تأخير بدء اليوم الدراسي ضروري لصحة المراهقين

دراسة أميركية تكشف تحسن الاستيعاب مع زيادة فترات النوم

تأخير بدء اليوم الدراسي ضروري لصحة المراهقين
TT

تأخير بدء اليوم الدراسي ضروري لصحة المراهقين

تأخير بدء اليوم الدراسي ضروري لصحة المراهقين

عندما أعلنت المدارس العامة في مدينة سياتل أكبر مدن ولاية واشنطن الأميركية، أنها ستعيد تنظيم مواعيد بدء الدراسة في خريف عام 2016 استغرق تنفيذ المشروع واسع النطاق فترة تزيد على العام.
وفي حين فتحت المدارس الابتدائية أبوابها أمام دخول التلاميذ في وقت مبكر، قامت معظم المدارس الإعدادية وجميع المدارس الثانوية بالمدينة، 18 مدرسة، بتغيير موعد دق جرس بداية اليوم الدراسي وتأجيله لمدة تربو على ساعة، ليصبح في الساعة الثامنة وخمس وأربعين دقيقة صباحا بدلا من السابعة وخمسين دقيقة.
وتباينت ردود أفعال أولياء الأمور إزاء هذا التطور، وتغيرت مواعيد الأنشطة غير الروتينية التي تُمارس خارج المناهج الدراسية المنتظمة، وبالمثل تم تعديل مواعيد حافلات المدارس.
وكما كان الأمل معقودا، استخدم المراهقون وقت الفراغ الذي أتيح لهم بعد تغيير مواعيد الدراسة في الحصول على قسط إضافي من النوم.
وفِي ورقة بحثية نشرتها دورية «ساينس أدفانسيز»، أعلن الباحثون بجامعة واشنطن ومعهد «سالك» للدراسات البيولوجية أن المراهقين في اثنتين من المدارس الثانوية بمدينة سياتل حصلوا على فترة أطول من النوم خلال ليالي العام الدراسي، بعد أن تم تأخير موعد الذهاب إلى المدرسة. وبلغ متوسط الزيادة في وقت النوم 34 دقيقة كل ليلة، مما عزز القسط الإجمالي لفترة النوم في ليالي العام الدراسي للطلاب، من متوسط ست ساعات وخمسين دقيقة في السابق عندما كانت المدارس تبدأ اليوم الدراسي في وقت مبكّر، إلى سبع ساعات و24 دقيقة بمقتضى النظام الجديد الذي يتم فيه تأخير دخول الطلاب إلى الحصص الدراسية.
وقال هوراشيو دي لا ليجيلزيا، الباحث المشارك والمشرف على الدراسة، الذي يعمل أستاذا لعلم الأحياء بجامعة واشنطن: «تشير هذه الدراسة إلى حدوث تحسن ملموس في استمرارية النوم لدى الطلاب، وتحقق ذلك عن طريق تأخير وقت بدء الدراسة، الأمر الذي يمكنهم من التوافق بدرجة أكبر مع أوقات الاستيقاظ الطبيعية المناسبة للمراهقين».
وجمعت الدراسة بيانات حول علاقة الضوء بالنشاط، من الأشخاص الخاضعين للدراسة عن طريق استخدام شاشات مراقبة نشاط مفصل المعصم، بدلا من الاعتماد فقط على أنماط النوم التي يفصح عنها هؤلاء الأشخاص مثلما هو معهود في الدراسات المتعلقة بالنوم، وذلك لإظهار أن تأخير موعد بدء الدراسة يفيد المراهقين عن طريق السماح لهم بالحصول على قسط أطول من النوم كل ليلة. وكشفت الدراسة أيضا أنه بعد تغيير المدارس لموعد بدء الحصص الدراسية، لم يسهر الطلاب بشكل ملحوظ فيما بعد، بل، ببساطة، طالت فترة نومهم، وهو سلوك يقول عنه العلماء إنه متوافق مع الإيقاعات البيولوجية الطبيعية للمراهقين. وقال المؤلف الرئيسي للدراسة جيديون دانستر طالب الدكتوراه في علم الأحياء بجامعة واشنطن: «أشارت الأبحاث التي أجريت حتى الآن إلى أن الإيقاعات الحيوية في جسم المراهق التي تتكرر كل 24 ساعة، تختلف بشكل جوهري عن مثيلتها لدى الراشدين والأطفال».
