من الإذعان إلى التمرّد

«الشرق الأوسط» تنشر مقتطفاً من ترجمة تصدر قريباً لكتاب «العصيان» لفريديريك غرو

فريديريك غرو
فريديريك غرو
TT

من الإذعان إلى التمرّد

فريديريك غرو
فريديريك غرو

تصدر عن «دار الساقي» قريباً ترجمة كتاب جديد لأستاذ الفكر السياسي المعروف فريديريك غرو بعنوان «العصيان»، أنجزها جمال شحيد. وفي هذا الكتاب، يدعو غرو إلى الديمقراطية النقدية والمقاومة الأخلاقية عبر طرح أسئلة حول جذور الطاعة السياسية: هل هي امتثال اجتماعي أم إذعان اقتصادي أم احترام للسلطات؟
إن الفكر الفلسفي الذي يدفعنا إلى رفض الاستسلام للبديهيات يحثّنا أيضاً على إيجاد معنى للمسؤولية السياسية. وفي الوقت الذي تأتي فيه قرارات الخبراء نتيجةً لإحصاءات جامدة، يصبح العصيان تأكيداً للإنسانية. فريديريك غرو أستاذ فكر سياسي بمعهد العلوم السياسية في باريس. له إصدارات عدّة وعُرف بنشره الأعمال الكاملة لميشال فوكو في سلسلة «La Pléiade». وقد خصّت دار النشر «الشرق الأوسط» بهذا المقطع من الكتاب: «في مجال التنميط الأخلاقي، لنبدأ بما سأسميه هنا (الإذعان). الإذعان هو البديهية الأولى والنموذج البدئي.
لماذا تُطيع؟ لأنني مُذعن: ويستحيل أن أتصرّف بطريقة مغايرة. هذه العلاقة واضحة وضوح الشمس. الذي يطيع على نحو مميَّز هو العبد.
وأقصد بالإذعان طاعة إكراهية خالصة: نطيع من يحمل في يديه السلاحَ والسوط، والقدرةَ على التحكّم بالوظيفة، بل بالحياة والموت. أي إننا نطيع ربَّ العمل ورئيس العمال والكابو و(المدير) الإداري و(الرئيس)... أن أذعن يعني أنني سجين تتحكم بي علاقة قوة تُخضِع وتُرضِخ وتستلب، بالمعنى الحصري للكلمة. عندما أذعن، أكون تابعاً للآخر تماماً، فيسيّرني ويقرّر عني ويُصدر أوامره الهادرة ويمنعني من النجاح ويكسر حقوي وإرادتي. ما أفعله عندئذ هو أن أنفّذ باستسلام ما طلبه مني هذا الآخر الخارج عني والمهيمن عليّ. لا تستطيع لا الإرادة الخاصة ولا الدافع الداخلي ولا العفوية الحية ولا الحركة الشخصية أن تتدخّل في حركاتي وسكناتي.
إنني مذعن.
هذا على الأرجح هو المعنى الأدقّ والأقسى للطاعة: هو علاقة (أن أكون مسيَّراً ومسيطّراً عليّ ومأموراً ومحكوماً... إلخ) ترغمني على التصرّف وفقاً لإرادة آخر، أي إنني عندما أتصرّف أبقى عديم الحيلة. هذه عبارة إشكالية في الإذعان: أي إنني أجمع عند شخص بمفرده بين الهمود والنشاط. راقبوهم كيف يتخبّطون: العامل أمام آلته الذي تُرهقه متابعة الوتائر المستحيلة، الموظف الصغير الذي يسعى حثيثاً في مكتبه لتطبيق التعليمات الزئبقية، المستخدَم الذي يرهق نفسه في (الانفعال). جميعهم منهكون ويستنفدون قواهم. ولكن هذه الحركة المحمومة ليست سوى الوجه الآخر لانفعال تام.
لماذا يطيع المذعنُ؟ لا يستطيع أن يفعل شيئاً آخر: إنه أقل قوة، وأقل اقتداراً. لماذا تطيع؟ لأنني لا أستطيع أن أعصي. ويعود سبب الطاعة عند المذعن إلى عبثية العنف الأعمى وعلاقات القوة.
