«احتفالية اليونيسكو» بيوم العربية... تساؤلات ومحاولات للبحث عن حلول

حاكم الشارقة يعلن عن تأسيس احتفالية اليونيسكو«رابطة» للغة

حاكم الشارقة خلال لقائه مجموعة من علماء اللغة العربية في باريس
حاكم الشارقة خلال لقائه مجموعة من علماء اللغة العربية في باريس
TT

«احتفالية اليونيسكو» بيوم العربية... تساؤلات ومحاولات للبحث عن حلول

حاكم الشارقة خلال لقائه مجموعة من علماء اللغة العربية في باريس
حاكم الشارقة خلال لقائه مجموعة من علماء اللغة العربية في باريس

في الكلمة التي وجهتها مديرة عام اليونيسكو بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية الذي احتفلت به المنظمة الدولية في مقرها أمس، شددت أودري أزوليه على أن اللغة العربية «ركن من أركان التنوع الثقافي للبشرية»، و«إحدى أكثر اللغات انتشاراً واستخداماً في العالم»، مشيرة إلى أن ما يزيد على 290 مليوناً في أنحاء المعمورة يتكلمونها إضافةً إلى كونها «لغة العبادة» لأكثر من مليار ونصف المليار مسلم في العالم. وبالطبع، لم يفت المديرة العامة للمنظمة الثقافية والتعليمية الدولية أن تنوه باللغة العربية «مصدراً لتراث ثقافي وعلمي بديع، إضافةً إلى كونها وسيلة للتواصل في الحياة اليومية». واعتبرت أزوليه أن الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية يمثل فرصة «للتنويه بمساهماتها العظيمة في الحضارة البشرية ولا سيما من خلال الفنون والآداب والهندسة المعمارية والخطوط الفريدة»، إضافةً إلى كونها سبيلاً لنقل المعارف في مختلف ميادين العلم والمعرفة ومنها الطب والرياضيات والفلسفة والتاريخ وعلم الفلك».
وكان بمستطاع مديرة عام اليونيسكو أن تكون أكثر شمولية بإشارتها إلى ما قدمته هذه اللغة من خدمات للغرب ليخرج من سبات العصور الوسطى وإلى ما أغنت به المعاجم اللغات الغربية من الإيطالية إلى الفرنسية والإسبانية والبرتغالية... كما كان بإمكانها أن تشير إلى أهمية دعم وتعزيز اللغة العربية واللغات الأخرى من أجل المحافظة على التعددية اللغوية في العالم بما تحمله من ثراء حضاري وثقافي متنوع وغنى بشري لا يمكن التفريط فيه، وهي أمور تندرج في مهمات اليونيسكو الأساسية.
وكان الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة رئيس مجمع اللغة العربية بالشارقة، قد التقى صباح أمس (الثلاثاء)، في العاصمة الفرنسية باريس، مجموعة من علماء اللغة العربية وعدداً من رؤساء وكبار مسؤولي المجامع اللغوية والعلمية ومراكز اللغة العربية في الوطن العربي، إلى جانب أعضاء اللجنة العلمية العليا لجائزة «الألكسو الشارقة للدراسات اللغوية والمعجمية»، وذلك على هامش إطلاق الدورة الثانية للجائزة التي أقيمت مساء اليوم نفسه في مقر منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو)، ضمن احتفالات اليوم العالمي للغة العربية.
وتحدث حاكم الشارقة في مستهل لقائه عن المواضيع ذات الاهتمام المشترك والمتعلقة بشأن اللغة العربية وسبل النهوض بها خصوصاً بين جيل الشباب.
وقال إن الأمة العربية تعيش اليوم فترة من التغريب في مختلف مجالات الحياة، الذي يتطلب بذل مزيد من الجهود في دعم اللغة العربية وتعزيز الهوية العربية بين أبنائها، مبيناً أن «اللغوي والباحث في المجالات اللغوية والمعجمية عندما يحظى باهتمام وينال التقدير يكون عطاؤه متميزاً».
وأعلن خلال اللقاء عن مبادرة جديدة متمثلة في تأسيس رابطة اللغة العربية، وذلك في إطار دعم اللغة العربية، وتضم علماء اللغة العربية والباحثين من مختلف دول الوطن العربي.
وككل عام منذ 2012، وفي الثامن عشر من شهر ديسمبر (كانون الأول)، تحتفل اليونيسكو باليوم العالمي للغة العربية من خلال تنظيم مؤتمر في مقرها في باريس بالاشتراك مع المندوبية الدائمة للمملكة العربية السعودية لديها ومؤسسة الأمير سلطان بن عبد العزيز الخيرية التي تموّل برنامجاً لدعم اللغة العربية عبر المنظمة الدولية. وأهمية ما جاءت به هذا العام يتمثل في المحور الجامع الذي اندرجت تحته أبواب المؤتمر وهو «اللغة العربية والشباب». وبهذه المناسبة، أصدرت المندوبية السعودية الدائمة وبرنامج «أرابيا» كتاباً بعنوان «اللغة العربية والشباب» باللغتين العربية والفرنسية، أشرف عليه المندوب السعودي الدكتور إبراهيم البلوي. وجاء الكتاب غنياً بالمساهمات التي شاركت فيها مجموعة من الباحثين المرموقين. وكان الملف الغالب فيها يدور حول جدلية اللغة والهوية، الذي استحوذ على عشر مساهمات بالعربية من أصل 15 مساهمة.
