«الشرق الأوسط» في مهرجان «القاهرة السينمائي الدولي» (4): أفلام عن المرأة وحقوقها في زمننا

سعودي ومصري ومغربي

أحد مشاهد فيلم «لعزيزة» (المغرب)
أحد مشاهد فيلم «لعزيزة» (المغرب)
TT

«الشرق الأوسط» في مهرجان «القاهرة السينمائي الدولي» (4): أفلام عن المرأة وحقوقها في زمننا

أحد مشاهد فيلم «لعزيزة» (المغرب)
أحد مشاهد فيلم «لعزيزة» (المغرب)

ليس من الصعب إيجاد نظم جديدة مع انتقال مهرجان القاهرة السينمائي إلى إدارة جديدة، لكن من الصعب تطبيق تلك النظم. السبب في أن المهرجانات الغربية تقدّس الوقت عموماً ولا يمكن لعرض ما أن يتأخر أكثر من خمس دقائق إذا ما فعل، يعود إلى أن النظام ومراعاة الوقت هما في أسس التربية والسلوك الاجتماعي.
في الحادي والعشرين من الشهر اختفى فيلم سويدي منتظر بعنوان «حدود» (Border) من عروض المهرجان كلياً من دون سبب معروف. ففي وقت العرض، أو قبله بدقائق، قُدم اعتذار شفهي للحاضرين يعلن أن الفيلم لن يعرض فخرج هؤلاء وفي أيديهم تذاكرهم وساعتان مهدرتان كانوا يستطيعون قضاءها في مشاهدة فيلم آخر لو أرادوا.
كذلك حدث مساء أول من أمس حيث تأخر عرض فيلم آخر لنحو ثلاثة أرباع الساعة. هذه المرّة كان هناك تبرير قدّمه نائب المدير الفني، الناقد أحمد شوقي، مفاده، على ذمة من حضر، أن ضيوف الفيلم وصلوا متأخرين.
- فيلم سعودي خالص
إذا ما كانت الحالة الأولى عارضة، ومن غير المنتظر أن تقع مجدداً، فإن الحالة الثانية يجب ألا تُقبل. الحق هنا على الضيوف الذين يدركون أنهم مطلوبون في وقت محدد للصعود إلى المنصة وتقديم الفيلم، ورغم ذلك يأخذون وقتهم، وفي الطريق وقت غيرهم، غير عابئين بالوقت الذي لا بد من احترامه.
بعضهم يتعمد ذلك ليزيد من جرعة الاعتزاز الكاذب بالنفس، لكن مهما كان التبرير فإن النتيجة وخيمة على المهرجان والجمهور على حد سواء. الطريقة الوحيدة الناجعة (طالما أن هذا حدث سابقاً وسيتكرر لاحقاً) هي إعلام فريق الفيلم أن أقصى تأخير ممكن هو خمس دقائق بعدها ستبدأ عروض الفيلم بهم أو من دونهم.
مرتان أو ثلاثة مرات من هذا التطبيق وسنرى الممثلين والممثلات والمخرج والمنتج حاضرين في المواعيد المحددة لهم لرغبتهم في الظهور وتقديم الفيلم. هذا مع العلم أن عدم ظهور معظمهم هو أفضل من ظهوره.
ليس هناك أفضل من أن يبدأ الفيلم عروضه في الوقت المحدد ومن دون تقديم نجومه وصانعيه إلا من باب التأكيد على أن هناك لقاءً صحافياً في الصالة ذاتها لمن يرغب.
في أفضل الأحوال يمكن للمخرج وحده أن يصعد ويقدّم الفيلم ويعلن، باختصار، ما يريد. وهذا ما فعله المخرج السعودي محمود صباغ عندما قدّم فيلمه الجديد «عمرة والعرس الثاني» في عرضه العالمي الثاني مباشرة بعد تقديمه في مهرجان لندن السينمائي في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
قام محمود صبّاغ بتقديم الفيلم بإيجاز وشكر حضور الدبلوماسيين السعوديين، في مقدمتهم سفير المملكة في القاهرة، من دون أن يشغل كل ذلك إلا قدراً محدوداً جداً من وقت المشاهدين. لكن ما استوقف الناقد هو عبارة المخرج التي أكد فيها على أن المخرج يصر على «الفيلم السعودي الخالص». وأضاف أن كلمة «الخالص» كلمة خطرة لأنها صعبة التطبيق.
ليس فقط أن الفيلم بكامل تمويله سعودي، وهو أمر مهم جداً، بل كذلك فإن حكايته هي من جذور المجتمع السعودي، على الرغم من أننا، خلال عرض الفيلم، نلاحظ بعد التغريب صوب وجه لم نتعرّف عليه في السينما السعودية السابقة.
«عمرة والعرس الثاني» دراما عن المرأة التي أنجبت إناثاً فقط، وبذلك اعتبر الزوج (وأمه) نفسه طليق اليد لاختيار عروس ثانية تنجب له ذكراً. في المفهوم بأسره خطأ بياني واضح، والمخرج يورده من خلال موقفه المتعاطف مع تبعات ذلك القرار على عمرة (كما تقوم بالدور جيداً شيماء الطيّب) أن تسعى لتغيير موقف زوجها إن استطاعت. لا تستطيع أن تجذبه غرامياً ولا أن تتحدث وإياه لعله يفكر ثانية فيما سيقدم عليه، وكل ما تستطيعه هو التوجه إلى من يكتب لها استخارات غير مجدية.