أمامنا شخص ساءله الفكرُ السياسي منذ أرسطو على الأقل: وهو العبد. قال أرسطو في كتابه (السياسات) إن العبد يملكه شخص آخر، وهو (سلعة حيّة)، (ktêma empsukhon) و(منفّذ أوامر). وهذا يعني أنه لا يمتلك نفسه. فجسده وحركاته وحياته بالذات يمتلكها سيدُه. هو أداة وآلة في أيدٍ غريبة. وهو سلعة يجري تبادلها وتُباع، وهو مُقتنى يتصرّف به مالكه على هواه، ويسيّره ويستطيع استخدامه أو يسيء استعماله.
العبد هو الذي لا يملك نفسه، و(ينفّذ الأوامرَ دون مبادرة منه. العبد لا يبادر في شيء، ولا يشرع في شيء: حركات يديه وجسده ليست سوى صدى وإجابة وردّ فعل ونتيجة لقولٍ آمر ناهٍ صدر أولاً وهيمن. العبد لا يبدأ شيئاً: إنه يتبع وينفّذ أوامر شخص آخر).
ليس نص أرسطو سوى مناسبة، ولا أتكلّم على العبودية كوضع محدّد تاريخياً، وهو في النتيجة متغيّر ومتنوّع، كما تشهد بذلك كتب التاريخ. وأبني هنا فقط أنموذجاً يقول بتقليص العجز ويرى في العبودية تبعيةً ما: (استعباد شيء ما يعني أن هذا الشيء يخضع لسبب خارجي؛ على العكس، لا تعني الحرية أنها خاضعة لهذا الشيء بل متحررة منه). بهذا المعنى الواسع، أُجْمِلُ العبيدَ في العصور القديمة الذين كان يمكن تبادلهم كما تُتبادَل الجرار، وأتكلّم على الأقنان في العصر الوسيط الذين كانوا يحصلون على قوت يومي زهيد مقابل عمل لا ينتهي على أراضي الآخرين، وأعني بهم أيضاً عمّال المصانع الكبرى إبان القرن التاسع عشر الذين كانت رواتبهم بائسة، والناس المثقلين بالديون في أيامنا ممن يشترون حقّهم في العيش والسكن والغذاء وتعليم أولادهم - «فانخرطوا في الدوّامة» كما يقال - مقابل أتعابهم المزمنة وقلقهم البالغ، في حين أن هناك نخبة لا تخجل وتستطيع أن تكسب في أيام معدودة ما لا يستطيعون الحصول عليه في حياتهم كلها.
لماذا يطيع المذعِنُ؟ لأنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً آخر، ولأنه عاجز عن العصيان؛ ذلك أن العقاب المبرِّح يأتي مباشرة. وإذ إنه مهان ومسرَّح ومضروب ومستبعد ومتقهقر، فإن العصيان يكلّفه غالياً جداً... وينطوي على مجازفة كبرى. يطيع المرء لأن تكلفة العصيان مرهقة. في المحصلة، يكمن السبب الوحيد للطاعة في استحالة العصيان. يستند الإذعان إلى العنصر الاعتباطي لعلاقة متخلخلة في القوى، وإلى اللاعدالة في السلّم الهرمي. ينصاع العبد بصمت لأوامر سيده، ويزرع القن؛ إذ إنه يَبقُر أراضي سيده، ويَقبل العامل أن تُفرض عليه وتائر (عمل) مجنونة، ويُصغي المستخدم لانتقادات رئيسه الهازئة وهو يُصرّ بأسنانه. كيف يسعه أن يتصرف بأسلوب مغاير؟
