عندما حطّت طائرة كارلوس غصن الخاصة في مطار هانيدا بالعاصمة اليابانية طوكيو عند الساعة الرابعة والنصف من بعد ظهر يوم 19 نوفمبر (تشرين الثاني) المنقضي، كانت بانتظاره مفاجأة سرعان ما كان لها وقع الصدمة في بلاط النخبة من رجال الأعمال اليابانيين وقطاع صناعة السيارات في العالم. إذ مع انطفاء محركّات النفّاثة التي يستخدمها غصن منذ العام 1999 لرحلاته المكّوكية عبر العواصم ويمضي فيها معظم لياليه، صعد إليها أفراد الوحدة الخاصة التي أوفدتها النيابة العامة اليابانية لتبلغ «ساموراي الحداثة» - كما أطلق عليه أهل البلاد - قرار إلقاء القبض عليه وإيداعه السجن رهن التحقيق.
القرار اتخذ استناداً إلى قائمة التهم الموّجهة إليه بإخفاء قسم من مدخوله عن إدارة الضرائب وسوء التصرّف بأموال الشركة التي أنقذها من الانهيار والإفلاس.
وترجل غصن من الطائرة، وصعد إلى الحافلة الصغيرة التي أقلته إلى السجن الذي ما زال فيه إلى اليوم. وهكذا، بدأ المسلسل الذي تتعاقب حلقاته من غير أن يعرف أحد متى وكيف ستكون خواتيمه وتداعياته على قطاع صناعة السيارات الذي يشكّل عماد القوة الاقتصادية الثالثة في العالم.
منذ توقيف كارلوس غصن، رجل الأعمال الفرنسي البرازيلي - اللبناني الأصل - في اليابان، لم يرشح عنه أي تصريح أو تعليق سوى ما تناقلته وسائل الإعلام اليابانية، أخيراً، عن مصادر غير مؤكدة، أنه ينفي التهم الموجّهة إليه، وأنه لم تكن لديه أي نيّة لإخفاء مدخوله أو تعويضاته عن إدارة الضرائب.
غير أن ظروف احتجاز الرئيس السابق لـ«تحالف رينو - نيسان - ميتسوبيشي» للسيارات، الذي يعد أحد أكبر صانعي السيارات في العالم - ما زالت غامضة، إذ لم تقرّر النيابة العامة حتى الآن ما إذا كانت ستحيله إلى المحاكمة. لكن ما حدث كشف للعالم، في نظر كثيرين، عن وجه مظلم من «بلاد الشمس الطالعة». ذلك، أن القانون الياباني يجيز الاحتجاز أو التوقيف لمدة 23 يوماً رهن التحقيق قبل أن يتمكّن المعتقل من تعيين محام للدفاع عنه، وقبل أن توجّه إليه التهم رسميّاً. ثم إنه لا يُسمَح له باستقبال زائرين سوى فرد واحد من أسرته لمدة لا تتجاوز 20 دقيقة في اليوم على أن تجري المحاورة باللغة اليابانية عبر مترجم تحت مراقبة مندوب عن النيابة العامة.
النظام الجنائي الياباني
يقول الخبير القانوني ديفيد جونسون في كتابه «العدالة اليابانية» إن النظام الجنائي الياباني موصوف بإصداره أحكاماً بالإدانة في 99 في المائة من الحالات التي ينظر فيها، علما بأنه يصرف النظر عن نصف القضايا التي تعرض عليه. وهو يجيز للادعاء أن يستنطق المعتقل ثماني ساعات يومياً من غير حضور محام قبل توجيه التهم إليه. أيضاً يقول المحامي الياباني ماكوتو آنرو إن «المحاكم الجنائية اليابانية تعمل انطلاقا من فرضية مفادها أن المعتقل مذنب إلى أن تثبت إدانته». ولقد دفعت هذه الظروف بصحيفة «الفايننشال تايمز» اللندنية الرصينة في إحدى افتتاحياتها التي خصّصتها لاعتقال غصن إلى التساؤل: هل نحن في الصين الشيوعية؟... لتجيب: لا، في اليابان الليبرالية! وبعدها قالت إن المعاملة التي يخضع لها غصن «جديرة بزعماء المافيا اليابانية»، وكادت تجزم بأن ما حصل هو «... كمين لمنعه من تنفيذ خطته لدمج شركة نيسان مع شركة رينو الفرنسية».
في الواقع، منذ إعلان مجموعة نيسان، أحد أضلاع التحالف الثلاثي، عن إقالة غصن من رئاسة الشركة واعتقاله والحديث عنه على كل شفة ولسان في العاصمة اليابانية التي ما زال سقوطه المدوّي يهزّها. وتكاد لا تصدر صحيفة أو نشرة إخبارية من غير أن تتصدّرها ملابسات اعتقاله. وما كان يدور همساً خلال الأيام الأولى من اعتقال غصن عن «حركة انقلابية» ضدّه في عالم الأعمال الياباني المعروف بسرّيته وتكتّمه، بات متداولاً على نطاق واسع في قطاع صناعة السيارات وبعض الدوائر السياسية العليا في العواصم المعنية.
