كارلوس غصن «ظاهرة» تدفع ثمن نجاحها

بين تهم سوء التصرف المالي... وروائح «المؤامرة الانقلابية»

كارلوس غصن «ظاهرة» تدفع ثمن نجاحها
TT

كارلوس غصن «ظاهرة» تدفع ثمن نجاحها

كارلوس غصن «ظاهرة» تدفع ثمن نجاحها

عندما حطّت طائرة كارلوس غصن الخاصة في مطار هانيدا بالعاصمة اليابانية طوكيو عند الساعة الرابعة والنصف من بعد ظهر يوم 19 نوفمبر (تشرين الثاني) المنقضي، كانت بانتظاره مفاجأة سرعان ما كان لها وقع الصدمة في بلاط النخبة من رجال الأعمال اليابانيين وقطاع صناعة السيارات في العالم. إذ مع انطفاء محركّات النفّاثة التي يستخدمها غصن منذ العام 1999 لرحلاته المكّوكية عبر العواصم ويمضي فيها معظم لياليه، صعد إليها أفراد الوحدة الخاصة التي أوفدتها النيابة العامة اليابانية لتبلغ «ساموراي الحداثة» - كما أطلق عليه أهل البلاد - قرار إلقاء القبض عليه وإيداعه السجن رهن التحقيق.
القرار اتخذ استناداً إلى قائمة التهم الموّجهة إليه بإخفاء قسم من مدخوله عن إدارة الضرائب وسوء التصرّف بأموال الشركة التي أنقذها من الانهيار والإفلاس.
وترجل غصن من الطائرة، وصعد إلى الحافلة الصغيرة التي أقلته إلى السجن الذي ما زال فيه إلى اليوم. وهكذا، بدأ المسلسل الذي تتعاقب حلقاته من غير أن يعرف أحد متى وكيف ستكون خواتيمه وتداعياته على قطاع صناعة السيارات الذي يشكّل عماد القوة الاقتصادية الثالثة في العالم.

منذ توقيف كارلوس غصن، رجل الأعمال الفرنسي البرازيلي - اللبناني الأصل - في اليابان، لم يرشح عنه أي تصريح أو تعليق سوى ما تناقلته وسائل الإعلام اليابانية، أخيراً، عن مصادر غير مؤكدة، أنه ينفي التهم الموجّهة إليه، وأنه لم تكن لديه أي نيّة لإخفاء مدخوله أو تعويضاته عن إدارة الضرائب.
غير أن ظروف احتجاز الرئيس السابق لـ«تحالف رينو - نيسان - ميتسوبيشي» للسيارات، الذي يعد أحد أكبر صانعي السيارات في العالم - ما زالت غامضة، إذ لم تقرّر النيابة العامة حتى الآن ما إذا كانت ستحيله إلى المحاكمة. لكن ما حدث كشف للعالم، في نظر كثيرين، عن وجه مظلم من «بلاد الشمس الطالعة». ذلك، أن القانون الياباني يجيز الاحتجاز أو التوقيف لمدة 23 يوماً رهن التحقيق قبل أن يتمكّن المعتقل من تعيين محام للدفاع عنه، وقبل أن توجّه إليه التهم رسميّاً. ثم إنه لا يُسمَح له باستقبال زائرين سوى فرد واحد من أسرته لمدة لا تتجاوز 20 دقيقة في اليوم على أن تجري المحاورة باللغة اليابانية عبر مترجم تحت مراقبة مندوب عن النيابة العامة.