وذكرت وكالة الأنباء الألمانية أن الدراسة أوضحت أن تقلب الإيقاعات الحيوية في أجسام البشر تساعد عقولنا وأجسامنا على الحفاظ على «ساعة داخلية» تخبرنا عن الوقت الذي نحتاج فيه إلى تناول الطعام أو النوم، أو إلى الراحة أو العمل، وذلك في عالم يدور حول محوره مرة كل 24 ساعة تقريبا. وتتفاعل العوامل الوراثية لدينا مع العوامل الخارجية الموجودة في البيئة المحيطة بِنَا مثل ضوء الشمس، لكي تخلق هذا الكم المتواصل من النشاط، ولكي تحافظ على استمراره، غير أن بداية سن البلوغ يطيل دائرة الإيقاعات الحيوية في جسم المراهق، وينقص أيضا حساسية الإيقاعات للضوء وقت الصباح. وتدفع هذه التغيرات المراهقين إلى النوم في وقت متأخر كل ليلة، والاستيقاظ أيضا في وقت متأخر من الصباح مقارنة بمعظم الأطفال والراشدين.
وفي هذا الصدد، قال دي لا ليجيلزيا: «إذا طلبت من مراهق أن يستيقظ وأن يكون على أهبة الاستعداد في السابعة والنصف صباحا، فيماثل هذا الطلب أن تطلب من راشد أن يكون نشيطا ومتأهبا في الخامسة والنصف صباحا».
ويوصي العلماء بشكل عام بأن يحصل المراهقون على فترة من النوم تبلغ عشر ساعات كل ليلة، ولكن الالتزامات الاجتماعية التي تقع على عاتقهم في الصباح الباكر مثل بدء التحصيل الدراسي، تجبرهم على تغيير جدول أوقات نومهم لتصبح مبكرة في الليالي التي يتوجهون في صباحها إلى المدارس، أو على اختصار فترة النوم. ويمكن أن تؤثر بعض الأجهزة التي يصدر عنها ضوء مثل الهواتف الذكية وأجهزة الكومبيوتر، بل وحتى المصابيح اللد التي يصدر عنها ضوء أزرق، على الإيقاعات الحيوية لأجسام المراهقين والراشدين أيضا، بما يؤخر الدخول في النوم، وذلك وفقا لما يقوله دي لا ليجيلزيا.
وتشير دراسة ميدانية حول الشباب أصدرها «مركز مكافحة الأمراض والوقاية منها في الولايات المتحدة» عام 2017 إلى أن ربع عدد المراهقين في عمر طلاب المدارس الثانوية هم فقط من قالوا إنهم يحصلون على القسط الأدنى من النوم الذي يوصي به الخبراء وهو ثماني ساعات كل ليلة.
بينما يقول دانستر إن جميع الدراسات التي أجريت حول أنماط النوم لدى المراهقين في الولايات المتحدة، أشارت إلى أن الوقت الذي يقع فيه المراهقون بشكل عام تحت سلطان النوم يتم تحديده وفقا لعوامل بيولوجية، ولكن الوقت الذي يستيقظون فيه، يتم تحديده وفقا لاعتبارات اجتماعية. ويحذر دانستر قائلا: «هذا الاتجاه له عواقب قاسية على الصحة والعافية، لأن التشويش على الإيقاعات الحيوية للجسم يمكن أن يؤثر سلبا على عمليات الهضم وضربات القلب وحرارة الجسم ووظائف الجهاز المناعي ومدى الانتباه وأيضا على الصحة العقلية».
