سكورسيزي يروي تجربته في ثالث أيام مهرجان الفيلم بمراكش

دي نيرو قال إنّ شخصية ترمب لا تثيره ليتقمصها سينمائياً

المخرج الأميركي مارتن سكورسيزي في مهرجان مراكش
المخرج الأميركي مارتن سكورسيزي في مهرجان مراكش
TT

سكورسيزي يروي تجربته في ثالث أيام مهرجان الفيلم بمراكش

المخرج الأميركي مارتن سكورسيزي في مهرجان مراكش
المخرج الأميركي مارتن سكورسيزي في مهرجان مراكش

مع توالي أيام المهرجان الدُّولي للفيلم بمراكش في دورته الـ17، تبدأ مختلف فقرات التظاهرة في البوح بأسرارها، شيئاً فشيئاً. في ثالث أيام التظاهرة، كُرّمت المخرجة الفرنسية أنييس فاردا، وأجاب الممثل الأميركي روبرت دي نيرو على أسئلة الإعلاميين والمهنيين، كما ألقى المخرج مارتن سكورسيزي درسه أمام حشد غفير، في وقت تواصلت العروض السينمائية، ودخل فيلمان جديدان، هما «دايان» و«الحمولة»، دائرة التنافس في المسابقة الرسمية.
- دي نيرو وترمب
كما كان الحال في دورات سابقة مع نجوم أميركيين طبعوا المشهد السينمائي العالمي، شاركوا في دورات سابقة من المهرجان الدولي للفيلم بمراكش، واصل روبرت دي نيرو خطف الأضواء، بحضوره الطاغي وحديثه المميز عن تجربته ورؤيته للفن والمهنة، من دون أن يتأخّر في التعبير عن مواقفه بصدد ما يؤمن به من قضايا أو يعارضه من مواقف سياسيّة على صعيد بلاده. أكثر من ذلك، أظهر هذا الفنان الذي تألّق في عشرات الأفلام التي لاقت نجاحاً عالمياً، حسّاً رفيعاً، سواء في طريقته العفوية في التواصل مع جمهور المهرجان أو الإعلاميين والمهنيين الذين تابعوا مؤتمره الصحافي، أو جالسوه في عدد من اللقاءات، أو خلال نزوله ضيفاً على الجمهور المراكشي في ساحة جامع الفنا، حيث قُدّم وعرض فيلم «المحصنون» (1987) لمخرجه براين دي بالما.
خلال المؤتمر الصحافي الذي احتضنته قاعة السّفراء في قصر المؤتمرات، أجاب دي نيرو على مختلف الأسئلة التي طرحها إعلاميون، وطلبة سينما، ومهنيون.
تحدث عن طريقة عمله مع المخرجين، خصوصاً مارتن سكورسيزي، الذي قال عنه إنّه «يقوم بأمور مذهلة». كما استحضر علاقة الصّداقة التي جمعته ببرناردو برتولوتشي، مشيراً إلى أنّه «آسف وحزين لرحيل هذا المخرج الكبير»، ومشيراً إلى أنّ «أفلامه كانت ملهمة». كما تحدّث عن مخرج آخر هو سيرجيو ليون، فقال إن لديه ذكريات طيّبة معه، وأنّه كان يركّز كثيراً على عمله.
وتحدث دي نيرو عن محتوى الأفلام، فقال إنه في تغير مستمر، مشيراً إلى أنّ هناك، اليوم، نوعاً جديداً من الأفلام، وأنّ تلك النّوعية من الأفلام التي عرفناها في أوقات سابقة لم تعد متوفرة في عالم اليوم. وعن مشروعاته المستقبليّة تحت إدارة مارتن سكورسيزي، قال دي نيرو إنّه ربما سيكون هناك مشروع يجمعه بليوناردو دي كابريو.
لم ينسَ دي نيرو أن يؤكّد على أهمية دراسة السينما في المعاهد والمؤسسات الخاصة، وكذا الجامعات، من جهة أنّها تساعد على تحسين طريقة تقمّص جوهر الشّخصية على نحو صحيح، مشدّداً على أنّ الموهبة، بقدر ما هي ضرورية، تتطلّب صقلاً في التكوين المتخصّص. وكما كان الحال، خلال كلمته في أمسية تكريمه، إذ تأسّف لمرور بلاده بـ«مرحلة غريبة من الوطنية»، مضيفاً: «يسودها الجشع وكراهية الآخر والأنانية تحت شعار (أميركا أولاً)»، وانتقد دي نيرو، رئيس بلاده دونالد ترمب، حين قال: «لا يمكنني أن أجد أي تعاطف مع إدارة ترمب، وبالتالي لا يمكنني أن أتقمّص دوراً يقدّم شخصيته في فيلم سينمائي. ليس لديَّ اهتمام بأن ألعب دوره. وأنا أنتظر كل يوم أن أعثر على تصرف يقوم به يجعلني أتعاطف معه، غير أنّني أستبعد حدوث هذا الأمر».
في وقت متأخر، كان دي نيرو مع موعد مع جمهور ساحة جامع الفنا، حيث تقاسم مع آلاف المراكشيين وسياح مراكش من مختلف الجنسيات عرض فيلم «المحصنون»، من إخراج مارتن سكورسيزي، الذي يلعب فيه دور البطولة.
- تكريم أنييس فاردا
كلّما تقدم «الكبار» في العمر والتجربة زادوا تواضعاً. ذلك كان حال المخرجة الفرنسية وهي تتقدم بخطوات متثاقلة على خشبة قاعة «الوزراء» في قصر المؤتمرات، لكي تتسلّم نجمة تكريمها بمناسبة دورة هذه السنة من مهرجان مراكش.
تحظى فاردا، الشخصية المميزة والمخرجة الرئيسية في تيار الموجة الجديدة، باعتراف دولي كبير. هي مصورة وكاتبة سيناريو وممثلة ومخرجة وفنانة تشكيلية. ولا يبدو أنّ هناك حدوداً لفضولها الهائل. وفيلمها «وجوه وأماكن»، الذي أنجزته مع الفنان الشاب جي آر، الذي ترشح لجوائز الأوسكار 2018، دليل آخر على حرية هذه الفنانة الاستثنائية، وقدراتها الإبداعية.
لم تتناول فاردا في أفلامها، موضوعات مختلفة عما طرحه نظراؤها، كجون لوك غودار وفرنسوا تروفو فقط، بل إنّها عملت كذلك، بطريقة شديدة الاختلاف. وحينما توجهت للعمل في السينما عام 1954 بصدور فيلمها «لا بوانت كورت»، تعاملت فاردا المتخصصة في التصوير التي لم تتلق أي تدريب سينماتوغرافي رسمي مع السينما بطريقة شديدة الانفتاح وحب الاطلاع.