النظام الجنائي الياباني

يقول الخبير القانوني ديفيد جونسون في كتابه «العدالة اليابانية» إن النظام الجنائي الياباني موصوف بإصداره أحكاماً بالإدانة في 99 في المائة من الحالات التي ينظر فيها، علما بأنه يصرف النظر عن نصف القضايا التي تعرض عليه. وهو يجيز للادعاء أن يستنطق المعتقل ثماني ساعات يومياً من غير حضور محام قبل توجيه التهم إليه. أيضاً يقول المحامي الياباني ماكوتو آنرو إن «المحاكم الجنائية اليابانية تعمل انطلاقا من فرضية مفادها أن المعتقل مذنب إلى أن تثبت إدانته». ولقد دفعت هذه الظروف بصحيفة «الفايننشال تايمز» اللندنية الرصينة في إحدى افتتاحياتها التي خصّصتها لاعتقال غصن إلى التساؤل: هل نحن في الصين الشيوعية؟... لتجيب: لا، في اليابان الليبرالية! وبعدها قالت إن المعاملة التي يخضع لها غصن «جديرة بزعماء المافيا اليابانية»، وكادت تجزم بأن ما حصل هو «... كمين لمنعه من تنفيذ خطته لدمج شركة نيسان مع شركة رينو الفرنسية».
في الواقع، منذ إعلان مجموعة نيسان، أحد أضلاع التحالف الثلاثي، عن إقالة غصن من رئاسة الشركة واعتقاله والحديث عنه على كل شفة ولسان في العاصمة اليابانية التي ما زال سقوطه المدوّي يهزّها. وتكاد لا تصدر صحيفة أو نشرة إخبارية من غير أن تتصدّرها ملابسات اعتقاله. وما كان يدور همساً خلال الأيام الأولى من اعتقال غصن عن «حركة انقلابية» ضدّه في عالم الأعمال الياباني المعروف بسرّيته وتكتّمه، بات متداولاً على نطاق واسع في قطاع صناعة السيارات وبعض الدوائر السياسية العليا في العواصم المعنية.

