صانع الأبطال الخارقين ستان لي

رحل متأخراً وترك إرثاً من كل نوع

ستان لي (يساراً) في دور شرف في «سبايدرمان» (2002) - ستان لي أحد أوائل مبتدعي شخصيات الأبطال الخارقين
ستان لي (يساراً) في دور شرف في «سبايدرمان» (2002) - ستان لي أحد أوائل مبتدعي شخصيات الأبطال الخارقين
TT

صانع الأبطال الخارقين ستان لي

ستان لي (يساراً) في دور شرف في «سبايدرمان» (2002) - ستان لي أحد أوائل مبتدعي شخصيات الأبطال الخارقين
ستان لي (يساراً) في دور شرف في «سبايدرمان» (2002) - ستان لي أحد أوائل مبتدعي شخصيات الأبطال الخارقين

في كل عرس كان له قرص. هذا هو ستان لي، أحد أوائل مبتدعي شخصيات «السوبرهيروز» التي تحارب وتواجه وتنتصر ولا تموت. هو بدوره حارب وواجه وانتصر، لكنه في نهاية المطاف مجرد بشريّ... والبشر يموتون.
يوم الاثنين، أول من أمس، مات ستان لي عن عمر ناهز 95 سنة، وترك وراءه ثروة كبيرة من الخيال وأخرى من المال. هو من ابتدع، أحياناً إلى جانب كتّـاب وفنانين آخرين من بينهم جاك ديربي دون هَك، وبل إيفريت، وجون روميتا، وستيف دتكو، الشخصيات التي تتراءى لنا الآن على شاشات السينما كل سنة، مثل باتمان، وسوبرمان، وذا هَلْك، ورجال إكس، من دون أن ننسى آيرون مان وثور وكابتن أميركا و«ذا أفنجرز».
شخصياته وُلدت لتبقى وتثير شجن وخيال كل من يتوق إلى بطل صنديد يقاتل وينتصر رغم الصعاب وأنواع المخاطر. هي نتاج تلك الأساطير التي تداعت في العصر الروماني مثل هركلس وماشيستي، ومثل محرر العبيد سبارتاكوس.