شخصية استثنائية
يعتبر كارلوس غصن، إلى جانب الإيطالي سيرجيو ماركيوني، الرئيس السابق لتحالف كرايسلر - فيات، الذي توفّي فجأة مطلع هذا العام، أبرز القياديين الذين أثرّوا في تاريخ صناعة السيارات العالمية منذ أيام الرائد هنري فورد.
بيد أن غصن، يشكّل حالة فريدة في اليابان، ذلك البلد المعروف بشدّة حرصه على التقاليد، وحذره من الأجانب، والتشكيك بهم، والتباهي بالقدرات الذاتية لتحقيق ما يعرف بـ«المعجزة الاقتصادية اليابانية». فهو لم يكن مجرّد رجل أعمل ناجح أنقذ ثاني كبرى مجموعات صناعة السيارات اليابانية (بعد تويوتا) من الإفلاس حتى أصبحت تحقق أرباحاً غير مسبوقة. بل اخترق مجموعة من «المحرّمات» الراسخة في الثقافة الاجتماعية اليابانية.
ذلك أنه للمرة الأولى لجأت اليابان إلى «غايجين» Gaijin، وهو مصطلح متداول يعني «الغريب»، لإنقاذ شركة عملاقة كانت لعقود مفخرة وطنية ومثالاً للامتياز والتفوّق. ولقد بلغ تقدير اليابانيين له وإعجابهم بأسلوبه الذي تجاوز حبّهم للعمل حتى الإرهاق، فأعلنوه بطلاً قوميّاً... وباتت رسومه مألوفة بين شخصيات الكتب والمجلات المرسومة الواسعة الانتشار والمعروفة باسم «مانغا».
لقد أغلق غصن خمسة مصانع للشركة في غضون أقلّ من سنتين، وسرّح عشرات الآلاف من العمال، وأحدث ثورة حقيقية عندما قرّر اعتماد الإنجليزية، بدل اليابانية، لغة اجتماعات كبار المسؤولين في الشركة، مع الإشارة إلى أن اليابانيين يعتبرون - في قرارتهم - أن إتقان لغة أجنبية يُفقدهم قدراً من ذاتهم الأصيلة. ولكن رغم ذلك كله، بقي غصن من أكثر الوجوه شعبية في اليابان. وفي سابقة لافتة اجتمع مرّتين بالإمبراطور أكيهيتو، الذي يُعتبر قدس الأقداس في التقاليد اليابانية، حتى قال عنه يوماً رئيس الشركة «لقد ساعدنا على تغيير منهجية عملنا التي اتسّمت دائما بالبطء في اتخاذ القرارات، وأدهش اليابانيين حيثما حلّ... فلقبوه بـ(ساموراي الحداثة)...»...
هذا الرئيس نفسه، هيروتو سايكاوا، الذي كان يكيل المدائح لغصن، وتدرّج حتى وصل إلى منصبه في كنف غصن وبدعم منه، هو الذي وقف أمام الصحافيين قبل أيام ليقول: «أشعر بخيبة عميقة وإحباط، ويأس واستنكار وغضب شديد»، معلناً قائمة الاتهامات الموجهة إلى الرجل الذي عيّنه وريثاً له في العام الماضي.
وقف سايكاوا يعرض ما قال أن «تحقيقاً سرّياً» جرى داخل الشركة طوال أشهر، بالتعاون مع مكتب المدّعي العام، «كشفه من مخالفات» يُزعم أن غصن ارتكبها مثل إخفاء جزء من مدخوله عن إدارة الضرائب، والاستفادة الشخصية من شقق مملوكة للشركة، وتوظيف شقيقته كمستشارة وهميّة بعقد قيمته مائة ألف دولار سنوياً.
بدأ سايكاوا منتشياً وهو يحطّم أسطورة الرجل الذي خيّم ظلّه على قطاع صناعة السيارات في اليابان. لكن المطّلعين على خبايا مجموعة نيسان والعارفين بشؤون هذا القطاع، كانوا على علم بأن الود بات مفقوداً بين الرجلين منذ أشهر، وأن علاقتهما دخلت مرحلة من التوتر الشديد والريبة، وذلك منذ أن أعلن غصن عن برنامج طموح لدمج مجموعتي نيسان ورينو بصورة كاملة. وهذا أمر كان يعترض عليه سايكاوا بشدّة لاعتباره أن الدمج سيكون على حساب نيسان ولمصلحة المجموعة الفرنسية.