على عكس فيلمه الأول «بركة يقابل بركة»، يختار محمود صباغ معالجة الفكرة على نحو جاد. المأزق الاجتماعي المتبلور إلى معاناة تعايشها المرأة في مجتمع ما زال يستند إلى تقاليده أساساً، ليس معروضاً لغاية التفكه بل لتأطير المشكلة من دون خطب أو دعوات مباشرة. هذا القرار الشجاع كان يحتاج إلى بطانة فنية ذات قدر أعلى من التأثير. في الكثير من المعالجة يكمن حس العمل التلفزيوني (كما يتبدّى، مثلاً، في أداء شخصية أم الزوج). ليس لأن الفيلم شبيه بدراما يمكن التقاطها على شاشات التلفزة، بل لأنها تناسب الجمهور العائلي وتختار - كما كان حال الفيلم السابق للمخرج - وسيلة تواصل مباشرة مع القاعدة العريضة في الوقت الذي كانت فيه هناك فسحة لإضفاء مسحات جمالية وفنية ولو محدودة.
قضية المرأة في الأفلام السعودية قضية أساسية تتماشى والخطط التي بدأت لتفعيل دورها في المجتمع على نحو متكامل وشامل. يعرف المخرج صبّاغ أن الطريق طويل، لكنه في فيلميه حتى الآن أمّه باستقلالية تفكير وبمنهج مدروس الهدف وراءه ليس نقد الوضع القائم (أو غيابه) بل تجاوز مسألة النقد إلى العرض وترك الحكاية وشخصياتها تعكس كل ما يستطيع الفيلم عكسه من وقائع. في نهاية «عمرة والعرس الثاني» يواجه المشاهد السعودي وضعاً لا يمكن التغاضي عنه، فالفيلم لم يكن كوميدياً ليضحك فيه ولا تراجيديا ليبكي فيه أو يتأثر، بل حديث عريض عن الأم وأمها وبناتها وزوجها والجار والزوج وأمه، كل على النحو الذي يتمحور حول تلك المرأة (عمرة) التي لا يمكن إلا التعاطف معها والشعور بأزمتها العاطفية والإنسانية.
وعلى عكس ما تردد في السنوات الأخيرة، فإن السينما في السعودية لم تبدأ مع هيفاء المنصور عندما قامت، قبل سنوات قليلة، بتحقيق فيلمها الأول «وجدة». على أهمية ذلك الفيلم كونه إسهاماً كبيراً في دفع تلك السينما إلى الأمام، كان عبد الله المحيسن أول من سعى لإنجاز أفلام تحمل الراية السعودية. ما لم يستطع فعله هو تصوير أفلامه تلك (خلال الثمانينات والتسعينات) في المملكة فأنجزها في سواها. لكنها ما زالت تنتمي إلى الوطن السعودي لأسباب تمويلية (أنتج أفلامه بنفسه) وبسبب هوية مخرجها.
بعده وردت أفلام سعودية قصيرة (غالباً) وطويلة (في بعض المرّات)، لكن كل شيء يتغير الآن صوب الرغبة في تشييد الصرح، سواء عبر مؤسسة حكومية (Saudi Film Council) أو عبر إنتاجات مستقلة كتلك التي يعمد إليها محمود صباغ بنجاح حتى الآن.
- زهرة وعزيزة
قضايا المرأة تختلف من بلد لآخر. فما تعانيه بطلة فيلم «لعزيزة» المغربي يختلف عما تعانيه بطلة «عمرة والعرس الثاني»، وما في «صوفيا» (المغرب أيضاً) مختلف عن «زهرة الصبار» (مصري)، ليس فقط لاختلاف الحكايات الطبيعي، بل لاختلاف أوجه المشكلات التي تتعرض لها المرأة في مجتمعاتنا.
«زهرة الصبّار» المعروض بين أعمال هذا المهرجان ينتمي إلى تلك الباقة الحديثة من الأفلام التي تصوّر حال المرأة المصرية اليوم. اجتماعياً لديها حقوق عادلة، ولكن عليها تبعات ومسؤوليات ترزح تحتها. هذا كان حال فيلم محمد حمّاد «أخضر يابس»، فبطلة «زهرة الصبار» لهالة القوصي تعايش الوضع الذي يعيش فيه الناس لحل مشكلاتهم الآنية وحدها. هناك حكاية الشقيقة الكبرى التي تذبل من دون عريس أو مستقبل واعد، وهنا، في «زهرة الصبّار» مشكلة من شقين: الأول لفتاة شابة لا تملك سبيلاً لتحقيق طموحاتها، وامرأة كبيرة في السن خسرت في زمنها تلك الأحلام وتلجأ اليوم إلى ذكرياتها.