وأجرت الدراسة التي أعدتها جامعة واشنطن مقارنة بين سلوكيات النوم لدى مجموعتين منفصلتين من طلاب السنة الثانية من المدارس العليا، والذين يدرسون علم الأحياء في مدرستي روزفلت وفرنكلين. فقد تم وضع أجهزة مراقبة لأنشطة مفصل المعصم لدى مجموعة تضم 92 طالبا من المدرستين بحيث تعمل هده الأجهزة طوال اليوم ولمدة أسبوعين، وذلك في ربيع عام 2016 عندما كانت المدرسة لا تزال تبدأ موعد الحصص في الساعة السابعة وخمسين دقيقة صباحا. وجمعت الأجهزة معلومات حول مستويات الضوء والنشاط كل 15 ثانية ولكنها لم تجمع بيانات عن وظائف الجسم لدى الطلاب.
وفِي عام 2017، بعد مرور سبعة أشهر على بدء تأخير موعد بدء اليوم الدراسي، أجرى الباحثون تجربة على مجموعة ثانية تضم 88 طالبا من المدرستين ووضعوا في أيديهم نفس أجهزة المراقبة. واستخدم الباحثون البيانات الخاصة بالضوء والحركة التي رصدتها الأجهزة لتحديد الوقت الذي ينام، ويستيقظ، فيه الطلاب، وعمل مدرسان من مدرسة روزفلت ومدرس واحد من مدرسة فرنكلين مع الباحثين بجامعة واشنطن في إطار إعداد الدراسة، والتي تم تضمينها بعد ذلك في مناهج علم الأحياء بالمدرستين، كما تقدم طلاب المجموعتين بمعلومات ذاتية عن البيانات الخاصة بنومهم.
وكشفت المعلومات التي تم الحصول عليها من أجهزة المراقبة بالمعصم عن الزيادة الملحوظة في استمرارية فترة النوم، والتي ترجع إلى حد كبير إلى تأثير زيادة جرعة النوم خلال أيام الأسبوع.
وأوضح دي لا ليجيلزيا أن «34 دقيقة من النوم الإضافي كل ليلة لها تأثير كبير على المراهق».
كما كشفت الدراسة عن تغييرات أخرى بخلاف النوم، فبعد تأخير موعد بدء اليوم الدراسي، تحركت أوقات استيقاظ الطلاب خلال أيام الأسبوع وعطلات نهاية الأسبوع بشكل متوافق، كما تحسن أداؤهم الدراسي، على الأقل، في منهج علم الأحياء، كما ارتفعت الدرجات النهائية التي حصل عليها الطلاب الذين ذهبوا إلى المدرسة بعد تأخير موعد دخولهم بنسبة 4.5 في المائة، وذلك بالمقارنة بالطلاب الذين يذهبون إلى مدارسهم في وقت مبكر.
ويأمل الباحثون في أن تساعد الدراسة التي أجروها على إتاحة المعلومات لإثراء المناقشات الجارية في الدوائر التعليمية حول المواعيد المناسبة لبدء اليوم الدراسي، وأوصت الأكاديمية الأميركية لطب الأطفال في عام 2017 بألا يبدأ اليوم الدراسي في المدارس الإعدادية والثانوية قبل الثامنة والنصف صباحا، رغم أن معظم المدارس الثانوية في الولايات المتحدة تبدأ يومها قبل هذا الموعد. ووافق أعضاء الكونغرس بولاية كاليفورنيا في وقت سابق العام الحالي على إصدار قانون يحظر بدء اليوم الدراسي في معظم المدارس الثانوية بالولاية قبل الثامنة والنصف صباحا.
ومن المقرر أن تدرس مدينة «فيرجينيا بيتش» التي يوجد بها واحدة من أكبر مدارس الضواحي في ولاية فيرجينيا إدخال تغييرات على موعد بدء اليوم الدراسي في مدارسها.
وأضاف دي لا ليجيلزيا: «موعد بدء اليوم الدراسي له تداعيات خطيرة بالنسبة لكيفية استيعاب الطلاب للمواد التعليمية، والمراهقون لديهم طبيعة مشتركة واحدة، والسؤال الآن: ما الجدول الذي ستضعه مدارسهم؟».