في الآن نفسه، يستطيع الإذعان أن يَحمل كوجهه الآخر العتيد وعداً بالتمرّد أو بالفتنة. ينتظر المذعِن أن تحين ساعتها. يراقب مواقع الضعف عند سيده، وينتبه إلى الهشاشات وخطوط الانكسار، مستعداً للانقضاض وقلب المعطيات. إنني أكثّف هنا مفهوم (الإذعان). وإذا قلت عن ميزان القوى، هذا، إنه تاريخي وطارئ ومؤقت وقابل للانقلاب - أي إنه حالة حاصلة فحسب - عندئذ ينطوي الإذعان والطاعة الجامحة على اللاإذعان فيكون بمكانة انتقام. ما إن يتوصّل المذعنون إلى توحيد أنفسهم ليتآمروا على أسيادهم، وما إن يشعروا بقوّتهم الجماعية ويبنوها، حتى تبدأ الحرب. إن كلمة (rébellion) (الفتنة) المشتقة من (re–bellum) اللاتينية تعني أن الحرب عادت، وأن المهزوم سابقاً راح يرفع رأسه.
أو إن المذعِن عندما يرى عدد الثورات التي انقلبت على الثوار، وعدد الانتفاضات الخائبة، والصراعات التي تم احتواؤها، يقول في سرّه إن عجزه غير محدود، وإن اعتقاده الممكن بقلب الظروف سيكلّفه دماء غزيرة وويلات كبرى، فلا يبقى له خيار آخر سوى أن يستبدل الخيبات الأليمة ووجع الأحلام المنكسرة بحلاوة التسليم للقدر، أي بالإذعان المقبول في استدامته.
أو يقول لنفسه - لكنه يقول لها لأنهم علّموه أن يقول ذلك وأن يكرّره ويسمعه ويتلفّظ به (في المدرسة والعائلة) - إنّ تفاوت المستويات الاجتماعية هو في المحصلة أمر طبيعي وإنّ تفوّق الزعيم راسخ بسبب مواهبه الطبيعية (الذكاء والنزاهة)، أو يقول - في الشأن الخاص بالطاعة السياسية - يجب عليه أن يذعن للقوانين العامة، حتى إذا كانت لا تناسبه، لأن العصيان يعني الفوضى والمطالبةَ الأنانية بمصلحة خاصة. أو يلقي خطاباً مروّضاً جيداً ويدعو إلى تثبيط اللاإذعان، دون إعلان الهزيمة والتسليم بها: (ولكن أخيراً استيقِظوا، يا متمردي المساء الأول، خلخلوا وهْم نسف كل شيء وانفضوا الغبار عن أحلامكم؛ هذه السلطات الهرمية التي تعارضونها، لم تُبْنَ قط إلا من أجل هذا النظام الاجتماعي، النظام الذي تشكّكون فيه مع أنكم استفدتم منه منذ ولادتكم، وتقولون الآن (لا) لأن هذا القانون أو ذاك يتعارض معكم. ولكنكم في المحصلة قد أذعنتم أنتم أنفسُكم، وبحرية ومنذ الأبد، لتطيعوا القوانين بعامة! هذا المجتمع يعطيكم حقوقاً سياسية، فكوّنوا منابرَ بالأعداد التي تريدونها للإعراب عن معارضتكم، صوّتوا لممثلين من اتجاهات أخرى، ولكن أطيعوا بخاصة، احترموا قواعد اللعبة السياسية كما وُضعتْ من أجل الوئام العام والسلام العمومي وخير الجميع).
نرى في هذا الخطاب صورة أخرى من صور الطاعة: الإذعان للميثاق الجمهوري. وإزاءه - وحتى إزاء الطاعة الموقّرة (والاعتراف بالسلطة) - نرى أن مفهوم الإذعان، بقسوته وحدّته، قد لعب دوراً في إزالة الأوهام السياسية. ما استنكره متجاوزو الأوهام السياسية الكبار (ابتداء من ثراسيماكوس عند أفلاطون وماركس، مروراً بمكيافيلي) هو إرادة إخفاء علاقة الإذعان، هذه، إخفاءً منهجياً.
