شركات التكنولوجيا ووسائل الإعلام الليبرالية تتجه يميناً

تساؤلات في أميركا وخارجها عما إذا كانت قد خضعت لترمب؟

إيلون ماسك (رويترز)
إيلون ماسك (رويترز)
TT

شركات التكنولوجيا ووسائل الإعلام الليبرالية تتجه يميناً

إيلون ماسك (رويترز)
إيلون ماسك (رويترز)

استقالت رسامة الكاريكاتير الأميركية -السويدية الأصل- آن تيلنيس، الحائزة على جائزة «بوليتزر»، من عملها في صحيفة «واشنطن بوست» خلال الأسبوع الماضي، بعد رفض قسم الآراء في الصحيفة رسماً كاريكاتيرياً يصوّر مالك الصحيفة، الملياردير جيف بيزوس مع مليارديرات آخرين من عمالقة التكنولوجيا، وهم ينحنون أمام تمثال للرئيس المنتخب دونالد ترمب. وفور إعلان الخبر رأى كثيرون أن الواقعة الجديدة تختصر صورة المرحلة المقبلة في الولايات المتحدة.

مارك زوكربيرغ (آ ب)

إعادة تموضع

خلال الحملة الانتخابية الأخيرة، بعدما بدا أن ترمب يتجه إلى العودة مجدداً إلى البيت الأبيض، بدأ الكثير من مسؤولي الشركات الكبرى ووسائل الإعلام الأميركية، رحلة «إعادة تموضع» تماشياً مع العهد الثاني لترمب. وهو ما تُرجم بداية بامتناع وسائل إعلام كانت دائماً تُعد رمزاً لليبرالية، مثل: «واشنطن بوست» و«لوس أنجليس تايمز»، عن تأييد أي من المرشحين الرئاسيين، فضلاً عن تغيير غرف التحرير في محطات تلفزيونية عدة، ومراجعة الكثير من سياسات الرقابة والإشراف والمعايير الناظمة لعملها، إلى إعادة النظر في تركيبة مجالس إدارات بعض شركات التكنولوجيا.

وبعيداً عن انحياز الملياردير إيلون ماسك، مالك تطبيق «إكس»، المبكر لترمب، واتجاهه للعب دور كبير في إدارته المقبلة، كانت الاستدارة التي طرأت على باقي المنصات الاجتماعية والإعلامية مفاجئة وأكثر إثارة للجدل.

ان تيلنيس (جائزة بوليتزر)

خضوع سياسي أم تغيير أعمق؟

البعض قال إنه «خضوع» سياسي للرئيس العائد، في حين عدّه آخرون تعبيراً عن تغيير أعمق تشهده سياسات واشنطن، لا يُختصر في ترمب، بل يشمل أيضاً كل الطبقة السياسية في الحزبَيْن الجمهوري والديمقراطي، وحتى المزاج الشعبي الذي أظهرته نتائج الانتخابات.

في بيانها الموجز، قالت تيلنيس التي تعمل في «واشنطن بوست» منذ عام 2008، إن قرار الصحيفة رفض رسمها الكاريكاتيري «مغيّر لقواعد اللعبة» و«خطير على الصحافة الحرة». وكتبت: «طوال ذلك الوقت لم يُمنع رسم كاريكاتيري قط بسبب مَن أو ما اخترت أن أوجّه قلمي إليه حتى الآن». وأدرجت تيلنيس مسوّدة من رسمها الكاريكاتيري في منشور على موقع «سبستاك»، يظهر بيزوس، مؤسس «أمازون» ومالك الصحيفة، مع مؤسس شركة «ميتا» مارك زوكربيرغ، وسام ألتمان الرئيس التنفيذي لشركة «أوبن إيه آي»، وباتريك سون شيونغ مالك صحيفة «لوس أنجليس تايمز»، و«ميكي ماوس» التميمة المؤسسية لشركة «والت ديزني»، ينحنون أمام تمثال ترمب.

وطبعاً كان من الطبيعي أن «يختلف» ديفيد شيبلي، محرّر الآراء في الصحيفة، مع تقييم تيلنيس، وبالفعل قال في بيان إنه يحترم كل ما قدمته للصحيفة، «لكن يجب أن يختلف مع تفسيرها للأحداث»، معتبراً قرار منع نشر رسم الكاريكاتير «تفادياً للتكرار»، بعدما نشرت الصحيفة مقالات عن الموضوع.

