كارلوس غصن «ظاهرة» تدفع ثمن نجاحها

بين تهم سوء التصرف المالي... وروائح «المؤامرة الانقلابية»

كارلوس غصن «ظاهرة» تدفع ثمن نجاحها
TT

كارلوس غصن «ظاهرة» تدفع ثمن نجاحها

كارلوس غصن «ظاهرة» تدفع ثمن نجاحها

عندما حطّت طائرة كارلوس غصن الخاصة في مطار هانيدا بالعاصمة اليابانية طوكيو عند الساعة الرابعة والنصف من بعد ظهر يوم 19 نوفمبر (تشرين الثاني) المنقضي، كانت بانتظاره مفاجأة سرعان ما كان لها وقع الصدمة في بلاط النخبة من رجال الأعمال اليابانيين وقطاع صناعة السيارات في العالم. إذ مع انطفاء محركّات النفّاثة التي يستخدمها غصن منذ العام 1999 لرحلاته المكّوكية عبر العواصم ويمضي فيها معظم لياليه، صعد إليها أفراد الوحدة الخاصة التي أوفدتها النيابة العامة اليابانية لتبلغ «ساموراي الحداثة» - كما أطلق عليه أهل البلاد - قرار إلقاء القبض عليه وإيداعه السجن رهن التحقيق.
القرار اتخذ استناداً إلى قائمة التهم الموّجهة إليه بإخفاء قسم من مدخوله عن إدارة الضرائب وسوء التصرّف بأموال الشركة التي أنقذها من الانهيار والإفلاس.
وترجل غصن من الطائرة، وصعد إلى الحافلة الصغيرة التي أقلته إلى السجن الذي ما زال فيه إلى اليوم. وهكذا، بدأ المسلسل الذي تتعاقب حلقاته من غير أن يعرف أحد متى وكيف ستكون خواتيمه وتداعياته على قطاع صناعة السيارات الذي يشكّل عماد القوة الاقتصادية الثالثة في العالم.

منذ توقيف كارلوس غصن، رجل الأعمال الفرنسي البرازيلي - اللبناني الأصل - في اليابان، لم يرشح عنه أي تصريح أو تعليق سوى ما تناقلته وسائل الإعلام اليابانية، أخيراً، عن مصادر غير مؤكدة، أنه ينفي التهم الموجّهة إليه، وأنه لم تكن لديه أي نيّة لإخفاء مدخوله أو تعويضاته عن إدارة الضرائب.
غير أن ظروف احتجاز الرئيس السابق لـ«تحالف رينو - نيسان - ميتسوبيشي» للسيارات، الذي يعد أحد أكبر صانعي السيارات في العالم - ما زالت غامضة، إذ لم تقرّر النيابة العامة حتى الآن ما إذا كانت ستحيله إلى المحاكمة. لكن ما حدث كشف للعالم، في نظر كثيرين، عن وجه مظلم من «بلاد الشمس الطالعة». ذلك، أن القانون الياباني يجيز الاحتجاز أو التوقيف لمدة 23 يوماً رهن التحقيق قبل أن يتمكّن المعتقل من تعيين محام للدفاع عنه، وقبل أن توجّه إليه التهم رسميّاً. ثم إنه لا يُسمَح له باستقبال زائرين سوى فرد واحد من أسرته لمدة لا تتجاوز 20 دقيقة في اليوم على أن تجري المحاورة باللغة اليابانية عبر مترجم تحت مراقبة مندوب عن النيابة العامة.

النظام الجنائي الياباني

يقول الخبير القانوني ديفيد جونسون في كتابه «العدالة اليابانية» إن النظام الجنائي الياباني موصوف بإصداره أحكاماً بالإدانة في 99 في المائة من الحالات التي ينظر فيها، علما بأنه يصرف النظر عن نصف القضايا التي تعرض عليه. وهو يجيز للادعاء أن يستنطق المعتقل ثماني ساعات يومياً من غير حضور محام قبل توجيه التهم إليه. أيضاً يقول المحامي الياباني ماكوتو آنرو إن «المحاكم الجنائية اليابانية تعمل انطلاقا من فرضية مفادها أن المعتقل مذنب إلى أن تثبت إدانته». ولقد دفعت هذه الظروف بصحيفة «الفايننشال تايمز» اللندنية الرصينة في إحدى افتتاحياتها التي خصّصتها لاعتقال غصن إلى التساؤل: هل نحن في الصين الشيوعية؟... لتجيب: لا، في اليابان الليبرالية! وبعدها قالت إن المعاملة التي يخضع لها غصن «جديرة بزعماء المافيا اليابانية»، وكادت تجزم بأن ما حصل هو «... كمين لمنعه من تنفيذ خطته لدمج شركة نيسان مع شركة رينو الفرنسية».
في الواقع، منذ إعلان مجموعة نيسان، أحد أضلاع التحالف الثلاثي، عن إقالة غصن من رئاسة الشركة واعتقاله والحديث عنه على كل شفة ولسان في العاصمة اليابانية التي ما زال سقوطه المدوّي يهزّها. وتكاد لا تصدر صحيفة أو نشرة إخبارية من غير أن تتصدّرها ملابسات اعتقاله. وما كان يدور همساً خلال الأيام الأولى من اعتقال غصن عن «حركة انقلابية» ضدّه في عالم الأعمال الياباني المعروف بسرّيته وتكتّمه، بات متداولاً على نطاق واسع في قطاع صناعة السيارات وبعض الدوائر السياسية العليا في العواصم المعنية.