في ودنا أن ندفع الناس إلى الاعتقاد بأن الطاعة السياسية هي قبول حرّ طوعي، أو أنها تستند إلى امتنان صامت ومُشِيد. إن الخطاب الصغير القائل بالتخلي عن الأوهام السياسية يتعارض مع تكذيبه: (أرجوكم أنتم منظّري الانتماء السياسي، توقفوا، وكفّوا عن التأكيد - من محراب مكتباتكم الهادئة والوثيرة - أن طاعتنا السياسية هي طاعة عقلانية وشرعية، وأن رؤساءنا يحكموننا لخيرنا، وأننا عندما نثور على تلك القوانين التي لم تسنّ إلا لمصحة نخبة معينة، نخطئ من الناحية الفلسفية في العصيان. هذه الحجج واهية، في حين أنه لا يوجد واقع آخر سوى واقع الظلم المفروض بالوسائل العنفية، وأننا لا نطيع إلا لأن تكلفة العصيان باهظة فعلاً: دماء مسفوكة، إذلال فوري، هزيمة معلنة). نعم إن الإذعان بهذا المعنى موجِّهٌ يدل على تجاوز الأوهام السياسية، لأن المسألة هي أن تُظهر رشيم واقع الظلم والعنف خلف مباني الدخان. العصيان يعني معاودة الحرب، هذه الحرب الصماء التي لم تتوقف قط والتي تستمرّ تحت غلالة السلم الأهلي.
يكمن الالتباس الجسيم في أن مفهوم الإذعان، هذا، مع أنه موجِّه يدل على تجاوز الأوهام السياسية - ويفسد مقولة المواطنة المطيعة أو الاعتراف المرن - يشكّل موجِّهاً يدلّ على تجاوز الأوهام الأخلاقية.
نستطيع استعادة عبارات أرسطو: (العبد هو «ملكية مكتسبة» و«وسيلة» (organon) و«منفّذ أوامر»)، (1254a - 1253b). ويجب أن نفهم من ذلك أن جسمه ينصاع لإرادة شخص آخر، ولكن روحه لا تشارك إطلاقا في مضمون ما ينفّذه. السبب الوحيد الذي يدفع بالعبد إلى الطاعة هو أنه أُعطي أمراً. وهذا يقتضي قطيعة وانفصالاً: أعمل ما أمرني شخص آخر بفعله. وهنا تنفتح إمكانية الاستغلال الأخلاقي لمشاركة الروح والجسد. يستطيع الإذعان الذي يستغلّ هذا الانقطاع أن يتّخذ شكلين على الأقل.
الشكل الأول هو «إذعان المسايرة». وهذا يعني ما يلي: عندما يُكثر المذعن العلامات الخارجية للاستعباد، وعندما يبالغ في انحناءاته وطأطأة رأسه، وعندما يكثّف تصنّع التصاغر، فإنه يحافظ في قرارة نفسه على حكم نقدي صارم. المذعن يصغي بجدية كبرى واحترام عميق إلى لائحة الأوامر، ويحسب في سره كيف يتخلّص من واجباته ويعوّض مسبقاً وبصورة مأتمية لزجة ودبقة عن خموله العتيد وازدرائه العميق. هذا هو إذعان المسايرة، وهو الاستغلال الأخلاقي الأول للانفصال بين الروح والجسد: هناك مسرحة لعلامات الاستعباد بغية إخفاء العصيانات المادية والحرباوية والعينية، وهناك بخاصة إخفاء للازدراء النهائي. كلا، لم يستبطن المذعن استعباده، وإنما تحمّله وأوهم رئيسه فقط أنه يعترف بتفوقه الذي سيُثلج صدرَه. إن هذه اللعبة كلها وهذه المراوغة الاجتماعية - وهي ما سماه جيمس سكوت (الخطاب الخفي) - وإن هذا الإبراز الصاخب لصور الاستعباد التي من شأنها أن تحجب صور التحرر الملموسة، يصعب عملياً تقدير وظيفتها: هل سيكون إعداداً لصراعات مقبلة؟ - السبب في ذلك أن الاحتقار الاجتماعي يخزّن بعيداً عن استبطان الدونية، وأن روح الانتقام تعتمل في الذات - وهل هو صمّام أمان وتنفيس رمزي يتيح استدامة التباينات، ما دام لم يُقْدِم أي انتقام متخيّل قط على كسر شوكة الهرمية السلطوية؟ يبقى أن الأدب، من موليير إلى بالزاك، يعجّ بأولئك الخدّام الذين يسخرون من أسيادهم عندما يديرون ظهورهم، وبتلك المخلوقات الخانعة التي تغذّي غرور الأسياد لتطيع أقل فأقل. ولكنْ هناك استغلال أخلاقي آخر للتشارك بين الروح والجسد يشكّل المنحدر السياسي الأشد خطورة. لننظر مرة أخرى في ترسيمة الطاعة: المذعِن يطيع طاعة عمياء، فلا يعلم شيئاً عن غاية ما أُمِرَ به ولا عن مآله وهدفه ومعناه، ربما لا يريد أن يعلم شيئاً عنه. ينفّذ ويعمل لحساب ومصلحة شخص آخر دون مقاصد خاصة، ويترك الإرادة والقرار يقعان تحت مسؤولية شخص آخر. هو المنفّذ وليس صاحب القرار. لا بدّ من فصل الأمور عن بعضها بعضاً: أتصرف على هذا النحو، أنفّذ هذا الشيء، ولكن الفاعل ليس أنا حقاً، لست إلا المنفّذ والساعد الآلي والدماغ المستبصر والحركة الآلية، ولكن القرار والحكم لا ينبعان مني في أي حال من الأحوال. لماذا فعلتَ هذا؟ تلقيتُ الأوامر. وهذا يعني: لم آخذ زمام المبادرة، وأكاد أفتقر إلى اختيار الوسائل. لستُ فاعل ما أفعل. أنا منفّذ فقط. ولست مسؤولاً في المحصلة.
هنا يُفهَم دور المخاتلة الأخلاقية في وقت لم أعد أخضع فيه فعلاً للإذعان، بل إنني أستغله لأجعل منه رافعة تسويغ بالنسبة إلي وإلى الآخرين وضميري والعالم والتاريخ والأجيال المقبلة.
هل يذعن الإنسان دائماً إلى هذه الدرجة؟ ألا نبالغ في كلفة العصيان كي نتخلّى عن المسؤولية بخاصة وكي نعلن ذلك لذاتنا وللآخرين؟ (إنني أساهم بلا شك في هذه المنظومة الجائرة، عندما أحرّكها على مستواي الوضيع، كمستخدَم صغير وكادر صغير وسكرتير صغير ومسيِّر صغير وشريك صغير، أي إنني (صغير) دائماً وأكاد أعتزّ بذلك (لو لمرة واحدة). ولكن الأمور تجري على هذا النحو، فلا تجادلوني؛ ما رأيكم في هامش مناورتي وأداء عملي؟ إما أن أتصرف هكذا وإما أن أسرَّح، إما الطاعة وإما الفصل، إما الانقياد وإما الصرف. كيف يسعكم أن تتصوروا أنني قادر على المشاركة في تجفيف البشرية والموافقة على ما أعمل وعلى تنمية اليأس الاجتماعي وعلى الحط المتزايد من الطبيعة المختنقة ومن تدمير الحيوات؟ ولكنني لست إلا عبدا لنظام أستنكره دون أن تتوفر لدي وسائل محاربته. يداي تتحركان، وذكائي ينشط، وجسمي يتنقّل، ودماغي يحسب حساباته. ولكن لست الذي يتكلم، ولست الذي يتحرك، ولست الذي يفكّر: ثمة شخص آخر يبثّ الحركة في أعضائي).
هذا مريح جداً في المحصلة، مريح لأنني تخلصتُ تماماً من مسؤولياتي. ترتاح نفسي عندما أقول إنني لم أستطع أن أفعل شيئاً، أو بالأحرى عندما أقول إن ما فعلتُه لست أنا الذي فعلته حقاً.
(لستُ مسؤولاً؛ أطعتُ الأوامر)».