... وزوكربيرغ يعود إلى أصوله

بيد أن تزامن منع الكاريكاتير مع الخطوة الكبيرة التي اتخذتها شركة «ميتا» يوم الثلاثاء، عندما أعلن مارك زوكربيرغ أن «فيسبوك» و«إنستغرام» و«ثريدز» ستُنهي عملية التدقيق في الحقائق من قِبل أطراف ثالثة، قرأها العالم السياسي بوصفها نوعاً من الاستسلام؛ إذ قال زوكربيرغ في مقطع فيديو نشره على «فيسبوك» إن «(ميتا) ستتخلّص من مدقّقي الحقائق، وستستعيض عنهم بملاحظات مجتمعية مشابهة لمنصة (إكس)»، وهو ما رآه البعض «تضحية بقيم الشركة على (مذبح) دونالد ترمب وسياسة (حرية التعبير)» للحزب الجمهوري الجديد. بالنسبة إلى المحافظين اليمينيين، الذين يعتقدون أن المشرفين ومدققي الحقائق ليبراليون بشكل شبه موحّد، واثقون بأن النهج الأكثر تساهلاً في تعديل المحتوى سيعكس الواقع بشكل أكثر دقة، من خلال السماح بمجموعة أوسع من وجهات النظر. وعدّ هؤلاء، ومنهم بريندان كار الذي اختاره ترمب لإدارة لجنة الاتصالات الفيدرالية، قرار «ميتا» انتصاراً.

في المقابل، أعرب الليبراليون عن «فزعهم»، وعدّوه «هدية لترمب والمتطرّفين في جميع أنحاء العالم». وقال معلقون ليبراليون إن من شأن خفض معايير التأكد من الحقائق من قِبل أكبر منصة في العالم يُنذر بمجال رقمي أكثر غرقاً بالمعلومات الكاذبة أو المضللة عمداً مما هو عليه اليوم.

ابتعاد عن الليبرالية

هذا، ومع أنه من غير المتوقع أن يؤدي قرار زوكربيرغ بالضرورة إلى تحويل الإنترنت إلى «مستنقع للأكاذيب أو الحقائق»؛ لأن الخوارزميات هي التي تتحكم بما يُنشر في نهاية المطاف. فإن قراره يعكس، في الواقع، ابتعاد شركات التكنولوجيا عن الرؤية الليبرالية لمحاربة «المعلومات المضلّلة». وهذه مسيرة بدأت منذ سنوات، حين تراجعت «ميتا» عام 2019 عن التحقق من صحة الإعلانات من السياسيين، وعام 2023 عن تعديل الادعاءات الكاذبة حول انتخابات 2020.

وحقاً، كان إعلان يوم الثلاثاء هو الأحدث في سلسلة من تراجعات الشركة، واتجاهها نحو اليمين منذ إعادة انتخاب ترمب. ففي الأسبوع الماضي، عيّنت الشركة الجمهوري جويل كابلان رئيساً عالمياً للسياسة، وعيّنت، يوم الاثنين، دانا وايت، حليفة ترمب التي لعبت دوراً رئيساً خلال المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري، في مجلس إدارة الشركة. وفي السياق نفسه تضمّن إعلان يوم الثلاثاء نقل فريق الثقة والسلامة في الشركة من ولاية كاليفورنيا «الليبرالية»، إلى ولاية تكساس «الجمهورية»؛ مما يعكس دعوات من قادة التكنولوجيا اليمينيين مثل إيلون ماسك إلى تركيز الصناعة في بيئات «أقل ليبرالية» من «وادي السيليكون».

ترمب ممثلاً للأكثرية

في مطلق الأحوال، مع أن كثيرين من النقاد والخبراء يرون أن هذا التغيير يعكس بالفعل حقيقة ابتعاد شركة «ميتا» وغيرها من شركات ومواقع التواصل الاجتماعي عن الرؤية الليبرالية للحوكمة الرقمية، لكنهم يشيرون إلى أنه ابتعاد مدفوع أيضاً بالقيم الأساسية للصناعة التي جرى تبنيها إلى حد كبير، تحت الإكراه، استجابة للحظات سياسية مشحونة.

