(1999) Titus
شكسبير حاضراً
اعتاد بعض المؤرخين ومنذ أجيال بعيدة النظر إلى مسرحية ويليام شكسبير «تايتوس أندرونيكوس» بعين الريبة مفترضين أن شكسبير لم يكتبها، وإذا فعل فهو لم يكتبها كاملة. ويرجعون السبب إلى اختلافها عن باقي تراجيديات شكسبير بعنفها الشديد، فالمسرحية عبارة عن حلقات انتقام من بضعة أطراف تأخذ أبعاداً دموية وتحتوي على قطع أيدي وتمثيل بالجثث والاغتصاب وحالات مماثلة أخرى.
لكن الكثير من الذين لا يرتابون في أن شكسبير مؤلف هذه المسرحية التراجيدية، يعتبرونها أسوأ ما كتب. في حين يرجح الباقون أنها ليست كذلك، والعنف الذي يغلفها ما هو إلا تعليق على أحداث جرت في محيطه وزمنه ولا تزال تجري في محيطنا نحن وزمننا، مما يجعل المسرحية عملاً يتخطى، كشأن أعمال الأديب الكبير، الأزمنة بجدارة.
جولي تايمور مدربة مسرحية إلى جانب أنها فنانة تشكيلية في الأساس تخوض عملية نقل هذه المسرحية، التي قلما اكترثت بها السينما، إلى الشاشة الكبيرة بعدما كانت قدمتها على المسرح سنة 1994. كما سبق لها أن قدمت مسرحيتي شكسبير «العاصفة» و«ترويض المتمردة» في العامين 1993 و1994. وهي كانت كتبت حينما قدمت «تايتوس أندرونيكوس» أن ما لفت نظرها في المسرحية هي أنها تعلق على ما يدور اليوم من عنف شديد يأخذ شكل حروب إبادة وتفرقة عنصرية واعتداءات مختلفة.
تقوم تايمور بتقديم شخصية صبي من اليوم يلج عالم الأمس، وتنقل المسرحية من إطارها الزمني البعيد إلى ثلاثينات هذا القرن. بذلك تؤكد على استمرار ما ذهب إليه شكسبير في مسرحيته من إدانة للشر والذات الانتقامية كما تدين حروب اليوم كما أدانها ويليام شكسبير في القرن السادس عشر (نشرت المسرحية أول مرّة سنة 1594) وما بعده٠
يفتح الفيلم على عيني صبي وراء قناع من كيس وَرَقي. ترجع الكاميرا عنه في اللحظات السابقة لفورة خيالية حادة، إذ يبدأ الصبي ببعثرة لعبه والألوان وكل ما على طاولة المطبخ حيث كان يأكل ويلعب. المزيج الصارخ مع حركة كاميرا لاهثة وموسيقى صادحة تعكس جواً موحشاً منذ البداية تقطعه تايمور بنقل الصبي مباشرة إلى ساحة رومانية تعج بالجنود. إنهم من الدمى التي كان يلعب بها الصبي وقد أخذت تتحرك فإذا بها جنود تايتوس العائدين من الحرب ضد قبائل «غوث» الشمالية. المشاة بالزي الروماني يتقدمون مدرعات ودبابات تعود إلى الثلاثينات، وهذا بمثابة إطلالة الفيلم المشبعة الأولى على ربط ينطلق من اليوم إلى الأمس والأمس البعيد في تأسيس مشهدي واحد.
والقصة من هنا تتوالى حسب الأصل: عودة القائد المظفر تايتوس الذي خسر معظم أولاده في تلك الحرب وانتقامه من الملكة بقتل أكبر أبنائها، ثم وقوفه إلى جانب الإمبراطور الروماني الشاب المنتخب الذي جر عليه المزيد من الويلات حالما تسللت الملكة إلى قلب الإمبراطور فتزوج بها. لكن الملكة إنما تنفذ في أحيان كثيرة ما يخططه لها هارون، المغربي الأسمر الذي عاش عبداً لفترة طويلة وتحول إلى جندي لكنه يشعر بالظلم الدائم بسبب عنصره. إنه عشيق الملكة الخفي وهو يكشف لها ما يريد من أوراق ويكشف لولديها الأرعنين ما يريد من أوراق أيضا، ويحتفظ بأمل الخروج من ضرب كل الأطراف بعضها ببعض بفوز على الجميع.
تمثيل ممتاز من جميع المشتركين يتقدمهم أنطوني هوبكنز الذي يخلق مسافات ملحوظة بين أدواره في أفلام هوليوود، وبين أدواره في الأفلام التي تتمتع بقيمة أدبية وفنية في ميداني الكتابة والإخراج كما هو الحال هنا. وحين مشاهدة «تايتوس» تتوالى عليك صور مصممة بعناية لكي تعكس الخيال الفني لدى تايمور. كثير من اللعب الجيد بالتصاميم العامة والأزياء وحركة الكاميرا وهي تحسن الدمج بين العصور من دون أن يهتز تأثير عصر واحد أو يضعف ذلك المنهل الزمني للمسرحية الأصلية (كما حدث مع اقتباس باز لورمان «روميو+ جولييت» - أدناه) أو يشوه منطلقاتها وميزاتها الخاصة.
سنوات السينما
سنوات السينما
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة