كارلوس غصن «ظاهرة» تدفع ثمن نجاحها

بين تهم سوء التصرف المالي... وروائح «المؤامرة الانقلابية»

كارلوس غصن «ظاهرة» تدفع ثمن نجاحها
TT

كارلوس غصن «ظاهرة» تدفع ثمن نجاحها

كارلوس غصن «ظاهرة» تدفع ثمن نجاحها

عندما حطّت طائرة كارلوس غصن الخاصة في مطار هانيدا بالعاصمة اليابانية طوكيو عند الساعة الرابعة والنصف من بعد ظهر يوم 19 نوفمبر (تشرين الثاني) المنقضي، كانت بانتظاره مفاجأة سرعان ما كان لها وقع الصدمة في بلاط النخبة من رجال الأعمال اليابانيين وقطاع صناعة السيارات في العالم. إذ مع انطفاء محركّات النفّاثة التي يستخدمها غصن منذ العام 1999 لرحلاته المكّوكية عبر العواصم ويمضي فيها معظم لياليه، صعد إليها أفراد الوحدة الخاصة التي أوفدتها النيابة العامة اليابانية لتبلغ «ساموراي الحداثة» - كما أطلق عليه أهل البلاد - قرار إلقاء القبض عليه وإيداعه السجن رهن التحقيق.
القرار اتخذ استناداً إلى قائمة التهم الموّجهة إليه بإخفاء قسم من مدخوله عن إدارة الضرائب وسوء التصرّف بأموال الشركة التي أنقذها من الانهيار والإفلاس.
وترجل غصن من الطائرة، وصعد إلى الحافلة الصغيرة التي أقلته إلى السجن الذي ما زال فيه إلى اليوم. وهكذا، بدأ المسلسل الذي تتعاقب حلقاته من غير أن يعرف أحد متى وكيف ستكون خواتيمه وتداعياته على قطاع صناعة السيارات الذي يشكّل عماد القوة الاقتصادية الثالثة في العالم.

منذ توقيف كارلوس غصن، رجل الأعمال الفرنسي البرازيلي - اللبناني الأصل - في اليابان، لم يرشح عنه أي تصريح أو تعليق سوى ما تناقلته وسائل الإعلام اليابانية، أخيراً، عن مصادر غير مؤكدة، أنه ينفي التهم الموجّهة إليه، وأنه لم تكن لديه أي نيّة لإخفاء مدخوله أو تعويضاته عن إدارة الضرائب.
غير أن ظروف احتجاز الرئيس السابق لـ«تحالف رينو - نيسان - ميتسوبيشي» للسيارات، الذي يعد أحد أكبر صانعي السيارات في العالم - ما زالت غامضة، إذ لم تقرّر النيابة العامة حتى الآن ما إذا كانت ستحيله إلى المحاكمة. لكن ما حدث كشف للعالم، في نظر كثيرين، عن وجه مظلم من «بلاد الشمس الطالعة». ذلك، أن القانون الياباني يجيز الاحتجاز أو التوقيف لمدة 23 يوماً رهن التحقيق قبل أن يتمكّن المعتقل من تعيين محام للدفاع عنه، وقبل أن توجّه إليه التهم رسميّاً. ثم إنه لا يُسمَح له باستقبال زائرين سوى فرد واحد من أسرته لمدة لا تتجاوز 20 دقيقة في اليوم على أن تجري المحاورة باللغة اليابانية عبر مترجم تحت مراقبة مندوب عن النيابة العامة.

النظام الجنائي الياباني

يقول الخبير القانوني ديفيد جونسون في كتابه «العدالة اليابانية» إن النظام الجنائي الياباني موصوف بإصداره أحكاماً بالإدانة في 99 في المائة من الحالات التي ينظر فيها، علما بأنه يصرف النظر عن نصف القضايا التي تعرض عليه. وهو يجيز للادعاء أن يستنطق المعتقل ثماني ساعات يومياً من غير حضور محام قبل توجيه التهم إليه. أيضاً يقول المحامي الياباني ماكوتو آنرو إن «المحاكم الجنائية اليابانية تعمل انطلاقا من فرضية مفادها أن المعتقل مذنب إلى أن تثبت إدانته». ولقد دفعت هذه الظروف بصحيفة «الفايننشال تايمز» اللندنية الرصينة في إحدى افتتاحياتها التي خصّصتها لاعتقال غصن إلى التساؤل: هل نحن في الصين الشيوعية؟... لتجيب: لا، في اليابان الليبرالية! وبعدها قالت إن المعاملة التي يخضع لها غصن «جديرة بزعماء المافيا اليابانية»، وكادت تجزم بأن ما حصل هو «... كمين لمنعه من تنفيذ خطته لدمج شركة نيسان مع شركة رينو الفرنسية».
في الواقع، منذ إعلان مجموعة نيسان، أحد أضلاع التحالف الثلاثي، عن إقالة غصن من رئاسة الشركة واعتقاله والحديث عنه على كل شفة ولسان في العاصمة اليابانية التي ما زال سقوطه المدوّي يهزّها. وتكاد لا تصدر صحيفة أو نشرة إخبارية من غير أن تتصدّرها ملابسات اعتقاله. وما كان يدور همساً خلال الأيام الأولى من اعتقال غصن عن «حركة انقلابية» ضدّه في عالم الأعمال الياباني المعروف بسرّيته وتكتّمه، بات متداولاً على نطاق واسع في قطاع صناعة السيارات وبعض الدوائر السياسية العليا في العواصم المعنية.

شخصية استثنائية

يعتبر كارلوس غصن، إلى جانب الإيطالي سيرجيو ماركيوني، الرئيس السابق لتحالف كرايسلر - فيات، الذي توفّي فجأة مطلع هذا العام، أبرز القياديين الذين أثرّوا في تاريخ صناعة السيارات العالمية منذ أيام الرائد هنري فورد.
بيد أن غصن، يشكّل حالة فريدة في اليابان، ذلك البلد المعروف بشدّة حرصه على التقاليد، وحذره من الأجانب، والتشكيك بهم، والتباهي بالقدرات الذاتية لتحقيق ما يعرف بـ«المعجزة الاقتصادية اليابانية». فهو لم يكن مجرّد رجل أعمل ناجح أنقذ ثاني كبرى مجموعات صناعة السيارات اليابانية (بعد تويوتا) من الإفلاس حتى أصبحت تحقق أرباحاً غير مسبوقة. بل اخترق مجموعة من «المحرّمات» الراسخة في الثقافة الاجتماعية اليابانية.
ذلك أنه للمرة الأولى لجأت اليابان إلى «غايجين» Gaijin، وهو مصطلح متداول يعني «الغريب»، لإنقاذ شركة عملاقة كانت لعقود مفخرة وطنية ومثالاً للامتياز والتفوّق. ولقد بلغ تقدير اليابانيين له وإعجابهم بأسلوبه الذي تجاوز حبّهم للعمل حتى الإرهاق، فأعلنوه بطلاً قوميّاً... وباتت رسومه مألوفة بين شخصيات الكتب والمجلات المرسومة الواسعة الانتشار والمعروفة باسم «مانغا».
لقد أغلق غصن خمسة مصانع للشركة في غضون أقلّ من سنتين، وسرّح عشرات الآلاف من العمال، وأحدث ثورة حقيقية عندما قرّر اعتماد الإنجليزية، بدل اليابانية، لغة اجتماعات كبار المسؤولين في الشركة، مع الإشارة إلى أن اليابانيين يعتبرون - في قرارتهم - أن إتقان لغة أجنبية يُفقدهم قدراً من ذاتهم الأصيلة. ولكن رغم ذلك كله، بقي غصن من أكثر الوجوه شعبية في اليابان. وفي سابقة لافتة اجتمع مرّتين بالإمبراطور أكيهيتو، الذي يُعتبر قدس الأقداس في التقاليد اليابانية، حتى قال عنه يوماً رئيس الشركة «لقد ساعدنا على تغيير منهجية عملنا التي اتسّمت دائما بالبطء في اتخاذ القرارات، وأدهش اليابانيين حيثما حلّ... فلقبوه بـ(ساموراي الحداثة)...»...
هذا الرئيس نفسه، هيروتو سايكاوا، الذي كان يكيل المدائح لغصن، وتدرّج حتى وصل إلى منصبه في كنف غصن وبدعم منه، هو الذي وقف أمام الصحافيين قبل أيام ليقول: «أشعر بخيبة عميقة وإحباط، ويأس واستنكار وغضب شديد»، معلناً قائمة الاتهامات الموجهة إلى الرجل الذي عيّنه وريثاً له في العام الماضي.
وقف سايكاوا يعرض ما قال أن «تحقيقاً سرّياً» جرى داخل الشركة طوال أشهر، بالتعاون مع مكتب المدّعي العام، «كشفه من مخالفات» يُزعم أن غصن ارتكبها مثل إخفاء جزء من مدخوله عن إدارة الضرائب، والاستفادة الشخصية من شقق مملوكة للشركة، وتوظيف شقيقته كمستشارة وهميّة بعقد قيمته مائة ألف دولار سنوياً.
بدأ سايكاوا منتشياً وهو يحطّم أسطورة الرجل الذي خيّم ظلّه على قطاع صناعة السيارات في اليابان. لكن المطّلعين على خبايا مجموعة نيسان والعارفين بشؤون هذا القطاع، كانوا على علم بأن الود بات مفقوداً بين الرجلين منذ أشهر، وأن علاقتهما دخلت مرحلة من التوتر الشديد والريبة، وذلك منذ أن أعلن غصن عن برنامج طموح لدمج مجموعتي نيسان ورينو بصورة كاملة. وهذا أمر كان يعترض عليه سايكاوا بشدّة لاعتباره أن الدمج سيكون على حساب نيسان ولمصلحة المجموعة الفرنسية.
بعد صدمة الأيام الأولى وإقالة غصن من منصبه بقرار اتخذه مجلس إدارة نيسان بالإجماع، بدأت وسائل الإعلام اليابانية تردّد التساؤلات والشكوك التي كانت تتداولها الصحافة العالمية: هل هي مصادفة أن تتزامن هذه القضية مع قرار غصن دمج الشركتين؟
وكيف يمكن له أن يخفي قسماً من مدخوله وتعويضاته... علما بأنها تُحدَّد بموجب قرارات يتخذها مجلس إدارة الشركة مجتمعاً؟ أو أن هناك مخططا للإيقاع بغصن ومنعه من تنفيذ مخطط الدمج؟

رائحة مؤامرة؟

يقول بوب لوتز، الرئيس السابق لمجموعة جنرال موتورز الأميركية العملاقة لصناعة السيارات، إن ما حصل مع غصن «تفوح منه رائحة المؤامرة... وهو لم يكن عملاقاً في قطاع صناعة السيارات فحسب، بل في عالم الأعمال بشكل عام. لقد كان بارعاً في التأقلم مع مقتضيات العولمة، يرى ما لا يراه الآخرون ويتمتع برؤية شاملة وصراحة استفزازية غير معهودة في عالم الأعمال». وأردف لوتز: «كثيرون راهنوا على فشل التحالف بين الشركات الثلاث عام 1999، وأنا من بينهم، لكن غصن نجح في رهانه ضد كل التوقعات».
في المقابل، يرى المحلل الاقتصادي الياباني ماتوكا موري أن «ما حدث مع غصن لم يكن انقلاباً من شركة يابانية على مدير أجنبي. رينو أرسلت غصن لمساعدة نيسان قبل عشرين سنة، وعادت الشركة اليابانية إلى عافيتها السابقة وأصبحت تدرّ أرباحاً طائلة على رينو. واليوم تحاول رينو السيطرة على نيسان عن طريق غصن الذي تبنـّى الخطة الفرنسية لكن مجلس إدارة نيسان رفضها بالإجماع. كان على رينو أن ترسل الرجل المناسب ليكسب تأييد القوى العاملة في الشركة، وليس غصن».

من هو كارلوس غصن؟

> أبصر كارلوس جورج بشارة غصن النور في مدينو بورتو فيو البرازيلية الصغيرة، لعائلة لبنانية مسيحية مهاجرة. وكان جده بشارة قد هاجر من لبنان إبان فترة الانتداب الفرنسي واستقر في ولاية روندونيا الريفية المتاخمة لحدود بوليفيا في أقصى غرب البرازيل وأصاب نجاحاً في عالم التجارة والأعمال.
وواصل الجيل الثاني من الأسرة ممثلاً بابنه جورج قصة النجاح العائلي، وانتقل إلى عاصمة الولاية مدينة بورتو فيو. وفي هذه المدينة ولد ابنه كارلوس يوم 9 مارس (آذار) 1954، ولأسباب صحية انتقل الطفل كارلوس للعيش مع أمه واخته في مدينة ريو دي جانيرو، ثاني كبرى مدن البرازيل وعاصمتها السابقة. وهناك عاش حتى السادسة من عمره قبل أن ينتقل إلى لبنان.
في لبنان درس في معهد سيدة الجمهور، وهو مدرسة خاصة تعد من أرقى مدارس لبنان والعالم العربي تتبع الآباء اليسوعيين.
وبعد الدراسة في لبنان، سافر غصن إلى فرنسا حيث أكمل المرحلة الثانوية، ومن تابع تحصيله الجامعي، فتخرج مهندساً من جامعتين من أرقى وأهم جامعات فرنسا هما معهد البوليتكنيك (عام 1974) ومدرسة المناجم في باريس (عام 1978).
وبعدها، في العام 1978، التحق كارلوس غصن بشركة ميشلان الفرنسية العملاقة لصناعة الإطارات (الكفرات)، وعمل فيها لمدة 18 سنة، قبل أن ينتقل عام 1996 منها إلى شركة رينو، حيث ظهرت قدراته الإدارية. وبفضل هذه القدرات، ولا سيما على صعيد النجاعة وخفض التكلفة، انتدبته رينو عام 1999 ليحاول إنقاذ مجموعة نيسان اليابانية التي كانت رينو تملك 15 في المائة من أسهمها.
في مارس 1999 أسس تحالف رينو - نيسان، وخلال بضعة أشهر اشترت رينو 36 في المائة من أسهم نيسان، وبعد شهر أسندت إلى غصن مهمة قيادة الشركة اليابانية... التي بدأ معها رحلة نجاح مذهلة، انتهت أخيراً في ظروف غريبة.
تزوج كارلوس غصن مرتين، وأنجب من زواجه الأول أربعة أولاد هم: كارولين ونادين ومايا وأنطوني. أما زوجته الثانية فهي كارول نحاس، ولقد تزوجا عام 2016.
يتردد غصن على لبنان باستمرار حيث له استثمارات في شركة للكروم ومساهمات في قطاع المصارف. وهو يحمل ثلاث جنسيات: الفرنسية والبرازيلية واللبنانية، ويتقن من اللغات الإنجليزية والفرنسية والبرتغالية والإسبانية والإيطالية، إلى جانب العربية.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.