ومع تحوّل ترمب تدريجياً من كونه متطفلاً دخيلاً على الحياة السياسية الأميركية، إلى الممثل الأبرز للأكثرية التي باتت تخترق كل الأعراق -وليس فقط البيض- فقد بدا أن هذا النهج الذي يشبه نظام المناعة بات أقل ملاءمة، وربما، بالنسبة إلى شركات مثل «ميتا»، أكثر ضرراً سياسياً وأقل ربحية.



إعلامي سوري يوثق تجربته في «ألغام غرفة الأخبار»

المؤلف مكرماً في دولة الإمارات العربية المتحدة (الشرق الأوسط)
المؤلف مكرماً في دولة الإمارات العربية المتحدة (الشرق الأوسط)
TT

إعلامي سوري يوثق تجربته في «ألغام غرفة الأخبار»

المؤلف مكرماً في دولة الإمارات العربية المتحدة (الشرق الأوسط)
المؤلف مكرماً في دولة الإمارات العربية المتحدة (الشرق الأوسط)

يتحدّث الصحافي آلجي حسين في كتابه الأول «ألغام غرفة الأخبار»، في تجربته الأولى عن الواقع الإعلامي بشقَيْه: الميداني على الأرض/ والعمل في غرف الأخبار، ونقل تحديات مهنة الصحافة في دول العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط.

الكتاب وقّعه كاتبه في معرض أبوظبي الدولي للكتاب بدورته الرابعة والثلاثين، أخيراً. وهو صادر عن «دار تعلّم للنشر والتوزيع» في دولة الإمارات العربية المتحدة، ويتطرّق إلى خفايا غرف الأخبار ومقارنتها مع أكثر أنوع الأسلحة خطورةً مثل النووية.

من جهة ثانية، يتوزّع الكتاب على عشرة فصول، ويتضمّن مقدمة بعنوان «هذا الكتاب لهذا»، ثم تتوالى عناوين الفصول «الكلمة رصاصة في حقل ألغام»، و«الأخبار المروعة»، و«القوة الناعمة للأخبار»، و«فلسفة نظريات الإعلام». ويأتي وسط زحمة أخبار جذابة يصنعها الصحافيون ويتسيّدون أبطالها، وبين مشاهد الرعب والدمار والألغام في العالم. ثم إن الكتاب يدق ناقوس الخطر، محذراً من الاستخدام غير السليم للكلمة؛ إذ يقول حسين إن «الكلمة رصاصة، يجب حسن استخدامها وترتيب توقيتها وانتقائها ووضعها في سياقها الصحيح، إنسانياً ومهنياً».

آلجي حسين (الشرق الأوسط)

السير في حقل الألغام

آلجي حسين، المحرّر الصحافي السوري الكردي الذي عايش وغطى إعلامياً حروباً وأزمات عديدة في سوريا والعراق والصومال، تناول في بداية حواره مع «الشرق الأوسط» عن كتابه الأول، أنه كُتب بعيداً عن غرف الأخبار المكيفة. كما يصف، موثقاً عبر عدسة كاميرته وقلمه مشاهد النزوح القسرية ومآسي المخيمات وأهوال الإرهاب، والأزمات الإنسانية التي عصفت بمسقط رأسه القامشلي وبلده سوريا على مدار 14 سنة مضت.

ويشرح حسين: «الكتاب نبع من تجربة شخصية؛ ليعبّر عن هواجس وتساؤلات عما يدور في ذاكرتي الصحافية اليومية بين ثنايا الأخبار، ولا سيما نقل الهموم والتطورات المتسارعة إلى جمهور القراء». ويضيف أن الشريحة الأكبر من الجمهور يجهلون أن هذه المهنة لا تخلو من المصاعب والتحديات «ولا سيما العمل الميداني».

يعرض آلجي حسين في كتابه «دهاليز» اجتماعات إدارة التحرير وغرف الأخبار وتغطيات المراسلين الميدانيين، التي يشبهها بمذكراتِ جندي نجا من الموت بعد سيره في حقلِ ألغام. ولا ينسى التغطيات الساخنة، وكيف أن كثيرين من الصحافيين والإعلاميين لاقوا حتفهم وهم ينقلون الحقيقة. ويروي أسئلة الموت والحياة في عالمِ الصحافة، وكيفَ تحولت إلى قوة ناعمة، وكلمةِ الفصل في ساحاتِ الحرب.