- بداية أقل من عادية
وُلد في نيويورك عام 1922 من عائلة من المهاجرين اليهود. اسمه الحقيقي ستانلي مارتن ليبر، وهو لجأ إلى اسمه الأول ستانلي فقسّمه إلى قسمين: ستان لي الذي بات اسم شهرته ومهنته.
في مطلع شبابه كان في حاجة إلى العمل وعمّه روبي وجد له عملاً في دار نشر كانت تصدر بعض مطبوعات «البالب فيكشن» (تلك الروايات الشعبية المطبوعة على ورق خشن)، وكان عمله لا يتجاوز التأكد من أن الحبر الذي يستخدمه الرّسّامون متوفر، وأنه كان حاضراً إذا ما طلب منه أحد الموظفين إحضار طعام غداء من المطعم القريب.
ستانلي كان صبوراً ولحوحاً في وقت واحد: صبر على عمله الوضيع وألحّ في طلب الخلاص منه. لكنّ عمله في تلك الدار جعله يعي أنه يريد أن يصبح مثل هؤلاء الكتاب والرسامين، وهو استطاع أن يثبت أنه قادر على ملء الفراغ إذا ما احتاجت إليه دار النشر في آخر لحظة لإتمام حكاية أو للحلول مكان كاتب لم يستطع تسليم مادته.
مع مطلع الأربعينات تعرّف على جاك ديربي وشكّلا معاً ثنائياً ناجحاً، لكن في حين أن جاك كان الكاتب والمنفّذ الفعلي، التزم «لي» بتصدير هذا العمل وابتداع شخصياته أو بعضها على الأقل.
كلاهما عملا بإخلاص لإنجاز شخصيات من تلك البطولات الخارقة، وكان أولها في الخمسينات، شخصيات «فانتاستيك فور» (كان كيربي كتب تلك الشخصيات منفرداً من قبل). من ثمّ توالت الشخصيات وتعدّدت وشهدت رواجاً كبيراً في ثلاث وسائط مهمّة: مجلات الكوميكس الشعبية والأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية.
البحث في أصول البطولات الخارقة سيحيلنا إلى موضوع يحتاج إلى كتاب، لكن ما فعله ستان لي، كما يقول في مقابلة أجريتها معه قبل عامين، هو أنه دائماً ما فكّر في شخصيات لا أحد يستطيع النيل منها: «كنت ضعيف البنية ومسالماً، وكان هناك أولاد ينهرونني ويعنفوني، ولم يكن لدي سبيل إلا الحلم بشخصية قوية تتغلب على أمثال هؤلاء. من هنا انطلقت رغبتي في خلق شخصيات قوية لا يستطيع أحد قهرها».
الشخصية الأولى التي جسّدت هذا التفكير بالنسبة إليه هي شخصية «كابتن أميركا» رجل القوة الذي لا يمكن قهره، والذي ينطلق لتحقيق العدالة وإنصاف المظلومين والتصدي للأشرار أينما كانوا. لكن لحظة... أليس هذا ما يفعله كذلك باتمان وسوبرمان وفلاش غوردون وسواهم؟
الفوارق هي في التفاصيل المتعلّقة بالنشأة والتاريخ الغامض لشخصياته. على الرغم من ذلك، فهناك تشابهات حتى في تلك الخلفيات، مثلاً «باتمان» اكتسب مزاياه من سقوطه في بئر مليئة بالوطاويط التي هاجمته. «ذا هلّك» تحوّل من رجل عادي إلى رجل بالغ القوة نتيجة حادث نووي. أما «سبايدرمان» فتعرض لعضة من عنكبوت نادر.
كذلك، فإن ملايين الأولاد لا بد شاركوا ستان لي الحلم بأبطال لا يقهرون. الفارق هو أن ستان لي نقل الحلم إلى واقع.
على كثرة الشخصيات والنجاح الكبير لها، وجد ستان لي نفسه في الستينات يكتفي بكتابة الحبكات ويترك الرسامين يستخرجون منها ما يلتقي وبطولاتها، أو ما يمكن استيحاؤه من مزاياها الخاصة. وهو عمل مع الشركتين المتنافستين إلى اليوم DC أولاً وMarvel بعد ذلك، هذا قبل أن يستقل ويدخل مهنة الانتقال كليّاً إلى العمل السينمائي منتجاً لأفلام شركة «مارفل ستديوز» التي تحتوي على معظم تلك الشخصيات البطولية.
هذا مكّـنه في السنوات العشرين الأخيرة من تسجيل أرباح كثيرة؛ كون كل هذه العناوين والشخصيات باتت الخبز اليومي لهواة السينما. كذلك وجد طريقه للظهور في أدوار شرف في عدد كبير من الأفلام التي أنتجها.
‫اسمه مرتبط حتى الآن، على نحو أو آخر، بأكثر من 130 فيلماً، لكن اسمه سيبقى متلألئاً في نحو عشرين فيلماً مدرجاً على إنتاجات شركات واستديوهات هوليوود حتى عام 2022.‬

