ربما لم يكن هناك أفضل من فيلم من قيمة وتوجه «عند بوابة الخلود» (الولايات المتحدة - فرنسا) لمخرجه جوليان شنايبل، ليفتح شهية المشاهدة أمام عشاق الفن السابع، من المشاركين والمتابعين لفعاليات المهرجان الدولي للفيلم بمراكش، الذي انطلق، مساء أول من أمس، في دورته الـ17. بحفل افتتاح أعاد التظاهرة إلى دينامية اشتغالها من جديد، «بعد مرور سنة عرفت توقف المهرجان»، وهو توقف قال عنه الأمير مولاي رشيد رئيس مؤسسة المهرجان الدولي للفيلم بمراكش، في كلمة تقديم دورة هذه السنة إنه قد «أملته ضرورة التأمل وإعادة تحديد هويتنا».
استعاد البساط الأحمر للتظاهرة عادة استقبال المدعوين والضيوف، من شتى أنحاء العالم. منهم من وزع التحايا على الجمهور ورسم ابتسامة على المقاس، ومنهم من أخذ راحة الاقتراب أكثر من جمهور المهرجان، خصوصاً من بين النجوم المغاربة والعرب. كانت يسرا وليلى علوي من أبرز المدعوين الذين سرقوا الأضواء وتفاعلوا مع الجمهور الذي ملأ الجنبات المؤدية إلى قصر المؤتمرات في ليلة الافتتاح.
مع توالي أيام التظاهرة، سيكون الجمهور مع نجوم طبعوا السينما العالمية: النجم الأميركي روبير دي نيرو، مثلاً، الذي اختار مهرجان مراكش أن يحتفي به في مناسبتين: فقرة «التكريمات» و«محادثة مع...»، سيكون واحداً من كبار نجوم السينما العالمية، الذين سيمنحون للتظاهرة صدى إضافياً.
انطلق حفل الافتتاح باستعراض سياق تنظيم الدورة وبرنامج فقراتها، مع تخصيص حيز لتقديم مشاهد من قائمة الأفلام الـ14 المشاركة في المسابقة الرسمية. قبل أن يتم تقديم أعضاء لجنة التحكيم، التي تحدث رئيسها المخرج الأميركي جيمس غراي عن مشاعره اتجاه المغرب والسينما ودورها في منح هامش لتناول قضايا العالم، ليمر الجميع إلى مشاهدة فيلم «عند بوابة الخلود»، الذي يحكي سيرة الرسام الهولندي الشهير فينست فان غوغ، وذلك في الوقت الذي كان فيه جمهور آخر، بساحة جامع الفنا، على موعد مع عرض فيلم «كورصة» لمخرجه عبد الله فركوس، الذي لعب، أيضاً، دور البطولة إلى جانب كل من بشرى أهريش وخلود وربيع القاطي، وذلك ضمن فقرة أفلام الساحة، التي تعرف متابعة جماهيرية كبيرة.
فيلم الافتتاح الرسمي، الذي هو من بطولة وليم دافوي في دور فينسنت فان غوغ، وروبرت فريند في دور ثيو فان غوغ، وأوسكار إسحق في دور بول غوغان، وإيمانويل سينر في دور مدام جينو، الذي شهد تألق وليم دافوي، بشكل لافت، تحاشى الشكل التقليدي للأفلام التي تحكي سير الأشخاص، ليخلق عملاً ذا حساسية فنية صرفة في محاولة لسبر أغوار فكر هذا الفنان الشهير. لذلك لم يكن أمام المتفرجين إلا أن ينتبهوا للحوارات ويرحلوا خلف الكاميرا، تحملهم موسيقى تصويرية جاءت متناغمة مع حركات وسكنات أحداث الفيلم.
هرباً من أجواء الشمال وضوئها الباهت، يحل فان غوغ، في 1888، بمدينة آرل المتوسطية، التي سيدشن فيها المرحلة الأكثر إشراقاً في حياته الإبداعية. كان يبدي ولعاً شديداً بالمناظر الطبيعية والأشياء البسيطة، وبالأشخاص الذين يرسمهم، لكنه ظل بالنسبة إليهم مجرد غريب. وبدلاً من إدراك حساسيته، كان من هم حوله لا يرون فيه سوى الجنون. فالجمال الذي كان يولد لديه النشوة كان قبحاً في نظر الآخرين. وقد وجد المخرج جوليان شنايبل في الممثل وليم دافوي التجسيد الأمثل للجانب الهوسي والضعيف في شخصية فان غوغ، بينما ساعدت الكاميرا، التي تكاد لا تستقر على زاوية معينة، من جهة، ودقة الصوت، من جهة أخرى، في إبراز حالة الجموح الفني التي كانت تستبد به.