مقالات ذات صلة

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة
TT

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

ليس أكثر من قصائد الشعر بمختلف اللغات وفي شتى العصور، ولكن ما عسى الشعر أن يكون؟ يقول جون كاري (John Carey) أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة أوكسفورد في كتابه «الشعر: تاريخ وجيز» (A Little History of Poetry)، (مطبعة جامعة ييل، نيوهفن ولندن، 2020) إن «صلة الشعر باللغة كصلة الموسيقى بالضوضاء. فالشعر لغة مستخدمة على نحوٍ خاص، يجعلنا نتذكر كلماته ونثمنها». وكتاب كاري الذي نعرضه هنا موضوعه أشعار عاشت على الزمن منذ ملحمة جلجامش البابلية في الألفية الثالثة ق.م وملحمتي هوميروس «الإلياذة» و«الأوديسة» في القرن الثامن ق.م حتى شعراء عصرنا مثل الشاعر الآيرلندي شيمس هيني (تُوفي في 2013) والشاعرة الأفرو - أميركية مايا أنجيلو (توفيت في 2014) والشاعر الأسترالي لس مري (توفي في 2019).

ليس الشعر كما يظن كثيرون خيالاً منقطع الصلة بالواقع أو تهويماً في عالم أثيري عديم الجذور. إنه كما يوضح كاري مشتبك بالأسطورة والحرب والحب والعلم والدين والثورة والسياسة والأسفار. فالشعر ساحة لقاء بين الشرق والغرب، ومجال للبوح الاعترافي، ومراوحة بين قطبي الكلاسية والرومانسية، وأداة للنقد الاجتماعي، ومعالجة لقضايا الجنس والعرق والطبقة. إنه كلمات يختارها الشاعر من محيط اللغة الواسع ويرتبها في نسق معين يخاطب العقل والوجدان والحواس. فالشعراء كما تقول الشاعرة الأميركية ميريان مور يقدمون «حدائق خيالية بها ضفادع حقيقية».

وتعتبر الشاعرة اليونانية سافو (630 ق.م-570 ق.م) من جزيرة لسبوس أول شاعرة امرأة وصلت إلينا أشعارها في هيئة شذرات (القصيدة الوحيدة التي وصلت إلينا منها كاملة عنوانها «أنشودة إلى أفروديتي» ربة الحب). المحبوبة في قصائدها تفاحة حمراء ناضجة في شجرة عالية بعيدة المنال. أو هي زهرة جبلية يطأها الرعاة الأجلاف بأقدامهم فتترك أثراً أرجوانياً على الأرض. وفى قصيدتها المعروفة باسم «الشذرة 31» ترى صديقة لها تتحدث مع رجل وتضاحكه فتتولاها الغيرة ويثب قلبها في صدرها وتشعر كأن ناراً ترعى في بدنها فتعجز عن الكلام وتغيم عيناها وترتعد فرائصها (للدكتور عبد الغفار مكاوي كتاب صغير جميل عن «سافو شاعرة الحب والجمال عند اليونان»، دار المعارف، القاهرة).