شخصية استثنائية

يعتبر كارلوس غصن، إلى جانب الإيطالي سيرجيو ماركيوني، الرئيس السابق لتحالف كرايسلر - فيات، الذي توفّي فجأة مطلع هذا العام، أبرز القياديين الذين أثرّوا في تاريخ صناعة السيارات العالمية منذ أيام الرائد هنري فورد.
بيد أن غصن، يشكّل حالة فريدة في اليابان، ذلك البلد المعروف بشدّة حرصه على التقاليد، وحذره من الأجانب، والتشكيك بهم، والتباهي بالقدرات الذاتية لتحقيق ما يعرف بـ«المعجزة الاقتصادية اليابانية». فهو لم يكن مجرّد رجل أعمل ناجح أنقذ ثاني كبرى مجموعات صناعة السيارات اليابانية (بعد تويوتا) من الإفلاس حتى أصبحت تحقق أرباحاً غير مسبوقة. بل اخترق مجموعة من «المحرّمات» الراسخة في الثقافة الاجتماعية اليابانية.
ذلك أنه للمرة الأولى لجأت اليابان إلى «غايجين» Gaijin، وهو مصطلح متداول يعني «الغريب»، لإنقاذ شركة عملاقة كانت لعقود مفخرة وطنية ومثالاً للامتياز والتفوّق. ولقد بلغ تقدير اليابانيين له وإعجابهم بأسلوبه الذي تجاوز حبّهم للعمل حتى الإرهاق، فأعلنوه بطلاً قوميّاً... وباتت رسومه مألوفة بين شخصيات الكتب والمجلات المرسومة الواسعة الانتشار والمعروفة باسم «مانغا».
لقد أغلق غصن خمسة مصانع للشركة في غضون أقلّ من سنتين، وسرّح عشرات الآلاف من العمال، وأحدث ثورة حقيقية عندما قرّر اعتماد الإنجليزية، بدل اليابانية، لغة اجتماعات كبار المسؤولين في الشركة، مع الإشارة إلى أن اليابانيين يعتبرون - في قرارتهم - أن إتقان لغة أجنبية يُفقدهم قدراً من ذاتهم الأصيلة. ولكن رغم ذلك كله، بقي غصن من أكثر الوجوه شعبية في اليابان. وفي سابقة لافتة اجتمع مرّتين بالإمبراطور أكيهيتو، الذي يُعتبر قدس الأقداس في التقاليد اليابانية، حتى قال عنه يوماً رئيس الشركة «لقد ساعدنا على تغيير منهجية عملنا التي اتسّمت دائما بالبطء في اتخاذ القرارات، وأدهش اليابانيين حيثما حلّ... فلقبوه بـ(ساموراي الحداثة)...»...
هذا الرئيس نفسه، هيروتو سايكاوا، الذي كان يكيل المدائح لغصن، وتدرّج حتى وصل إلى منصبه في كنف غصن وبدعم منه، هو الذي وقف أمام الصحافيين قبل أيام ليقول: «أشعر بخيبة عميقة وإحباط، ويأس واستنكار وغضب شديد»، معلناً قائمة الاتهامات الموجهة إلى الرجل الذي عيّنه وريثاً له في العام الماضي.
وقف سايكاوا يعرض ما قال أن «تحقيقاً سرّياً» جرى داخل الشركة طوال أشهر، بالتعاون مع مكتب المدّعي العام، «كشفه من مخالفات» يُزعم أن غصن ارتكبها مثل إخفاء جزء من مدخوله عن إدارة الضرائب، والاستفادة الشخصية من شقق مملوكة للشركة، وتوظيف شقيقته كمستشارة وهميّة بعقد قيمته مائة ألف دولار سنوياً.
بدأ سايكاوا منتشياً وهو يحطّم أسطورة الرجل الذي خيّم ظلّه على قطاع صناعة السيارات في اليابان. لكن المطّلعين على خبايا مجموعة نيسان والعارفين بشؤون هذا القطاع، كانوا على علم بأن الود بات مفقوداً بين الرجلين منذ أشهر، وأن علاقتهما دخلت مرحلة من التوتر الشديد والريبة، وذلك منذ أن أعلن غصن عن برنامج طموح لدمج مجموعتي نيسان ورينو بصورة كاملة. وهذا أمر كان يعترض عليه سايكاوا بشدّة لاعتباره أن الدمج سيكون على حساب نيسان ولمصلحة المجموعة الفرنسية.
بعد صدمة الأيام الأولى وإقالة غصن من منصبه بقرار اتخذه مجلس إدارة نيسان بالإجماع، بدأت وسائل الإعلام اليابانية تردّد التساؤلات والشكوك التي كانت تتداولها الصحافة العالمية: هل هي مصادفة أن تتزامن هذه القضية مع قرار غصن دمج الشركتين؟
وكيف يمكن له أن يخفي قسماً من مدخوله وتعويضاته... علما بأنها تُحدَّد بموجب قرارات يتخذها مجلس إدارة الشركة مجتمعاً؟ أو أن هناك مخططا للإيقاع بغصن ومنعه من تنفيذ مخطط الدمج؟

رائحة مؤامرة؟

يقول بوب لوتز، الرئيس السابق لمجموعة جنرال موتورز الأميركية العملاقة لصناعة السيارات، إن ما حصل مع غصن «تفوح منه رائحة المؤامرة... وهو لم يكن عملاقاً في قطاع صناعة السيارات فحسب، بل في عالم الأعمال بشكل عام. لقد كان بارعاً في التأقلم مع مقتضيات العولمة، يرى ما لا يراه الآخرون ويتمتع برؤية شاملة وصراحة استفزازية غير معهودة في عالم الأعمال». وأردف لوتز: «كثيرون راهنوا على فشل التحالف بين الشركات الثلاث عام 1999، وأنا من بينهم، لكن غصن نجح في رهانه ضد كل التوقعات».
في المقابل، يرى المحلل الاقتصادي الياباني ماتوكا موري أن «ما حدث مع غصن لم يكن انقلاباً من شركة يابانية على مدير أجنبي. رينو أرسلت غصن لمساعدة نيسان قبل عشرين سنة، وعادت الشركة اليابانية إلى عافيتها السابقة وأصبحت تدرّ أرباحاً طائلة على رينو. واليوم تحاول رينو السيطرة على نيسان عن طريق غصن الذي تبنـّى الخطة الفرنسية لكن مجلس إدارة نيسان رفضها بالإجماع. كان على رينو أن ترسل الرجل المناسب ليكسب تأييد القوى العاملة في الشركة، وليس غصن».