في أكثر من مشهد، يقدم الفيلم إجابات وحوارات تنقل لفكر ورؤية فنان مبدع بتجربة متفردة. حين سأل أحدهم الفنان في الفيلم: «ماذا ترسم؟»، أجاب «ضوء الشمس»، ملخصاً علاقته بالطبيعة ناقلاً لتوجهه ورؤيته الفنية، بعد أن قال، في مشهد سابق، ينقل لحيرة المبدع بين العامة: «ما أراه لا يراه أحد وهذا يخيفني. أظن أنني أفقد صوابي. لذلك، أقول لنفسي: يجب أن أرى ما أراه لأجل إخوتي من البشر الذين لا يرونه. إنه امتياز. يمكنني إعطاؤهم الأمل. أحب مشاركة رؤيتي مع من لا يمكنهم رؤية ما أراه، لأن رؤيتي أقرب إلى حقيقة العالم. يمكنني جعلهم يشعرون بمعنى أن تكون حياً. لا حياة من دون رسم».
وحين سيسأله أحدهم «هل كل الرسامين مجانين»، سيرد قائلاً: «فقط، الأفضل منهم». قبل أن يضيف، في أحد مشاهد الفيلم، متحدثاً عن رسوماته ولحظات الإبداع التي يعيشها: «أنا لوحاتي ولوحاتي أنا. حين أرسم أتوقف عن التفكير، وأشعر أنني صرت جزءا من كل ما هو خارج ذاتي وداخلها. كنت أريد كثيراً اقتسام ما أراه، وكنت أظن أن علي تعليم الآخرين كيف ينظرون إلى العالم. لكن، لم أعد أعتقد هذا. لم أعد أفكر سوى في علاقتي بالخلود». وحين سئل عن معنى الخلود، أجاب: «ما تقوله هو ميراثك تتركه للعالم. إنه رسمك، وإلا فلماذا يصلح الفنان. حين أرسم، أكون سعيداً في أغلب الأحيان، فقط حين أفشل. يتعين الكثير من التدمير والكثير من الفشل قبل النجاح في رسم لوحة».
هكذا، توفق الفيلم في رسم سيرة فنان لم يجد من بين مجايليه من يؤمن بقيمته واختياراته الفنية. لذلك، لم يجد فان غوغ، في الفيلم، إلا أن يقول: «لعل الله جعلني رساماً لأناس لم يولدوا بعد. في الحياة ينبغي أن نزرع أما الحصاد ففي مكان آخر».
ثاني أيام التظاهرة، شهد دخول فيلمين غمار المنافسة على الجوائز الخمس: «دجوي» (النمسا) لمخرجته سودابيه مرتضائي، و«الفتيات الحسناوات» (المكسيك) لمخرجته أليخاندرا ماركيز أبلا.
ويتنافس، ضمن المسابقة الرسمية للدورة، 14 فيلماً، من ألمانيا والنمسا وبلغاريا وصربيا والأرجنتين والمكسيك والولايات المتحدة والصين واليابان ومصر والمغرب وتونس والسودان، ستة منها من إخراج نسائي، وذلك للفوز بالجوائز الخمس: النجمة الذهبية (الجائزة الكبرى للمهرجان) وجائزة لجنة التحكيم وجائزة أفضل إخراج وجائزة أفضل دور نسائي وجائزة أفضل دور رجالي.
يشار إلى أن برنامج دورة هذه السنة من التظاهرة، التي تعود إلى جمهورها بـ«أهداف جديدة» تمكنه من «حشد دينامية التغيير الرامية إلى إرساء تنظيم جديد وأدوات مبتكرة تستوعب المستجدات المتسارعة في العالم الرقمي خدمة لرؤية المهرجان وأهدافه»، و«المضي قدماً في المهمة التي رسمها لنفسه، متمثلة ليس فقط في النهوض بالصناعة السينمائية المغربية، بل أيضاً فتح نافذة مشرعة على سائر الثقافات، وهي خاصية متأصلة في الطابع الكوني للفن السابع»، يتضمن عرض نحو 80 فيلما من 29 دولة، وعدة فقرات، تشمل «المسابقة الرسمية» و«السهرات المسائية» و«العروض الخاصة» و«القارة 11» و«بانوراما السينما المغربية» و«الجمهور الناشئ» و«عروض جامع الفنا» و«عروض المكفوفين وضعاف البصر» و«التكريمات».
7:57 دقيقة
في أول أيام مهرجان الفيلم بمراكش... فان غوخ يرسم ضوء الشمس
https://aawsat.com/home/article/1487051/%D9%81%D9%8A-%D8%A3%D9%88%D9%84-%D8%A3%D9%8A%D8%A7%D9%85-%D9%85%D9%87%D8%B1%D8%AC%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%8A%D9%84%D9%85-%D8%A8%D9%85%D8%B1%D8%A7%D9%83%D8%B4-%D9%81%D8%A7%D9%86-%D8%BA%D9%88%D8%AE-%D9%8A%D8%B1%D8%B3%D9%85-%D8%B6%D9%88%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%85%D8%B3
في أول أيام مهرجان الفيلم بمراكش... فان غوخ يرسم ضوء الشمس
افتتاح الدورة 17 بحضور نجوم مغاربة وعالميين
- مراكش: حاتم البطيوي وعبد الكبير الميناوي
- مراكش: حاتم البطيوي وعبد الكبير الميناوي
في أول أيام مهرجان الفيلم بمراكش... فان غوخ يرسم ضوء الشمس
مقالات ذات صلة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة