كوابيس لاجئ عراقي على مسرح لندني

عمل مقتبس عن قصة قصيرة للكاتب حسن بلاسم

كوابيس لاجئ عراقي على مسرح لندني
TT

كوابيس لاجئ عراقي على مسرح لندني

كوابيس لاجئ عراقي على مسرح لندني

يقدم مسرح «الأركولا» اللندني العرض الأول من مسرحية بعنوان «كوابيس كارلوس فوينتيس»، وهو عمل مقتبس عن قصة قصيرة بنفس العنوان للكاتب العراقي حسن بلاسم، الذي نالت الترجمة الإنجليزية لمجموعته القصصية «المسيح العراقي» مؤخرا جائزة «الإندبندنت» البريطانية للآداب الأجنبية.
تدور أحداث العمل، وهو من إخراج الإنجليزي نيكولاس كينت، وتأليف رشيد رزاق، حول شخصية «سليم عبد الحسين» (يجسده الممثل البريطاني من أصول مغربية نبيل الوهابي)، وهو لاجئ عراقي جاء إلى لندن آملا في تحقيق حلمه بأن يصبح مواطنا في «أرض الأحرار وموطن الشجعان»، على حد تعبيره. فكل ما يريده «سليم» هو الابتعاد عن العرب الذين «هم ليسوا إلا قبائل متوحشة» كما يقول، بإنجليزية ركيكة، مخاطبا موظفة الهجرة، عله ينجح في إقناعها بضرورة الحصول على حق اللجوء في بريطانيا.
ما إن يحل في لندن حتى يقوم سليم، وهو الهارب من كل ما يذكره بعروبته وأصوله الشرق أوسطية بكل ما بوسعه، للتخلص من جذوره العرقية والقومية والدينية جميعا، فيقرر أن يغيّر اسمه إلى «كارلوس فوينتيس». صحيح أن اسمه الجديد لا يمت للثقافة البريطانية بصلة، فإنه على الأقل ليس عربيا أيضا. كما يتزوج من «ليديا»، المرأة الإنجليزية التي تفوقه عمرا وخبرة، وتقرر، بحماس لا يخلو من التسلط، أن تجعل منه شخصا مختلفا. فتعزم على تعليمه النطق الصحيح للكلمات الإنجليزية وكيفية مطابقة الملابس الأنيقة، علّ زوجها القادم من بلاد الشرق البعيدة يرقى إلى توقعات أصدقائها الفضوليين.
إلا أن تقدم «كارلوس» الواعد سرعان ما يواجه بعض العقبات، إذ يعاني فجأة من سلسلة من الكوابيس الليلية المزعجة التي تقلب حياته إلى جحيم. وبالفعل ما إن يدخل كارلوس في جحيم الكوابيس حتى تقرر زوجته أن تعيده إلى العراق، بلده الذي طالما حاول التخلص منه. وفي إحدى الليالي يستيقظ كارلوس على واقع أسوأ من كل الكوابيس التي أصابته، ليجد نفسه مقيدا إلى أحد مقاعد مطار «هيثرو» الشهير وبرفقته حارس أمن إنجليزي غير مكترث به، مكلف بمهمة وضعه على متن أول طائرة متجهة نحو بغداد.
تحتل غرفة نوم «كارلوس» و«ليديا» حيزا مهما من مشاهد العمل، إذ إن المسرحية تبدأ وتنتهي في داخلها، كما يشغل السرير نصف مساحة خشبة مسرح «الأركولا» الصغيرة الحجم أساسا، لدرجة أن المشاهد يشعر وكأن السرير شخصية قائمة في حد ذاتها كغيرها من شخصيات العمل. فعملية التحول التي يمر بها «كارلوس»، والتي تتم في مجملها تحت إشراف زوجته «ليديا»، تحدث فوق السرير. فعليه تختبر «ليديا» معلومات زوجها حول الثقافة الإنجليزية، وعليه أيضا توبخه لارتدائه ربطة العنق من دون سترة، معتبرة أن ذلك يجعله يبدو «كنادل في أحد المطاعم اللبنانية»، كما تقوم أيضا بتقييده بالأصفاد تحسبا لإقدامه على عمل عدواني ما في حال عادت إليه نوبة الكوابيس الليلية.
مثل معظم الأبطال التراجيديين «كارلوس» هو ضحية لا أكثر، ضحية الظروف السياسية والعنف الطائفي الذي أفرزه الغزو الأميركي للعراق، الذي بدوره شرد الملايين من مواطنيه. ضحية لزوجته ليديا التي، على غرار حارس المطار، لا ترى فيه الجانب الإنساني بل تكتفي بمعاملته بطريقة ترضي غرورها. أما الأهم من هذا وذاك فهو أن «سليم»، ذلك العراقي البسيط، يقع ضحية سهلة لطموحات «كارلوس» البعيدة المنال وأوهامه حول قدرته على الانتقال السلس بين ثقافتين فيهما من الأمور ما يفرق أكثر مما يجمع.
طبعا من غير المرجح لـ«كارلوس» أو «سليم» أو أي مهاجر آخر أن يعثر على المفتاح الذي يمكنه من الولوج إلى قلب هوية وثقافة بلد المهجر، وهذا ما عبّر عنه الكاتب من خلال تكراره مرتين مشهد «ليديا» وهي تزحف على يديها وركبتيها في محاولة يائسة منها للبحث عن المفتاح لإزالة الأصفاد عن يدي زوجها المقّيد فوق السرير.
العروض مستمرة حتى 16 أغسطس (آب) الحالي على مسرح «الأركولا» شرق لندن.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)