من هو كارلوس غصن؟

> أبصر كارلوس جورج بشارة غصن النور في مدينو بورتو فيو البرازيلية الصغيرة، لعائلة لبنانية مسيحية مهاجرة. وكان جده بشارة قد هاجر من لبنان إبان فترة الانتداب الفرنسي واستقر في ولاية روندونيا الريفية المتاخمة لحدود بوليفيا في أقصى غرب البرازيل وأصاب نجاحاً في عالم التجارة والأعمال.
وواصل الجيل الثاني من الأسرة ممثلاً بابنه جورج قصة النجاح العائلي، وانتقل إلى عاصمة الولاية مدينة بورتو فيو. وفي هذه المدينة ولد ابنه كارلوس يوم 9 مارس (آذار) 1954، ولأسباب صحية انتقل الطفل كارلوس للعيش مع أمه واخته في مدينة ريو دي جانيرو، ثاني كبرى مدن البرازيل وعاصمتها السابقة. وهناك عاش حتى السادسة من عمره قبل أن ينتقل إلى لبنان.
في لبنان درس في معهد سيدة الجمهور، وهو مدرسة خاصة تعد من أرقى مدارس لبنان والعالم العربي تتبع الآباء اليسوعيين.
وبعد الدراسة في لبنان، سافر غصن إلى فرنسا حيث أكمل المرحلة الثانوية، ومن تابع تحصيله الجامعي، فتخرج مهندساً من جامعتين من أرقى وأهم جامعات فرنسا هما معهد البوليتكنيك (عام 1974) ومدرسة المناجم في باريس (عام 1978).
وبعدها، في العام 1978، التحق كارلوس غصن بشركة ميشلان الفرنسية العملاقة لصناعة الإطارات (الكفرات)، وعمل فيها لمدة 18 سنة، قبل أن ينتقل عام 1996 منها إلى شركة رينو، حيث ظهرت قدراته الإدارية. وبفضل هذه القدرات، ولا سيما على صعيد النجاعة وخفض التكلفة، انتدبته رينو عام 1999 ليحاول إنقاذ مجموعة نيسان اليابانية التي كانت رينو تملك 15 في المائة من أسهمها.
في مارس 1999 أسس تحالف رينو - نيسان، وخلال بضعة أشهر اشترت رينو 36 في المائة من أسهم نيسان، وبعد شهر أسندت إلى غصن مهمة قيادة الشركة اليابانية... التي بدأ معها رحلة نجاح مذهلة، انتهت أخيراً في ظروف غريبة.
تزوج كارلوس غصن مرتين، وأنجب من زواجه الأول أربعة أولاد هم: كارولين ونادين ومايا وأنطوني. أما زوجته الثانية فهي كارول نحاس، ولقد تزوجا عام 2016.
يتردد غصن على لبنان باستمرار حيث له استثمارات في شركة للكروم ومساهمات في قطاع المصارف. وهو يحمل ثلاث جنسيات: الفرنسية والبرازيلية واللبنانية، ويتقن من اللغات الإنجليزية والفرنسية والبرتغالية والإسبانية والإيطالية، إلى جانب العربية.