ينطلق الفيلم من تقديم عايدة وهي تمثل إعلاناً إذاعياً. تعود منه إلى البيت ويدلف بنا الفيلم منذ تلك اللحظة إلى المشكلات المحيطة. جارتها العجوز (منحة البطراوي) التي لم تدفع إيجار سكنها منذ عدة أشهر. معهما الشاب أحمد (مروان العزب) الذي يتبرع، كإنسان شهم، بمساعدتهما ما ينتج عنه إيواؤهما لدى ذلك الشاب الذي نال ظنون جيرانه على ذلك. بين محاولة عايدة التقدم في مجال التمثيل، ومحاولتها الإبقاء على عملها غير الثابت، تمررها المخرجة على شخصيتين رجاليتين ارتبطت معهما بعلاقة سابقة. الأول كاتب شاب يتحاشى الارتباط، والثاني (زكي عبد الوهاب) كاتب مخضرم هي التي تحاشت ذات يوم الارتباط به باحثة عن تحقيق أحلامها، التي أدت بها أيضاً إلى هجرة أمها. الآن، ها هي، ومعها صديقتها الأكبر سناً، تقصد منزل أمها الريفي، وتجد المخرجة هناك فسحة من الوقت لتوسيع رقعة اهتماماتها بإضافة وضع الأم وعلاقتها المتوترة بابنتها، لتخلص المخرجة إلى مشهد تلتقط فيه كاميرا علوية للنساء الثلاث مستلقيات على الحشيش الأخضر في مشهد رومانسي آخر من مشاهدها.
في «زهرة الصبار» نجد تلك العيون المستطلعة والعقول المرتابة والأنفس المتسائلة. عايدة (سلمى سامي) تقصد منزل صديق لها. قبل وصولها للعمارة التي يسكن فيها يستوقفها رجل يسألها عن سبب خروجها ليلاً ومن تكون. في مشهد آخر تمشي في طريقها فتجد امرأة لا تعرفها ميتة في مقعدها. رجلان يتقدمان يسألانها عن علاقتها بالميتة. في ثالث، جيران أحد الساكنين الذي استقبل عايدة والمرأة العجوز التي خسرت كذلك شقتها وشاباً من الحارة، في ليلة سابقة، لكي يأووا لديه لليلة، يهيجون مرتابين في تصرفات الساكن يريدون معرفة ما الذي كان هؤلاء يفعلونه في منزله.
كل هذا يضع على الفيلم أمارات دائمة مثل الوجه المطلي بعلامات الحزن والحسرة. ولذلك فإن المشاهد الخيالية التي تستعين بها المخرجة أحياناً، مثل مشهد الاستحمام في بحيرة ماء صافية، تتجلى كتطلعات إنسانية - رومانسية للحرية بمفهومها الأعمق مما لو لجأت إلى الرد على كل حالة بموقف ما.
«زهرة الصبّار» مُحاك جيداً كفكرة جديدة التناول لا من حيث مفارقاتها فحسب، بل من خلال أماكن حدوثها غير المستهلكة على العين. أحياناً ما تتحرك الكاميرا على نحو لا طائل فعلي (أو فني) منه مثل المشهد التي تلتقي فيه عايدة بصديقة محجبة تزوّجت للمال وصار لديها سيارة وسائق. الكاميرا تنحرف يميناً لتلقط الصديقة ويساراً لتلتقط عايدة أكثر من مرّة. مع «فلاش باك» كان يمكن إلغاؤه لأن الرسالة التي يتضمنها (الصديقة كانت منفتحة وذات علاقات متحررة) كان يمكن تمريرها بطريقة أخرى.
لفيلم «لعزيزة» («العزيزة») لمحسن البصري هم مختلف، ولو أن المشكلة ما زالت نسائية. هنا يهاجر الزوج بيت الزوجية بينما كانت الأم حاملاً. ثم تنجب ابناً والابن يكبر ويدخل المدرسة. كل شيء يبدو شبه مستقر إلى أن يظهر الأب مجدداً مطالباً باستعادة ابنه. الدوامة كبيرة والنهاية تمنح الأم القدرة على الاختيار الصعب. المخرج المغربي في فيلمه الثاني يوفر معالجة هادئة لموضوع ساخن وينجح في توفير كل عناصر موضوعه بالتأني ذاته.
ما يُثير الانتباه أن أساليب اختيار المخرجين تختلف حسب اختلاف الجغرافيا. «لعزيزة» لديه أسلوبه المتشرب بتأثيرات السينما المغاربية - الفرنسية. «زهرة الصبّار» مصري الحكاية وعناصر السرد الدرامي المختلفة و«عمرة بن عمرة» يستند إلى بطانته السعودية كاملة. هذا الاختلاف ثقافي بالدرجة الأولى ولو أن الأعمال الثلاثة تطرح قضايا تمس المرأة أساساً. لجانبها، هناك أفلام تمس الرجل أيضاً، الذي مر «عيده» المبتكر قبل يومين من بداية المهرجان. البعض صار يطالب له بالحقوق والمساواة، لكن الثابت أن عليه حقوقاً لم يسددها بعد بدوره.