مقالات ذات صلة

دراسة تكشف: مدرستك الثانوية تؤثر على مهاراتك المعرفية بعد 60 عاماً

الولايات المتحدة​ دراسة تكشف: مدرستك الثانوية تؤثر على مهاراتك المعرفية بعد 60 عاماً

دراسة تكشف: مدرستك الثانوية تؤثر على مهاراتك المعرفية بعد 60 عاماً

أظهر بحث جديد أن مدى جودة مدرستك الثانوية قد يؤثر على مستوى مهاراتك المعرفية في وقت لاحق في الحياة. وجدت دراسة أجريت على أكثر من 2200 من البالغين الأميركيين الذين التحقوا بالمدرسة الثانوية في الستينات أن أولئك الذين ذهبوا إلى مدارس عالية الجودة يتمتعون بوظيفة إدراكية أفضل بعد 60 عاماً، وفقاً لشبكة «سكاي نيوز». وجد الباحثون أن الالتحاق بمدرسة مع المزيد من المعلمين الحاصلين على تدريب مهني كان أوضح مؤشر على الإدراك اللاحق للحياة. كانت جودة المدرسة مهمة بشكل خاص للمهارات اللغوية في وقت لاحق من الحياة. استخدم البحث دراسة استقصائية أجريت عام 1960 لطلاب المدارس الثانوية في جميع أنحاء الولايات المتحدة

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
العالم العربي مصر: نفي رسمي لـ«إلغاء مجانية» التعليم الجامعي الحكومي

مصر: نفي رسمي لـ«إلغاء مجانية» التعليم الجامعي الحكومي

نفت الحكومة المصرية، أمس السبت، عزمها «إلغاء مجانية التعليم الجامعي»، مؤكدة التزامها بتطوير قطاع التعليم العالي. وتواترت أنباء خلال الساعات الماضية حول نية الحكومة المصرية «إلغاء مجانية التعليم في الجامعات الحكومية»، وأكد مجلس الوزراء المصري، في إفادة رسمية، أنه «لا مساس» بمجانية التعليم بكل الجامعات المصرية، باعتباره «حقاً يكفله الدستور والقانون لكل المصريين».

إيمان مبروك (القاهرة)
«تشات جي بي تي»... خصم وصديق للتعليم والبحث

«تشات جي بي تي»... خصم وصديق للتعليم والبحث

لا يزال برنامج «تشات جي بي تي» يُربك مستخدميه في كل قطاع؛ وما بين إعجاب الطلاب والباحثين عن معلومة دقيقة ساعدهم «الصديق (جي بي تي)» في الوصول إليها، وصدمةِ المعلمين والمدققين عندما يكتشفون لجوء طلابهم إلى «الخصم الجديد» بهدف تلفيق تأدية تكليفاتهم، لا يزال الفريقان مشتتين بشأن الموقف منه. ويستطيع «تشات جي بي تي» الذي طوَّرته شركة الذكاء الصناعي «أوبن إيه آي»، استخدامَ كميات هائلة من المعلومات المتاحة على شبكة الإنترنت وغيرها من المصادر، بما في ذلك حوارات ومحادثات بين البشر، لإنتاج محتوى شبه بشري، عبر «خوارزميات» تحلّل البيانات، وتعمل بصورة تشبه الدماغ البشري. ولا يكون النصُّ الذي يوفره البرنامج

حازم بدر (القاهرة)
تحقيقات وقضايا هل يدعم «تشات جي بي تي» التعليم أم يهدده؟

هل يدعم «تشات جي بي تي» التعليم أم يهدده؟

رغم ما يتمتع به «تشات جي بي تي» من إمكانيات تمكنه من جمع المعلومات من مصادر مختلفة، بسرعة كبيرة، توفر وقتاً ومجهوداً للباحث، وتمنحه أرضية معلوماتية يستطيع أن ينطلق منها لإنجاز عمله، فإن للتقنية سلبيات كونها قد تدفع آخرين للاستسهال، وربما الاعتماد عليها بشكل كامل في إنتاج موادهم البحثية، محولين «تشات جي بي تي» إلى أداة لـ«الغش» العلمي.

حازم بدر (القاهرة)
العالم العربي بن عيسى يشدد على أهمية التعليم لتركيز قيم التعايش

بن عيسى يشدد على أهمية التعليم لتركيز قيم التعايش

اعتبر محمد بن عيسى، الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة، ووزير الخارجية المغربي الأسبق، أن مسألة التعايش والتسامح ليست مطروحة على العرب والمسلمين في علاقتهم بالأعراق والثقافات الأخرى فحسب، بل أصبحت مطروحة حتى في علاقتهم بعضهم ببعض. وقال بن عيسى في كلمة أمام الدورة الحادية عشرة لمنتدى الفكر والثقافة العربية، الذي نُظم أمس (الخميس) في أبوظبي، إن «مسألة التعايش والتسامح باتت مطروحة علينا أيضاً على مستوى بيتنا الداخلي، وكياناتنا القطرية، أي في علاقتنا ببعضنا، نحن العرب والمسلمين».

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».