بعد صدمة الأيام الأولى وإقالة غصن من منصبه بقرار اتخذه مجلس إدارة نيسان بالإجماع، بدأت وسائل الإعلام اليابانية تردّد التساؤلات والشكوك التي كانت تتداولها الصحافة العالمية: هل هي مصادفة أن تتزامن هذه القضية مع قرار غصن دمج الشركتين؟
وكيف يمكن له أن يخفي قسماً من مدخوله وتعويضاته... علما بأنها تُحدَّد بموجب قرارات يتخذها مجلس إدارة الشركة مجتمعاً؟ أو أن هناك مخططا للإيقاع بغصن ومنعه من تنفيذ مخطط الدمج؟
رائحة مؤامرة؟
يقول بوب لوتز، الرئيس السابق لمجموعة جنرال موتورز الأميركية العملاقة لصناعة السيارات، إن ما حصل مع غصن «تفوح منه رائحة المؤامرة... وهو لم يكن عملاقاً في قطاع صناعة السيارات فحسب، بل في عالم الأعمال بشكل عام. لقد كان بارعاً في التأقلم مع مقتضيات العولمة، يرى ما لا يراه الآخرون ويتمتع برؤية شاملة وصراحة استفزازية غير معهودة في عالم الأعمال». وأردف لوتز: «كثيرون راهنوا على فشل التحالف بين الشركات الثلاث عام 1999، وأنا من بينهم، لكن غصن نجح في رهانه ضد كل التوقعات».
في المقابل، يرى المحلل الاقتصادي الياباني ماتوكا موري أن «ما حدث مع غصن لم يكن انقلاباً من شركة يابانية على مدير أجنبي. رينو أرسلت غصن لمساعدة نيسان قبل عشرين سنة، وعادت الشركة اليابانية إلى عافيتها السابقة وأصبحت تدرّ أرباحاً طائلة على رينو. واليوم تحاول رينو السيطرة على نيسان عن طريق غصن الذي تبنـّى الخطة الفرنسية لكن مجلس إدارة نيسان رفضها بالإجماع. كان على رينو أن ترسل الرجل المناسب ليكسب تأييد القوى العاملة في الشركة، وليس غصن».
من هو كارلوس غصن؟
> أبصر كارلوس جورج بشارة غصن النور في مدينو بورتو فيو البرازيلية الصغيرة، لعائلة لبنانية مسيحية مهاجرة. وكان جده بشارة قد هاجر من لبنان إبان فترة الانتداب الفرنسي واستقر في ولاية روندونيا الريفية المتاخمة لحدود بوليفيا في أقصى غرب البرازيل وأصاب نجاحاً في عالم التجارة والأعمال.
وواصل الجيل الثاني من الأسرة ممثلاً بابنه جورج قصة النجاح العائلي، وانتقل إلى عاصمة الولاية مدينة بورتو فيو. وفي هذه المدينة ولد ابنه كارلوس يوم 9 مارس (آذار) 1954، ولأسباب صحية انتقل الطفل كارلوس للعيش مع أمه واخته في مدينة ريو دي جانيرو، ثاني كبرى مدن البرازيل وعاصمتها السابقة. وهناك عاش حتى السادسة من عمره قبل أن ينتقل إلى لبنان.
في لبنان درس في معهد سيدة الجمهور، وهو مدرسة خاصة تعد من أرقى مدارس لبنان والعالم العربي تتبع الآباء اليسوعيين.
وبعد الدراسة في لبنان، سافر غصن إلى فرنسا حيث أكمل المرحلة الثانوية، ومن تابع تحصيله الجامعي، فتخرج مهندساً من جامعتين من أرقى وأهم جامعات فرنسا هما معهد البوليتكنيك (عام 1974) ومدرسة المناجم في باريس (عام 1978).
وبعدها، في العام 1978، التحق كارلوس غصن بشركة ميشلان الفرنسية العملاقة لصناعة الإطارات (الكفرات)، وعمل فيها لمدة 18 سنة، قبل أن ينتقل عام 1996 منها إلى شركة رينو، حيث ظهرت قدراته الإدارية. وبفضل هذه القدرات، ولا سيما على صعيد النجاعة وخفض التكلفة، انتدبته رينو عام 1999 ليحاول إنقاذ مجموعة نيسان اليابانية التي كانت رينو تملك 15 في المائة من أسهمها.
في مارس 1999 أسس تحالف رينو - نيسان، وخلال بضعة أشهر اشترت رينو 36 في المائة من أسهم نيسان، وبعد شهر أسندت إلى غصن مهمة قيادة الشركة اليابانية... التي بدأ معها رحلة نجاح مذهلة، انتهت أخيراً في ظروف غريبة.
تزوج كارلوس غصن مرتين، وأنجب من زواجه الأول أربعة أولاد هم: كارولين ونادين ومايا وأنطوني. أما زوجته الثانية فهي كارول نحاس، ولقد تزوجا عام 2016.
يتردد غصن على لبنان باستمرار حيث له استثمارات في شركة للكروم ومساهمات في قطاع المصارف. وهو يحمل ثلاث جنسيات: الفرنسية والبرازيلية واللبنانية، ويتقن من اللغات الإنجليزية والفرنسية والبرتغالية والإسبانية والإيطالية، إلى جانب العربية.