- ثقافة عالمية
‫في عام 2016، وخلال قيامه بالترويج لفيلم «كابتن أميركا» قابلته في فندق «فور سيزنز» وتحدثنا طويلاً. وهو يحب الحديث. منفتح على إشراك محدّثية بما يعرفه وما يتذكره وكل تاريخه. بعد المقابلة دلفنا إلى مقابلة أخرى جمعت عدداً غفيراً من نقاد وصحافيي «جمعية مراسلي هوليوود الأجانب». في الثالثة والتسعين من عمره آنذاك، لم يبد عليه أي إرهاق، ولا أبدى انزعاجاً أو ضجراً.
> لماذا في اعتقادك نحبّ الأبطال الخارقين؟
- في اعتقادي أننا نرغب دوماً فيما لا نملكه، مثل القدرة على الطيران فردياً وبلا أجنحة. القدرة على إزاحة جبل أو إيقاف قطار، أو التمتع بقدرة خارقة على إثارة العواصف أو الثّلوج. هذه بعض صفات شخصيات الكوميكس، وهذه أيضاً بعض ما يجول في عقول الجيل الشاب. جيلي ثم جيل آخر وبعده أجيال. لأن كل جيل يريد أن يتمتع بقوّة خارقة.
> ليس على نحو جماعي، بل على نحو منفرد. لكل منا أحلامه المنفصلة.
- صحيح.
> لكن ما كان ثقافة شعبية أميركية تغير وبات ثقافة شعبية حول العالم. لماذا؟
- شخصيات الكوميكس وكل الحكايات التي قرأناها في الأربعينات أو حتى ما قبل الأربعينات دارت حول مواقف بطولية، سواء كانت بطولات عادية أو خارقة. الولايات المتحدة مطبخ كبير للأفكار، وأنا هنا أفكّر بصوت عالٍ، كانت الشعوب أقل قدرة على التواصل فيما بينها؛ لذلك قد يكون هذا الانتشار راجعاً إلى أن التواصل بين الناس أذاب الفروقات، لكنه حافظ على تقدير البطولة الفردية.
> متى فكرت أول مرة في ابتداع شخصيات السوبرهيروز؟
- كنت ضعيف البنية ومسالماً، وكان هناك أولاد ينهرونني ويعنفوني، ولم يكن لدي سبيل إلا الحلم بشخصية قوية تتغلب على أمثال هؤلاء. من هنا انطلقت رغبتي في خلق شخصيات قوية لا يستطيع أحد قهرها. كنت مسالماً وطفولتي كنت مسالمة؛ لذلك كنت أتجنّب العراك الذي يقع عادة بين الأولاد. كنت أنجح في تغيير موقف الولد الذي يريد دخول النزاع معي. كنت أتكلّم كثيراً وطويلاً لدرجة أن خصمي كان يضجر مني ويقرر تركي وشأني (يضحك).
‫>‬ لكن إلى جانب الرغبة في أن تصبح بطلاً أو تخترع بطلاً يحلّ محلك، هل كان لديك أبطال في كتب الأدب؟
- طبعاً، وأشكرك على هذا السؤال. بالفعل كان هناك أبطال آتون من صفحات الكتب الأدبية. أحببت جداً شارلوك هولمز، وقرأت بشغف روايات تشارلز ديكنز ومارك تواين. أبطال هذه الروايات كانوا بالنسبة لي أبطالاً خارقين.
‫>‬ هل أبطال تشارلز ديكنز قادرون على إثارة خيالنا لدرجة تحويلهم إلى أبطال خارقين؟
- بالنسبة لي كان هذا ممكناً. لكن إذا كنت ستسألني أين وكيف ومتى داهمني الإلهام لكتابة تلك الشّخصيات، فأنا فعلاً لا أستطيع إعطاءك جواباً عليه. ما أتذكّره على نحو مؤكد هو أن شخصية «سبايدرمان» وُلدت عندما طلب مني الناشر التفكير بشخصية جديدة. كنت قد كتبت شخصيات «رجال إكس» و«فانتاستيك فور». بدأت أفكر في شخصية جديدة، وكنت أنظر في فضاء المكتب عندما لاحظت ذبابة تقف على حائط قريب. فكرت ماذا لو كانت هذه الذبابة إنساناً. لكن الذبابة لا تستطيع أن تثير الخيال على نحو جيد. فكرت في بضع حشرات أخرى من ثمّ استقررت على العنكبوت.