وكما في الكتاب المذكور، فإن موضوع اللغة والهوية كان حاضراً في محاور المنتدى، إذ شكّل، بعد كلمات افتتاحية ثلاث لمساعدة المديرة العامة لقطاع العلوم الإنسانية والاجتماعية وللدكتور إبراهيم البلوي وللمدير العام لمؤسسة الأمير سلطان بن عبد العزيز، المحور الأول والرئيسي للجلسة الأولى التي أدارتها مندوبة لبنان لدى المنظمة الدولية سحر بعاصيري. أما الجلستان اللاحقتان فقد تناولتا موضوع اللغة العربية والفنون واللغة العربية ووسائل التواصل الاجتماعي. واليوم تستضيف اليونيسكو في السياق عينه وبدعوة من المندوبية السعودية ورشة عمل تحت عنوان «اللغة العربية والرياضة» يشارك فيها أكاديميون وإعلاميون من العالم العربي بينهم الدكتور عبد الله الوشمي، أمين عام مركز الملك عبد الله الدولي لخدمة اللغة العربية، والدكتور تركي العواد، والزميل جميل الذيابي وغيرهم.
حقيقة الأمر، أن موضوع اللغة والهوية الذي طغا أمس على مجمل النقاشات ليس جديداً، بل إن الكتب التي كُرِّست له ليس فقط في اللغة العربية ولكن في غالبيتها، أكثر من أن تُحصى لأنه يمس المجتمعات كافة وفي جميع الأطوار التاريخية. لكن هذه الإشارة لا تعني أن ما تردد في قاعة اليونيسكو، أمس، كان تكراراً أو أن الإشكالية التي طُرحت وفق الزوايا نفسها التي طُرحت سابقاً. وأحد التساؤلات اللافتة التي كانت تستدعي شرحاً وتفسيراً ذلك الذي جاء به الكاتب والمؤلف العراقي نعمة الطائي الذي تساءل عن «إمكانيات العربية في المساهمة في العولمة اللغوية» وشروطها. كذلك، فإن الروائية والكاتبة السعودية زينب الخضيري توقفت عند «التحديات الداخلية والخارجية» التي تواجهها اللغة العربية، ومنها: الجمود والتحجر، والتحدي التقني وثورة المعلوماتية، ويمكن أن نضيف إليها الذكاء الاصطناعي والعولمة ونزوع لغات أخرى للهيمنة والدفع إلى أحادية اللغة. وشددت الخضيري على الحاجة إلى تعزيز الثقافة والإبداع العربيين كرافعتين للغة العربية التي هي وعاؤهما والمعبِّر عنهما. ثم لا يمكن غض الطرف عن إشكالية العربية الفصحى والعربية العامية أو اللهجات العربية المحكية في البلدان العربية وأحياناً في البلد الواحد التي تناولتها سحر بعاصيري أو إشكالية اللغة والتغرب الثقافي.
ورغم أن عنوان المؤتمر العريض كان «اللغة العربية والشباب»، ورغم أهمية هذه الزاوية لتناول مستقبل العربية، فإن الكثير من المداخلات لم تركز على هذه «الثنائية» التي بقيت بحاجة إلى بحث وتمحيص. وإذا كان المندوب السعودي قد اعتبر أن أحد وجوه الاهتمام بالعربية يندرج في إطار التمسك بالتعددية الثقافية واللغوية ومن أجل بناء مجتمع السلام، إلا أن ورشة العمل التي تقيمها المندوبية اليوم تستجيب بمعنى ما لهذا التحدي الكبير وهو كيفية دفع الشباب العربي للتمسك بالعربية وتكلمها، لأن اللغة العربية التي لا يتكلمها أصحابها تتحول سريعاً إلى لغة ميتة. وفي السياق عينه، رأت ندى الناشف أن التمسك باللغة يعني «التمسك بالهوية والثقافة» الخاصة بالفرد أو المجموعة وأن الدفاع عنها هو في الواقع دفاع عنهما. ومن جانبه، أشار صالح الخليفي إلى أن الغرض من دعم العربية هو «ردم الفجوة مع الآخرين» وتمكين التواصل الحضاري، منوهاً بما يقوم به مركز الأمير سلطان على هذا الصعيد من خلال برامج التعاون مع العديد من المؤسسات الرائدة عبر العالم.
كثيرة هي مشكلات اللغة العربية وليس أقلها صورتها اليوم والربط بينها وبين الإرهاب، وهو ما أشارت إليه في بداية مداخلتها سارة الضاهر، مؤسسة جمعية «بالعربية للغة والتحديث» اللبنانية، التي بدأت مداخلتها بالقول إن العربية «ليست لغة إرهاب بل لغة ثقافة وحضارة». وإذا كان مؤتمر اليونيسكو، أمس، لن يحل قطعاً مشكلات اللغة العربية المستعصية، إلا أن إيجابياته أنه يسلط الضوء ويحث على العلم لتدارك التأخير الذي لحق بالعربية إزاء لغات أساسية في العالم سبقتنا بأشواط وما زلنا نلهث وراءها.