شخصية استثنائية

يعتبر كارلوس غصن، إلى جانب الإيطالي سيرجيو ماركيوني، الرئيس السابق لتحالف كرايسلر - فيات، الذي توفّي فجأة مطلع هذا العام، أبرز القياديين الذين أثرّوا في تاريخ صناعة السيارات العالمية منذ أيام الرائد هنري فورد.
بيد أن غصن، يشكّل حالة فريدة في اليابان، ذلك البلد المعروف بشدّة حرصه على التقاليد، وحذره من الأجانب، والتشكيك بهم، والتباهي بالقدرات الذاتية لتحقيق ما يعرف بـ«المعجزة الاقتصادية اليابانية». فهو لم يكن مجرّد رجل أعمل ناجح أنقذ ثاني كبرى مجموعات صناعة السيارات اليابانية (بعد تويوتا) من الإفلاس حتى أصبحت تحقق أرباحاً غير مسبوقة. بل اخترق مجموعة من «المحرّمات» الراسخة في الثقافة الاجتماعية اليابانية.
ذلك أنه للمرة الأولى لجأت اليابان إلى «غايجين» Gaijin، وهو مصطلح متداول يعني «الغريب»، لإنقاذ شركة عملاقة كانت لعقود مفخرة وطنية ومثالاً للامتياز والتفوّق. ولقد بلغ تقدير اليابانيين له وإعجابهم بأسلوبه الذي تجاوز حبّهم للعمل حتى الإرهاق، فأعلنوه بطلاً قوميّاً... وباتت رسومه مألوفة بين شخصيات الكتب والمجلات المرسومة الواسعة الانتشار والمعروفة باسم «مانغا».
لقد أغلق غصن خمسة مصانع للشركة في غضون أقلّ من سنتين، وسرّح عشرات الآلاف من العمال، وأحدث ثورة حقيقية عندما قرّر اعتماد الإنجليزية، بدل اليابانية، لغة اجتماعات كبار المسؤولين في الشركة، مع الإشارة إلى أن اليابانيين يعتبرون - في قرارتهم - أن إتقان لغة أجنبية يُفقدهم قدراً من ذاتهم الأصيلة. ولكن رغم ذلك كله، بقي غصن من أكثر الوجوه شعبية في اليابان. وفي سابقة لافتة اجتمع مرّتين بالإمبراطور أكيهيتو، الذي يُعتبر قدس الأقداس في التقاليد اليابانية، حتى قال عنه يوماً رئيس الشركة «لقد ساعدنا على تغيير منهجية عملنا التي اتسّمت دائما بالبطء في اتخاذ القرارات، وأدهش اليابانيين حيثما حلّ... فلقبوه بـ(ساموراي الحداثة)...»...
هذا الرئيس نفسه، هيروتو سايكاوا، الذي كان يكيل المدائح لغصن، وتدرّج حتى وصل إلى منصبه في كنف غصن وبدعم منه، هو الذي وقف أمام الصحافيين قبل أيام ليقول: «أشعر بخيبة عميقة وإحباط، ويأس واستنكار وغضب شديد»، معلناً قائمة الاتهامات الموجهة إلى الرجل الذي عيّنه وريثاً له في العام الماضي.
وقف سايكاوا يعرض ما قال أن «تحقيقاً سرّياً» جرى داخل الشركة طوال أشهر، بالتعاون مع مكتب المدّعي العام، «كشفه من مخالفات» يُزعم أن غصن ارتكبها مثل إخفاء جزء من مدخوله عن إدارة الضرائب، والاستفادة الشخصية من شقق مملوكة للشركة، وتوظيف شقيقته كمستشارة وهميّة بعقد قيمته مائة ألف دولار سنوياً.
بدأ سايكاوا منتشياً وهو يحطّم أسطورة الرجل الذي خيّم ظلّه على قطاع صناعة السيارات في اليابان. لكن المطّلعين على خبايا مجموعة نيسان والعارفين بشؤون هذا القطاع، كانوا على علم بأن الود بات مفقوداً بين الرجلين منذ أشهر، وأن علاقتهما دخلت مرحلة من التوتر الشديد والريبة، وذلك منذ أن أعلن غصن عن برنامج طموح لدمج مجموعتي نيسان ورينو بصورة كاملة. وهذا أمر كان يعترض عليه سايكاوا بشدّة لاعتباره أن الدمج سيكون على حساب نيسان ولمصلحة المجموعة الفرنسية.
بعد صدمة الأيام الأولى وإقالة غصن من منصبه بقرار اتخذه مجلس إدارة نيسان بالإجماع، بدأت وسائل الإعلام اليابانية تردّد التساؤلات والشكوك التي كانت تتداولها الصحافة العالمية: هل هي مصادفة أن تتزامن هذه القضية مع قرار غصن دمج الشركتين؟
وكيف يمكن له أن يخفي قسماً من مدخوله وتعويضاته... علما بأنها تُحدَّد بموجب قرارات يتخذها مجلس إدارة الشركة مجتمعاً؟ أو أن هناك مخططا للإيقاع بغصن ومنعه من تنفيذ مخطط الدمج؟