مقالات ذات صلة

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

سينما المخرج إيستوود مع نيكولاس هاولت (وورنر)

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

ماذا تفعل لو أنك اكتشفت أن الشخص المتهم بجريمة قتل بريء، لكنك لا تستطيع إنقاذه لأنك أنت من ارتكبها؟ لو اعترفت لبرّأت المتهم لكنك ستحلّ مكانه في السجن

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
سينما من «الفستان الأبيض» (أفلام محمد حفظي)

شاشة الناقد: دراما نسوية

في فن صنع الأفلام ليس ضرورياً أن يتقن المخرج الواقع إذا ما كان يتعامل مع قصّة مؤلّفة وخيالية.

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
يوميات الشرق مشهد من فيلم «هُوبَال» الذي يُعرض حالياً في صالات السينما السعودية (الشرق الأوسط)

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يندر أن يتعلق الجمهور السعودي بفيلم محلي إلى الحد الذي يجعله يحاكي شخصياته وتفاصيله، إلا أن هذا ما حدث مع «هوبال» الذي بدأ عرضه في صالات السينما قبل أسبوع واحد.

إيمان الخطاف (الدمام)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما صُناع فيلم «إيميليا بيريز» في حفل «غولدن غلوب» (رويترز)

«ذا بروتاليست» و«إيميليا بيريز» يهيمنان... القائمة الكاملة للفائزين بجوائز «غولدن غلوب»

فاز فيلم «ذا بروتاليست» للمخرج برادي كوربيت الذي يمتد لـ215 دقيقة بجائزة أفضل فيلم درامي في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)