مقالات ذات صلة

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

حصاد الأسبوع من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع صورة مركبة لبوتين وترمب (أ.ف.ب)

لقاءات بوتين وترمب... كثير من الوعود وقليل من التقارب

فور إعلان الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب استعداده لعقد لقاء سريع مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين فور توليه السلطة، برزت ردود فعل سريعة تذكر بلقاءات سابقة

حصاد الأسبوع تشابو يواجه تحديات عدة... من التمرد في منطقة كابو ديلغادو إلى السعي لتحقيق تنمية اقتصادية واستغلال موارد الغاز الطبيعي وإدارة تأثيرات التغير المناخي

دانيال تشابو... رئيس موزمبيق الجديد الطامح إلى استعادة الاستقرار

أدَّى دانيال تشابو، الأربعاء الماضي، اليمين الدستورية رئيساً لموزمبيق، مركِّزاً على اعتبار استعادة الاستقرار السياسي والاجتماعي «أولوية الأولويات».

فتحية الدخاخني (القاهرة)
حصاد الأسبوع لقطة للعاصمة الموزمبيقية مابوتو (رويترز)

موزمبيق و«فريليمو»... لمحة تاريخية وجيو ـــ سياسية

منذ ما يقرب من خمسين سنة يتربع حزب «فريليمو»، أو «جبهة تحرير موزمبيق»، على سدة الحكم في موزمبيق، مرسّخاً نظام الحزب الواحد، مع أن دستور البلاد المعدل عام 1992

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
حصاد الأسبوع الزعيم الكندي جاستن ترودو يعلن أن لا رغبة لبلاده في أن تصبح ولاية أميركية (أ.ب)

ألمانيا تعيش هاجس التعايش مع مطامح ترمب وماسك

لم يدخل الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب البيت الأبيض بعد... ومع ذلك تعيش أوروبا منذ أسابيع على وقع الخوف من الزلزال الآتي. وكلما اقترب موعد الـ20 يناير

راغدة بهنام (برلين)

دانيال تشابو... رئيس موزمبيق الجديد الطامح إلى استعادة الاستقرار

تشابو يواجه تحديات عدة... من التمرد في منطقة كابو ديلغادو إلى السعي لتحقيق تنمية اقتصادية واستغلال موارد الغاز الطبيعي وإدارة تأثيرات التغير المناخي
تشابو يواجه تحديات عدة... من التمرد في منطقة كابو ديلغادو إلى السعي لتحقيق تنمية اقتصادية واستغلال موارد الغاز الطبيعي وإدارة تأثيرات التغير المناخي
TT

دانيال تشابو... رئيس موزمبيق الجديد الطامح إلى استعادة الاستقرار

تشابو يواجه تحديات عدة... من التمرد في منطقة كابو ديلغادو إلى السعي لتحقيق تنمية اقتصادية واستغلال موارد الغاز الطبيعي وإدارة تأثيرات التغير المناخي
تشابو يواجه تحديات عدة... من التمرد في منطقة كابو ديلغادو إلى السعي لتحقيق تنمية اقتصادية واستغلال موارد الغاز الطبيعي وإدارة تأثيرات التغير المناخي

أدَّى دانيال تشابو، الأربعاء الماضي، اليمين الدستورية، رئيساً لموزمبيق، مركِّزاً على اعتبار استعادة الاستقرار السياسي والاجتماعي «أولوية الأولويات». وجاء تولي السياسي المتخصص في القانون، بعد أكثر من 3 أشهر من انتخابات مثيرة للجدل، دفعت البلاد إلى موجة احتجاجات دامية راح ضحيتها أكثر من 300 شخص حتى الآن، وفق تقديرات منظمات حقوقية محلية ودولية. وبالفعل استمرت الاحتجاجات حتى أثناء مراسم حفل التنصيب؛ إذ بينما كان تشابو (البالغ من العمر 48 سنة) يخطب أمام حشد متحمس من أنصاره في العاصمة مابوتو، كان مناصرو المعارضة يتظاهرون ضده على بعد أمتار قليلة، بعدما منعتهم قوات الأمن من الوصول إلى مكان الحفل.

بدأ الرئيس الموزمبيقي الجديد دانيال تشابو القسم وسط حشد من أنصاره، وكذلك على مقربة من مظاهرات رافضة نتيجة الانتخابات التي وضعته على رأس السلطة في المستعمرة البرتغالية الكبيرة التي يقترب عدد سكانها من 34 مليون نسمة، وتقع على الساحل الغربي للمحيط الهندي بجنوب شرقي أفريقيا. ولقد نقلت وكالات الأنباء عن شهود عيان قولهم إن وسط العاصمة مابوتو كان شبه مهجور مع وجود كثيف للشرطة والجيش.

أما تشابو فقد قال في خطاب تنصيبه: «سمعنا أصواتكم قبل وأثناء الاحتجاجات، وسنستمر في الاستماع». وأقرَّ الرئيس الجديد بالحاجة إلى إنهاء حالة الاضطراب التي تهز البلاد، مضيفاً: «لا يمكن للوئام الاجتماعي أن ينتظر، لذلك بدأ الحوار بالفعل، ولن نرتاح حتى يكون لدينا بلد موحد ومتماسك».

والواقع أنه منذ إعلان المجلس الدستوري في موزمبيق، خلال ديسمبر (كانون الأول) الماضي، فوز تشابو في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بنسبة 65.17 في المائة من الأصوات، دخلت البلاد في موجة عنف جديدة، ولا سيما مع طعن فينانسيو موندلاني زعيم المعارضة الشعبوية اليمينية (الذي حلَّ ثانياً بحصوله على 24 في المائة من الأصوات) في صحة نتائجها، ودعوته للتظاهر، واستعادة ما سمَّاه «الحقيقة الانتخابية».

هذا، وتتهم المعارضة -ممثلةً بحزب «بوديموس» الشعبوي- حزب «فريليمو» الاستقلالي اليساري بتزوير الانتخابات، وهي تهمة ينفيها «فريليمو» الذي يحكم البلاد منذ الاستقلال عن البرتغال عام 1975. أما تشابو فقد بات الرئيس الخامس لموزمبيق منذ استقلالها. وكان في مقدمة حضور حفل تنصيبه الرئيس الجنوب أفريقي سيريل رامافوزا، وزعيم غينيا بيساو عمر سيسوكو إمبالو، بينما أرسلت عدة دول أخرى -بما في ذلك البرتغال- ممثلين عنها.

الخلفية والنشأة

ولد دانيال فرنسيسكو تشابو، يوم 6 يناير (كانون الثاني) 1977 في بلدة إينهامينغا، المركز الإداري لمنطقة شيرينغوما بوسط موزمبيق. وهو الابن السادس بين 10 أشقاء. وكان والده فرنسيسكو (متوفى) موظفاً في سكك حديد موزمبيق، بينما كانت والدته هيلينا دوس سانتوس عاملة منازل. وهو متزوّج من غويتا سليمان تشابو، ولديهما 3 أولاد، وهو يهوى كرة القدم وكرة السلة، ويتكلم اللغتين البرتغالية والإنجليزية بطلاقة.

النزاع المسلح الذي اندلع بين «فريليمو» (جبهة تحرير موزمبيق) الاستقلالية اليسارية، ومنظمة «رينامو» اليمينية التي دعمها النظامان العنصريان السابقان بجنوب أفريقيا وروديسيا الجنوبية (زيمبابوي حالياً) وبعض القوى الغربية، دفع عائلة تشابو إلى مغادرة إينهامينغا، ولذا أمضى دانيال تشابو طفولته في منطقة دوندو؛ حيث التحق بمدرسة «جوزينا ماشيل» الابتدائية، ومن ثم، تابع دراسته في دوندو، وبعد إنهاء تعليمه الثانوي عمل مذيعاً في راديو «ميرامار»؛ حيث قدم برنامجاً رياضياً بين عامي 1997 و1999.

بعدها، التحق تشابو بجامعة «إدواردو موندلاني» في العاصمة مابوتو، وتزامناً مع دراسته الجامعية عمل في تلفزيون «ميرامار»، وقدَّم برنامجاً باسم «أفوكس دو بوفو».