رائحة مؤامرة؟

يقول بوب لوتز، الرئيس السابق لمجموعة جنرال موتورز الأميركية العملاقة لصناعة السيارات، إن ما حصل مع غصن «تفوح منه رائحة المؤامرة... وهو لم يكن عملاقاً في قطاع صناعة السيارات فحسب، بل في عالم الأعمال بشكل عام. لقد كان بارعاً في التأقلم مع مقتضيات العولمة، يرى ما لا يراه الآخرون ويتمتع برؤية شاملة وصراحة استفزازية غير معهودة في عالم الأعمال». وأردف لوتز: «كثيرون راهنوا على فشل التحالف بين الشركات الثلاث عام 1999، وأنا من بينهم، لكن غصن نجح في رهانه ضد كل التوقعات».
في المقابل، يرى المحلل الاقتصادي الياباني ماتوكا موري أن «ما حدث مع غصن لم يكن انقلاباً من شركة يابانية على مدير أجنبي. رينو أرسلت غصن لمساعدة نيسان قبل عشرين سنة، وعادت الشركة اليابانية إلى عافيتها السابقة وأصبحت تدرّ أرباحاً طائلة على رينو. واليوم تحاول رينو السيطرة على نيسان عن طريق غصن الذي تبنـّى الخطة الفرنسية لكن مجلس إدارة نيسان رفضها بالإجماع. كان على رينو أن ترسل الرجل المناسب ليكسب تأييد القوى العاملة في الشركة، وليس غصن».

من هو كارلوس غصن؟

> أبصر كارلوس جورج بشارة غصن النور في مدينو بورتو فيو البرازيلية الصغيرة، لعائلة لبنانية مسيحية مهاجرة. وكان جده بشارة قد هاجر من لبنان إبان فترة الانتداب الفرنسي واستقر في ولاية روندونيا الريفية المتاخمة لحدود بوليفيا في أقصى غرب البرازيل وأصاب نجاحاً في عالم التجارة والأعمال.
وواصل الجيل الثاني من الأسرة ممثلاً بابنه جورج قصة النجاح العائلي، وانتقل إلى عاصمة الولاية مدينة بورتو فيو. وفي هذه المدينة ولد ابنه كارلوس يوم 9 مارس (آذار) 1954، ولأسباب صحية انتقل الطفل كارلوس للعيش مع أمه واخته في مدينة ريو دي جانيرو، ثاني كبرى مدن البرازيل وعاصمتها السابقة. وهناك عاش حتى السادسة من عمره قبل أن ينتقل إلى لبنان.
في لبنان درس في معهد سيدة الجمهور، وهو مدرسة خاصة تعد من أرقى مدارس لبنان والعالم العربي تتبع الآباء اليسوعيين.
وبعد الدراسة في لبنان، سافر غصن إلى فرنسا حيث أكمل المرحلة الثانوية، ومن تابع تحصيله الجامعي، فتخرج مهندساً من جامعتين من أرقى وأهم جامعات فرنسا هما معهد البوليتكنيك (عام 1974) ومدرسة المناجم في باريس (عام 1978).
وبعدها، في العام 1978، التحق كارلوس غصن بشركة ميشلان الفرنسية العملاقة لصناعة الإطارات (الكفرات)، وعمل فيها لمدة 18 سنة، قبل أن ينتقل عام 1996 منها إلى شركة رينو، حيث ظهرت قدراته الإدارية. وبفضل هذه القدرات، ولا سيما على صعيد النجاعة وخفض التكلفة، انتدبته رينو عام 1999 ليحاول إنقاذ مجموعة نيسان اليابانية التي كانت رينو تملك 15 في المائة من أسهمها.
في مارس 1999 أسس تحالف رينو - نيسان، وخلال بضعة أشهر اشترت رينو 36 في المائة من أسهم نيسان، وبعد شهر أسندت إلى غصن مهمة قيادة الشركة اليابانية... التي بدأ معها رحلة نجاح مذهلة، انتهت أخيراً في ظروف غريبة.
تزوج كارلوس غصن مرتين، وأنجب من زواجه الأول أربعة أولاد هم: كارولين ونادين ومايا وأنطوني. أما زوجته الثانية فهي كارول نحاس، ولقد تزوجا عام 2016.
يتردد غصن على لبنان باستمرار حيث له استثمارات في شركة للكروم ومساهمات في قطاع المصارف. وهو يحمل ثلاث جنسيات: الفرنسية والبرازيلية واللبنانية، ويتقن من اللغات الإنجليزية والفرنسية والبرتغالية والإسبانية والإيطالية، إلى جانب العربية.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.