«ألغام غرفة الأخبار» يقع في 100 صفحة من القطع المتوسط. وحسب كلام مؤلفه، يبيّن أن محرّر الأخبار هو ذاته الذي عليه السير في حقل الألغام أو حتى في منجم فحم. وهنا يوضح المؤلف شارحاً: «قد ينفجر بك لغم في أي لحظة، أما غرفة الأخبار فهي تحدٍّ من نوع آخر!... لأن عالم النشر تحدٍّ في زمن تسارع الأحداث وتعقيدات الوضع الميداني على الأرض».

ثم يقول إن الفرق الوحيد بين «الزرّين» في النشر و«الأسلحة النووية» هو أن الأسلحة تدمر البنية التحتية والبشرية، في حين أن «زر النشر» قادر على تغيير المعارف والاتجاهات الإنسانية، ويؤثّر في السلوك العام، ويلعب دوراً كبيراً في تبنّي المواقف.

بعد ذلك، يسرد حسين: «من تطورات الحرب السورية بعد سقوط النظام المخلوع نهاية العام الماضي، واستمرار الحرب الروسية - الأوكرانية، وتقلّبات الحربَيْن السودانية واليمنية، وكوارث الحرب في غزة، والملفات الساخنة في أفريقيا... ومروراً بالانقسامات اللبنانية، فضلاً عن أحداث اللجوء وصعود اليمين المتطرف في أوروبا، إلى أميركا اللاتينية وانتخاباتها، مع تعقيدات آسيا؛ كلها أحداث يلخصها هذا الكتاب كما لو كانت (وجبات سريعة يقتاتها الصحافي في غرفة الأخبار)».

الصحافة مهنة السّير بين الكلمات

وفي فصل «الأخبار لذة وأذى» يعلّق حسين، قائلاً إن «مهنة الإعلام تحرق الأعصاب، وتتطلّب المتابعة الكثيفة ودقة في نقل الأخبار»، مضيفاً: «قدرُنا أن نبقى ساعات طوالاً جالسين وراء شاشات الكمبيوتر نتابع ونرصد ونحرر ونترجم ونصنع ما يصلنا من الأخبار». ويتابع مؤكداً أنه يعيش كل يوم أكثر من عشر ساعات مضنية بين ثنايا الأخبار؛ «لأستكمل المهمة في المنزل على شاشة التلفاز، مروراً بالهاتف المتحرك (بين بين)، وليس انتهاءً بمذياع السيارة، ما يعني أنني وصلت إلى مرحلة من الذروة في تذوّق الأخبار، لا يمكن الانفصال عنها بسهولة».

وفي فصل «الكلمة رصاصة في حقل ألغام» يبدأ المؤلف كاتباً عن الصحافة: «علّمتنا ولا تزال كيفية السير بين الكلمات، فالسير بين الكلمات كالسير بين ألغام، هذا إذا افترضنا أن فريق كشف الألغام الذي يرافقنا هو حسّنا الأمني والإنساني والمهني».

ثم يوصي المؤلف زملاءه في فصل «النداء الأخير للمحرّرين» من الكتاب، بتعزيز مهارة الإيجاز أو الاختصار أو البلاغة في كتاباتهم، من دون إخلال باللغة أو المعنى أو التفاصيل، ناصحاً: «استخدموا اللغة الإعلامية البيضاء البسيطة الفصيحة من دون أخطاء أو بلاغة فجة، واصقلوا مواهبكم بشكل كبير، والبحث عن الملاحظات وليس المديح؛ لأننا تلاميذ إلى الأبد».

في رأي آلجي حسين، يضع الإعلام، وبالذات عالم الأخبار، الصحافي أمام اختبار في كل خبر وتغطية قد لا ينظر إليها محرر آخر بالأهمية نفسها، ثم يقول: «إن الملفات الحساسة التي تهمّ الموقع، حسب سياسة التحرير، هي من القصص التي أضع لها اعتباراً كبيراً، وتشكل معضلة أخلاقية كبيرة، وهذا يتحقق بطبيعة الحال في المواضيع السياسية حسب كل دولة»، وهذا بالطبع، إلى جانب معرفة التشابكات ولغة المصالح بين الدول، وانعكاس ذلك على سياسة الوسيلة الإعلامية.