ثم في عام 2004 حصل على شهادته الجامعية في القانون، واجتاز دورة المحافظين وكتَّاب العدل في «مركز ماتولا للتدريب القانوني» في العام نفسه. وهكذا شكَّلت خلفيته الأكاديمية أساساً قوياً لمسيرته المهنية اللاحقة في الخدمة العامة والإدارة.

من القانون إلى السياسة

بدأ تشابو حياته المهنية عام 2005، في مكتب كتَّاب العدل بمدينة ناكالا بورتو، وواصل عمله هناك حتى عام 2009. كما عمل أستاذاً للقانون الدستوري والعلوم السياسية في الجامعة.

وفي عام 2009 انضم إلى حزب «فريليمو» (جبهة تحرير موزمبيق)، وعُيِّن بسبب عمله ومشاركته السياسية في منصب إداري في مقاطعة ناكالا- آ- فيليا، ووفق موقعه الإلكتروني فإنه عمل خلال تلك الفترة على «خلق فرص عمل للشباب دون تمييز».

ضغط الأعمال الإدارية لم يمنع في الواقع تشابو من إكمال دراسته، وفعلاً التحق بجامعة موزمبيق الكاثوليكية للحصول على ماجستير التنمية عام 2014. كما حصل على تدريب في نقابة المحامين التي أوقف عضويته فيها طواعية بسبب عمله السياسي.

وعام 2015 عُيِّن تشابو مديراً لمقاطعة بالما؛ لكنه لم يمكث في المهمة طويلاً؛ لأن الرئيس السابق فيليبي غاستينيو نيوسي عيَّنه عام 2016 حاكماً لإينهامباني. وبعدها، في أبريل (نيسان) 2019 وافق البرلمان الموزمبيقي على حزمة تشريعية جعلت تعيين منصب حكام المقاطعات بالانتخاب، وكان تشابو على رأس قائمة «فريليمو» في إينهامباني، ليصبح أول حاكم منتخب للمحافظة التي ظل يحكمها حتى مايو (أيار) 2024.

دعم رئاسي

حظي دانيال تشابو بدعم قوي من الرئيس فيليبي نيوسي الذي شهد بكفاءته، وقال عنه: «مع أنه لم يبقَ في بالما سوى 6 أشهر، فإنه اكتسب تأييداً في هذا الجزء من البلاد، لدرجة أن قرار الرئيس بنقله إلى مقاطعة أخرى كان مثار تساؤلات عما إذا كانت بالما لا تستحق أن يحكمها شخص بكفاءة تشابو».

وخلال السنوات الثماني (2016 إلى 2024) التي أمضاها حاكماً لمحافظة إينهامباني، قاد تشابو المحافظة كي تغدو الأولى في البلاد التي تكمل تنفيذ البنوك في جميع المناطق، في إطار المبادرة الرئاسية «منطقة واحدة، بنك واحد».

وتشير وسائل إعلام محلية إلى أنه في عهد تشابو، وتحت قيادته، نظمت محافظة إينهامباني مؤتمرين دوليين للاستثمار، فضلاً عن منتديات لتنمية المناطق، ما حفَّز الاقتصاد المحلي، وقاد عجلة التنمية.

المسيرة الحزبية

مسيرة دانيال تشابو الحزبية والسياسية بدأت مبكراً؛ إذ شغل بين عامي 1995 و1996 منصب سكرتير منطقة في «منظمة الشباب الموزمبيقي» (OJM) في دوندو. ثم شغل بين عامي 1998 و1999 منصب أمين سر لجنة التثبيت بمجلس شباب المنطقة، إضافة إلى عضويته في «منظمة الشباب الموزمبيقي». وفي عام 2008 عُين مديراً للحملة الانتخابية للمرشح شالي إيسوفو، من «فريليمو»، في بلدية ناكالا بورتو، ويومها فاز الحزب بالانتخابات، وأطاح بالمعارضة.