كانت تنظر من خلال عيون لا تعتمد التقييم بل الانفتاح، فأعطت الأولوية لما سمته الكتابة السينمائية، وعارضت مفهوم «الكاتب الوحيد لسيناريو الفيلم»، مبرزة الطّابع الجماعي للعمل السينمائي، ومعترفة بكتاب السيناريو. كما أنّ انفتاحها على العالم الخارجي، يعني أنّها اكتشفت، كذلك، قصص المهمشين، وهم غالباً من النساء المتقدمات في السّن أو من طبقة العمال، وأنّها أعادت النظر في حكايات تعتبر ملحمية وأساسية بشكل عام. وأبلغ فيلم يعبر عن ذلك شريط «من دون مأوى وخارج القانون» (1985)، الذي حاز «الأسد الذهبي» في مهرجان البندقية.
في نهاية المطاف، تبقى الحياة أكبر مصدر للإلهام بالنسبة لفاردا، ومن هنا، استحالة تفادي المعاناة. بيد أنّه ينبغي الملاحظة أنها تقاوم العدمية وتستخدم الشجن كنقطة لإحداث التوازن وقياس الفرح، مما يوحي بوجود الاثنين في انسجام أو على الأقل في علاقة تضافر: إذ لا يمكن أن نفهم أحدهما من دون الآخر.
- درس سكورسيزي
على عادته، بدا المخرج الأميركي سكورسيزي منشرحاً، وهو يتحدث عن علاقته بالسينما، وعن أفلامه وطريقة تعامله مع الإخراج: مخرج من طينة فريدة، لا يسعك إلا أن تنصت إلى درسه.
في مراكش، أكّد سكورسيزي أنّه واحد من الوجوه البارزة والرئيسة في السينما العالمية، منذ أكثر من 40 سنة، فهو ليس مخرجاً أسطورياً فقط، بل كذلك مدافعاً لا يكل ولا يمل عن الفن السابع. كما أنّه مدرسة قائمة الذات لها الكثير من المريدين عبر العالم. وقد صور الكثير من النجوم الكبار، مثل روبرت دي نيرو وليوناردو دي كابريو، الممثلين المفضلين لديه، بعضاً من أعظم أفلامهم تحت إدارته. كما يعد سكورسيزي الذي حاز الكثير من جوائز الأوسكار، بينها أوسكار أفضل فيلم وأفضل مخرج عـن شريطه «المغادرون»، واحداً من المخرجين الأكثر تأثيراً في العالم. وتعتبر أعماله من بين الأفلام الأكثر تتويجاً والأكثر إطراء من طرف النّقاد، ولعناوينها صدى قوي في الذاكرة: «شــوارع متواضعة»، و«الثور الهائج» و«سائق التاكسي» و«الإغراء الأخير للمسيح» و«أصدقاء طيبون» و«عصابات نيويورك» و«المغادرون» و«الطيار».
خلال «المحادثة» التي جمعته مع مخرجين مغربيين هما فوزي بنسعيدي وليلى المراكشي، تحدث سكورسيزي عن بدايات عشقه للسينما، مستحضراً مرضه في طفولته، وكيف كان والداه يأخذانه إلى السينما لتغيير الأجواء، مشيراً إلى تأثره بعلاقة العشق التي ربطها عدد من أفراد عائلته بالفن السابع، وكيف كانوا يتأثّرون بأحداث الأفلام التي كانوا يشاهدونها عبر التلفزيون في البيت. كما تحدّث عن الأفلام التي كان لها تأثير في مسيرته، باسطاً التحولات التي عرفتها السينما على مدى قرن من الزمن، مستشرفاً الآفاق المستقبلية للفن السّابع في ظل التحولات الجارية التي طالت الإنسان والآلة. كما لم يفته أن يتحدّث عن علاقته بروبرت دي نيرو «الصديق ورفيق الدرب».
- سباق أفلام
بعد «جوي» و«الفتيات الحسناوات»، دخل فيلمان جديدان سباق التنافس على جوائز المهرجان: «دايان» لمخرجه كنت جونز و«الحمولة» لمخرجه أونين غلافونيتش.
يحكي «دايان»، قصة دايان، أرملة في السبعينات من عمرها، تقضي وقتها في قيادة سيارتها من مكان إلى آخر، بين معارفها في ولاية ماساشوستس، مالئة أيامها بأعمال خيرية على الرّغم من كونها أعمالاً تبدو صغيرة، مثل خدمة محتاجين في عشاء كنسي، وزيارة قريب مريض في مستشفى، وتوزيع بعض الأطعمة على الجيران، ودردشة مع بعض الأصدقاء القدامى. لكنّ أثقل تلك الأعباء هو التفاعل مع ابنها المدمن على المخدرات رافضاً العودة إلى مركز التأهيل، بعد أن سبق له أن ارتكب جرماً قبل عدة سنوات. وبينما يتوارى جيلها وتزداد وحدتها وتتراجع حياتها المألوفة أمام عينيها، تدرك دايان أنّها في مواجهة عزلتها وفكرة الغفران.
في الفيلم، يثير المخرج من خلال شخصية دايان، التي أدّت دورها ماري كاي بلايس، موضوع مرور الزمن والتأمل العميق فيه.
من جهته، يحكي فيلم «الحمولة»، كيف أنّه في الوقت الذي كانت الحروب اليوغسلافية توشك على نهايتها، يتولّى فلادا مهمة قيادة شاحنة تبريد من كوسوفو إلى بلغراد، من دون أن يعرف طبيعة الحمولة التي ينقلها على ظهر شاحنته - أو للدّقة يُراد أن يبقى الأمر سراً، بينما يخضع لأوامر صارمة بعدم التوقف عن القيادة مهما كان، وبعدم فتح مقصورة الشّحن لأي شخص. وبينما هو يشقّ طريقه بصعوبة بين خراب الرّيف المدمر، يصبح العبء الأخلاقي لتواطؤه في أعمال حرب مظلمة أثقل من أي وقت مضى. ومن خلال قصة الفيلم، يقف المتفرج على إصرار من المخرج في بناء التوتر والقلق، راسماً مشاهد للقتل لا تظهر على الشّاشة بل تبقى غامضة.