مقالات ذات صلة

مصر لتسجيل «الكشري» بقوائم التراث غير المادي باليونيسكو

يوميات الشرق آلة السمسمية (وزارة الثقافة المصرية)

مصر لتسجيل «الكشري» بقوائم التراث غير المادي باليونيسكو

بعد أن أعلنت مصر إدراج الحناء والسمسمية ضمن قائمة الصون العاجل بمنظمة اليونيسكو، تتجه لتسجيل الكشري أيضاً.

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق تسجيل «الورد الطائفي» لدى اليونيسكو يعكس قيمته بعدّه أحد عناصر الثقافة السعودية (الشرق الأوسط)

«الورد الطائفي» في قوائم «اليونيسكو»

أعلن الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان، وزير الثقافة رئيس مجلس إدارة هيئة التراث رئيس اللجنة الوطنية السعودية للتربية والثقافة والعلوم، نجاح السعودية في تسجيل.

عمر البدوي (الرياض) «الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق الحنة ترمز إلى دورة حياة الفرد منذ ولادته وحتى وفاته (الفنان العماني سالم سلطان عامر الحجري)

الحناء تراث عربي مشترك بقوائم «اليونيسكو» 

في إنجاز عربي جديد يطمح إلى صون التراث وحفظ الهوية، أعلنت منظمة «اليونيسكو»، الأربعاء، عن تسجيل عنصر «الحناء» تراثاً ثقافياً لا مادياً.

يوميات الشرق صابون الغار الحلبي الشهير من الأقدم في العالم (أ.ف.ب)

الحنّة والصابون الحلبي والنابلسي... «تكريم» مُستَحق

أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم، الحنّة والتقاليد المرتبطة بها، والصابون النابلسي، وصابون الغار الحلبي، في قائمة التراث الثقافي غير المادي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق تسجيل «الورد الطائفي» لدى اليونيسكو يعكس قيمته بعدّه أحد عناصر الثقافة السعودية (الشرق الأوسط)

اليونيسكو تُدرج الورد الطائفي في التراث غير المادي

أعلن وزير الثقافة السعودي عن نجاح المملكة في تسجيل «الممارسات الثقافية المرتبطة بالورد الطائفي» في قائمة اليونيسكو للتراث الثقافي غير المادي.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