانت الاستدارة التي طرأت على باقي المنصات الاجتماعية والإعلامية مفاجئة وأكثر إثارة للجدل.

ان تيلنيس (جائزة بوليتزر)

خضوع سياسي أم تغيير أعمق؟

البعض قال إنه «خضوع» سياسي للرئيس العائد، في حين عدّه آخرون تعبيراً عن تغيير أعمق تشهده سياسات واشنطن، لا يُختصر في ترمب، بل يشمل أيضاً كل الطبقة السياسية في الحزبَيْن الجمهوري والديمقراطي، وحتى المزاج الشعبي الذي أظهرته نتائج الانتخابات.

في بيانها الموجز، قالت تيلنيس التي تعمل في «واشنطن بوست» منذ عام 2008، إن قرار الصحيفة رفض رسمها الكاريكاتيري «مغيّر لقواعد اللعبة» و«خطير على الصحافة الحرة». وكتبت: «طوال ذلك الوقت لم يُمنع رسم كاريكاتيري قط بسبب مَن أو ما اخترت أن أوجّه قلمي إليه حتى الآن». وأدرجت تيلنيس مسوّدة من رسمها الكاريكاتيري في منشور على موقع «سبستاك»، يظهر بيزوس، مؤسس «أمازون» ومالك الصحيفة، مع مؤسس شركة «ميتا» مارك زوكربيرغ، وسام ألتمان الرئيس التنفيذي لشركة «أوبن إيه آي»، وباتريك سون شيونغ مالك صحيفة «لوس أنجليس تايمز»، و«ميكي ماوس» التميمة المؤسسية لشركة «والت ديزني»، ينحنون أمام تمثال ترمب.

وطبعاً كان من الطبيعي أن «يختلف» ديفيد شيبلي، محرّر الآراء في الصحيفة، مع تقييم تيلنيس، وبالفعل قال في بيان إنه يحترم كل ما قدمته للصحيفة، «لكن يجب أن يختلف مع تفسيرها للأحداث»، معتبراً قرار منع نشر رسم الكاريكاتير «تفادياً للتكرار»، بعدما نشرت الصحيفة مقالات عن الموضوع.

... وزوكربيرغ يعود إلى أصوله

بيد أن تزامن منع الكاريكاتير مع الخطوة الكبيرة التي اتخذتها شركة «ميتا» يوم الثلاثاء، عندما أعلن مارك زوكربيرغ أن «فيسبوك» و«إنستغرام» و«ثريدز» ستُنهي عملية التدقيق في الحقائق من قِبل أطراف ثالثة، قرأها العالم السياسي بوصفها نوعاً من الاستسلام؛ إذ قال زوكربيرغ في مقطع فيديو نشره على «فيسبوك» إن «(ميتا) ستتخلّص من مدقّقي الحقائق، وستستعيض عنهم بملاحظات مجتمعية مشابهة لمنصة (إكس)»، وهو ما رآه البعض «تضحية بقيم الشركة على (مذبح) دونالد ترمب وسياسة (حرية التعبير)» للحزب الجمهوري الجديد. بالنسبة إلى المحافظين اليمينيين، الذين يعتقدون أن المشرفين ومدققي الحقائق ليبراليون بشكل شبه موحّد، واثقون بأن النهج الأكثر تساهلاً في تعديل المحتوى سيعكس الواقع بشكل أكثر دقة، من خلال السماح بمجموعة أوسع من وجهات النظر. وعدّ هؤلاء، ومنهم بريندان كار الذي اختاره ترمب لإدارة لجنة الاتصالات الفيدرالية، قرار «ميتا» انتصاراً.

في المقابل، أعرب الليبراليون عن «فزعهم»، وعدّوه «هدية لترمب والمتطرّفين في جميع أنحاء العالم». وقال معلقون ليبراليون إن من شأن خفض معايير التأكد من الحقائق من قِبل أكبر منصة في العالم يُنذر بمجال رقمي أكثر غرقاً بالمعلومات الكاذبة أو المضللة عمداً مما هو عليه اليوم.

ابتعاد عن الليبرالية

هذا، ومع أنه من غير المتوقع أن يؤدي قرار زوكربيرغ بالضرورة إلى تحويل الإنترنت إلى «مستنقع للأكاذيب أو الحقائق»؛ لأن الخوارزميات هي التي تتحكم بما يُنشر في نهاية المطاف. فإن قراره يعكس، في الواقع، ابتعاد شركات التكنولوجيا عن الرؤية الليبرالية لمحاربة «المعلومات المضلّلة». وهذه مسيرة بدأت منذ سنوات، حين تراجعت «ميتا» عام 2019 عن التحقق من صحة الإعلانات من السياسيين، وعام 2023 عن تعديل الادعاءات الكاذبة حول انتخابات 2020.

وحقاً، كان إعلان يوم الثلاثاء هو الأحدث في سلسلة من تراجعات الشركة، واتجاهها نحو اليمين منذ إعادة انتخاب ترمب. ففي الأسبوع الماضي، عيّنت الشركة الجمهوري جويل كابلان رئيساً عالمياً للسياسة، وعيّنت، يوم الاثنين، دانا وايت، حليفة ترمب التي لعبت دوراً رئيساً خلال المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري، في مجلس إدارة الشركة. وفي السياق نفسه تضمّن إعلان يوم الثلاثاء نقل فريق الثقة والسلامة في الشركة من ولاية كاليفورنيا «الليبرالية»، إلى ولاية تكساس «الجمهورية»؛ مما يعكس دعوات من قادة التكنولوجيا اليمينيين مثل إيلون ماسك إلى تركيز الصناعة في بيئات «أقل ليبرالية» من «وادي السيليكون».

ترمب ممثلاً للأكثرية

في مطلق الأحوال، مع أن كثيرين من النقاد والخبراء يرون أن هذا التغيير يعكس بالفعل حقيقة ابتعاد شركة «ميتا» وغيرها من شركات ومواقع التواصل الاجتماعي عن الرؤية الليبرالية للحوكمة الرقمية، لكنهم يشيرون إلى أنه ابتعاد مدفوع أيضاً بالقيم الأساسية للصناعة التي جرى تبنيها إلى حد كبير، تحت الإكراه، استجابة للحظات سياسية مشحونة.

ومع تحوّل ترمب تدريجياً من كونه متطفلاً دخيلاً على الحياة السياسية الأميركية، إلى الممثل الأبرز للأكثرية التي باتت تخترق كل الأعراق -وليس فقط البيض- فقد بدا أن هذا النهج الذي يشبه نظام المناعة بات أقل ملاءمة، وربما، بالنسبة إلى شركات مثل «ميتا»، أكثر ضرراً سياسياً وأقل ربحية.