مقالات ذات صلة

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

سينما المخرج إيستوود مع نيكولاس هاولت (وورنر)

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

ماذا تفعل لو أنك اكتشفت أن الشخص المتهم بجريمة قتل بريء، لكنك لا تستطيع إنقاذه لأنك أنت من ارتكبها؟ لو اعترفت لبرّأت المتهم لكنك ستحلّ مكانه في السجن

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
سينما من «الفستان الأبيض» (أفلام محمد حفظي)

شاشة الناقد: دراما نسوية

في فن صنع الأفلام ليس ضرورياً أن يتقن المخرج الواقع إذا ما كان يتعامل مع قصّة مؤلّفة وخيالية.

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
يوميات الشرق مشهد من فيلم «هُوبَال» الذي يُعرض حالياً في صالات السينما السعودية (الشرق الأوسط)

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يندر أن يتعلق الجمهور السعودي بفيلم محلي إلى الحد الذي يجعله يحاكي شخصياته وتفاصيله، إلا أن هذا ما حدث مع «هوبال» الذي بدأ عرضه في صالات السينما قبل أسبوع واحد.

إيمان الخطاف (الدمام)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما صُناع فيلم «إيميليا بيريز» في حفل «غولدن غلوب» (رويترز)

«ذا بروتاليست» و«إيميليا بيريز» يهيمنان... القائمة الكاملة للفائزين بجوائز «غولدن غلوب»

فاز فيلم «ذا بروتاليست» للمخرج برادي كوربيت الذي يمتد لـ215 دقيقة بجائزة أفضل فيلم درامي في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)