بعدها، عام 2017، انتُخب دانيال تشابو عضواً في اللجنة المركزية لـ«فريليمو». وفي مايو 2024 اختارته اللجنة المركزية مرشحاً لـ«فريليمو» في الانتخابات الرئاسية. وهي الانتخابات التي فاز فيها أخيراً وسط اعتراضات المعارضة.

وبناءً عليه، يبدأ تشابو فترة رئاسته وسط تحدِّيات كبرى، وفي ظل مظاهرات واحتجاجات هي الأكبر ضد حزب «فريليمو». وراهناً تتصاعد المخاوف على استقرار موزمبيق، مع تعهد منافسه المعارض موندلاني (وهو مهندس زراعي يبلغ من العمر 50 سنة) باستمرار المظاهرات، قائلاً إن «دعوته للحوار قوبلت بالعنف».

وجدير بالذكر أن موندلاني كان قد عاد إلى موزمبيق من منفاه الاختياري، وسط ترحيب من أنصاره، يوم 9 يناير، وادَّعى أنه «غادر موزمبيق خوفاً على حياته، بعد مقتل اثنين من كبار أعضاء حزبه المعارض داخل سيارتهما على يد مسلحين مجهولين، في إطلاق نار خلال الليل في مابوتو، بعد الانتخابات».

في أي حال، يثير الوضع الحالي في موزمبيق مخاوف دولية، ولاحقاً أعرب مكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، الأسبوع الماضي، عن قلقه. وقال في بيان: «نحن في غاية القلق بشأن التوترات المستمرة عقب الانتخابات في موزمبيق».

من ناحية ثانية، بصرف النظر عن الاحتجاجات التي أشعلتها الانتخابات الرئاسية، فإن تشابو يواجه تحديات عدة يتوجب عليه التعامل معها، على رأسها «التمرد» المستمر منذ 7 سنوات في مقاطعة كابو ديلغادو الشمالية الغنية بالنفط والغاز. وهذا إضافة إلى السعي لتحقيق تنمية اقتصادية، واستغلال موارد الغاز الطبيعي، وإدارة تأثيرات التغير المناخي والكوارث الطبيعية التي أثرت على موزمبيق في السنوات الأخيرة.

وراثة الإرث الثقيل

لا شك، ثمة إرث ثقيل ورثه دانيال تشابو، ذلك أنه يقود بلداً مزَّقه الفساد والتحديات الاقتصادية العميقة، بما فيها ارتفاع معدلات البطالة والإضرابات عن العمل المتكرِّرة التي جعلت موزمبيق -رغم مواردها الكبيرة- واحدة من أفقر دول العالم، وفقاً للبنك الدولي.

الرئيس الجديد قال -صراحة- في خطاب تنصيبه الأربعاء الماضي: «لا يمكن لموزمبيق أن تظل رهينة للفساد والجمود والمحسوبية والنفاق وعدم الكفاءة والظلم». وأردف -وفق ما نقلته وكالة «أسوشييتد برس»- بأنه «لمن المؤلم أن كثيراً من مواطنينا ما زالوا ينامون من دون وجبة لائقة واحدة على الأقل».

وعليه، في مواجهة هذا الإرث الثقيل، تعهد بتقليص عدد الوزارات والمناصب الحكومية العليا. ورأى أن من شأن هذا التدبير توفير أكثر من 260 مليون دولار، سيعاد توجيهها لتحسين حياة الناس.

بالطبع فإن المعارضين والمشككين غير مقتنعين، ويقولون إنهم استمعوا كثيراً إلى النغمة نفسها تتكرَّر بلا تغيير يُذكر. بيد أن رئاسة تشابو تمثِّل اليوم فصلاً جديداً في تاريخ موزمبيق، أو «مفترق طرق»، حسب تعبير تشابو الذي قال في خطاب فوزه: «تقف موزمبيق عند مفترق طرق، وعلينا أن نختار طريق الوحدة والتقدم والسلام».