والشعر مشتبك بالدين كما هو الحال في غزليات الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي (من القرن الرابع عشر الميلادي) الذي لا نعرف الكثير عن حياته. نعرف فقط أنه حفظ القرآن الكريم في طفولته واشتغل خبازاً قبل أن يغدو من شعراء البلاط ودرس الصوفية على يدي أحد أقطابها. وهو يستخدم صور الحب والخمر كما يفعل المتصوفة رمزاً إلى الحب الإلهي والوجد الصوفي والنشوة الروحية المجاوزة للحواس. وقد غدت قصائده من كنوز اللغة الفارسية، ودخلت بعض أبياته الأمثال الشعبية والأقوال الحكمية، ولا يكاد بيت إيراني يخلو من ديوانه.

كذلك نجد أن الشعر يشتبك بكيمياء اللغة وقدرتها على الإيحاء ومجاوزة الواقع دون فقدان للصلة به. يتجلى هذا على أوضح الأنحاء في عمل الشاعر الرمزي الفرنسي أرتور رامبو من القرن التاسع عشر. فعن طريق تشويش الحواس والخلط بين معطياتها يغدو الشاعر رائياً يرى ما لا يراه غيره وسيتكشف آفاق المجهول. فعل رامبو هذا قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر، وذلك في قصائده «السفينة النشوى» (بترجمة ماهر البطوطي) و«فصل في الجحيم» (ترجمها الفنان التشكيلي رمسيس يونان) و«اللوحات الملونة» أو «الإشراقات» (ترجمها رفعت سلام). وبهذه القصائد غدا رامبو - ومعه لوتريامون صاحب ديوان «أغاني مالدورور» - أباً للسريالية في العقود الأولى من القرن العشرين.

والشعر مشتبك بالسياسة خاصة في عصرنا الذي شهد حربين عالميتين وحروباً محلية وصراعات آيديولوجية ما بين نازية وفاشية وشيوعية وليبرالية وديمقراطية وأصولية دينية، كما شهد المحرقة النازية وإلقاء أول قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي. وممن عاشوا أزمات هذا العصر الشاعر التشيكي ياروسلاف سيفرت (1986-1901) الحائز جائزة نوبل للأدب في 1984. إنه في ديوانه المسمى «إكليل من السوناتات» (1956) يخاطب مدينته براغ التي أحالتها الحرب العالمية الثانية إلى ركام معبراً عن حبه لها وولائه لوطنه. وشعر سيفرت يقوم على استخدام المجاز. وقد جاء في حيثيات منحه جائزة نوبل أن شعره الذي يمتاز بالوضوح والموسيقية والصور الحسية يجسد تماهيه العميق مع بلده وشعبه.

ومن خلال الترجمة يتمكن الشعر من عبور المسافات وإقامة الجسور وإلغاء البعد الزمني، وذلك متى توافر له المترجم الموهوب القادر على نقل روح القصيدة ونصها. هذا ما فعله المترجم الإنجليزي آرثر ويلي (توفي في 1966) الذي نقل إلى الإنجليزية كثيراً من الآثار الشعرية والروائية والمسرحية الصينية واليابانية.

ومن أمثلة ترجماته هذه القصيدة القصيرة من تأليف الإمبراطور الصيني وو-تي (القرن الأول ق.م) وفيها يرثي حبيبته الراحلة:

لقد توقف حفيف تنورتها الحريرية.

وعلى الرصيف الرخامي ينمو التراب.

غرفتها الخالية باردة ساكنة.

وأوراق الشجر الساقطة قد تكوّمت عند الأبواب.

وإذ أتوق إلى تلك السيدة الحلوة

كيف يتسنى لي أن أحمل قلبي المتوجع على السكينة؟

ويختم جون كاري هذه السياحة في آفاق الشعر العالمي، قديماً وحديثاً، شرقاً وغرباً، بقوله إن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على طرح الأسئلة على الكون، بغية إدراك معنى الوجود، أسئلة لا تجد إجابة في الغالب، ولكن هذا التساؤل - من جانب الفيلسوف والعالم والشاعر - يمثل مجد الإنسان ومأساته معاً.