- سيادة الكوميكس
‫>‬ سبايدرمان يختلف عن باقي الأبطال بأنه شاب صغير السن.
- طبعاً. فكرت في ذلك عندما ابتدعته. كنت أريده مراهقاً من زاوية منحه المزيد من الاختلاف. فكّرت في منحه الكثير من المشكلات التي تقع عادة مع كل مراهق. الشخصيات الأخرى لا مشكلات شخصية لها، عندما استقر رأيي على الرجل العنكبوت هرعت إلى الناشر وقلت له «أملك فكرة رائعة» وذكرتها له. رد علي قائلاً: إنها أسوأ فكرة سمعها في حياته.
‫>‬ ما الذي لم يعجبه بالتحديد؟
- قال إن الناس تكره العناكب، فكيف ستحب بطلاً عنكبوتاً؟ قال إن البطل الشاب يصلح لكي يكون «سنيد» البطل وليس البطل نفسه. في النهاية وافقني على تجربة عدد واحد من هذه الشخصية، وطبعنا العدد وحقق نجاحاً كبيراً.
‫>‬ المنافسة بين مؤسستي DC وMarvel معروفة، لكني أريد سماع رأيك فيها؟
- نعم، هناك منافسة نشأت من قبل قيام الشركتين بإنتاج الأفلام ومن قبل قيامهما بنقل شخصياتهما إلى الشاشة. لكن المشكلة هي أننا في شركة «مارفل» امتلكنا خيالاً أوسع حتى عندما استغنينا عن كلمة «أطلس» التي كانت عنوان المؤسسة إلى كلمة «مارفل» وما تعنيه.
‫>‬ أفلام مارفل متقدمة تجارياً على أفلامDC ... هل يعود ذلك إلى المخيّلة أيضاً؟
- طبعاً. نحن نعرف كيف نكوّن أفلامنا بطريقة تنقل الخيال من الورق إلى الشاشة. تمنح أفلامنا الشخصيات حياتها وتصرفاتها المدهشة. هم يبدون لي في حاجة إلى بعض ما لدينا.
‫>‬ أي من أفلامك نجح أكثر من سواه في تجسيد هذا التكوين؟
- أعتقد أن كل أفلامنا جيدة في هذا المضمار. «آيرون مان» ربما في المقدمة.
‫>‬ لكن هذا النجاح مكلّف. باتت هوليوود تعيش فعلياً على هذا النوع من الأفلام. ذابت حياله الأنواع الأخرى ولم تعد تستطيع تحقيق النجاح الذي كان لها سابقاً. إلى أين تمضي هذه الأفلام والمسلسلات بنا؟
- آمل أن تمضي بنا بعيداً وألا تنتهي. أعتقد أن سبب النجاح هو ارتباط هذه الأفلام بشخصياتها بالرغبة الكامنة فينا لتلقي الحكايات الخيالية. وأعتقد أن هذه الحكايات تكبر فينا، ولا نستطيع أن نتجاوزها. في ذات كل منا حكاية يفضلها، وهذه الحكاية لها علاقة بالبطولة والرغبة في تحقيق فعل خير يحتاج إليه البطل لكي يؤكّد قيمته ويحقّق مبادئه.
‫>‬ لكن كيف تنظر إلى غياب أنواع سينمائية مقابل حضور أفلام الكوميكس الدائمة؟
- أعتقد أن هناك مكاناً لأفلام البطولة الخارقة ومكاناً للدراما العادية. أفلام حول أوضاع الناس العاديين ومشاغلهم الواقعية. الذي يبدو الآن أفلام السوبرهيروز هي التي تسود. وهذا ربما صحيح، لكنها ستخبو لاحقاً أو ستقل. هذا حدث مع نوع أفلام الوسترن. قبل سنوات لم تكن تستطيع أن تشاهد محطات التلفزيون من دون مسلسلات وسترن. الآن اختفت، وهذا ما قد يحدث لأفلام السوبرهيروز أيضاً ولو أنني لا أتمنى ذلك لأنني أعمل في مجالها.
‫>‬ هناك شخصيات لم تُنقل إلى الشاشة بعد. قيل لي إنك كتبت أكثر من 500 شخصية.
- ما قيل لك صحيح. هناك عدد كبير من الشخصيات لم تُنقل إلى السينما. وهناك شخصيات ستُنقل إلى الشاشة لأول مرة، مثل «دكتور سترانج» و«بلاك بانثر» (هذا قبل إنجاز فيلمين من هذه الشخصية خرجاً إلى الأسواق في العام الماضي ومطلع هذا العام).
‫>‬ شخصيات أبطالك تستند إلى خلفيات تتناول العلم وتكاد تتهمه، لكنها لا تذهب كثيراً في هذا الاتجاه، بل تكتفي بالتطرّق إليه. مثلاً «ذا هلْك» تحوّل من رجل عادي إلى رجل خارق عندما مسّـه شعاع نووي. كذلك الحال مع شخصياتك الأولى في «فانتاستيك فور»... كيف تنظر إلى العلم؟ هل هو مسؤول؟
- كل شخصية تحتاج إلى سبب ومنشأ، ووجدت أن بعض أسبابها لا بد أن يعود إلى خلل علمي أو وضع كان مقدّراً له أن يتم بنتائج سلبية. هذا لا يعني أنني ضدّ العلم، بل أستخدمه، علماً بأني لا أعرف الكثير عنه.


مقالات ذات صلة

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

يوميات الشرق مريم شريف في لقطة من فيلم «سنو وايت» (الشركة المنتجة)

بطلة «سنو وايت»: الفيلم يُنصف قِصار القامة ويواجه التنمر

رغم وقوفها أمام عدسات السينما ممثلة للمرة الأولى؛ فإن المصرية مريم شريف تفوّقت على ممثلات محترفات شاركن في مسابقة الأفلام الطويلة بـ«مهرجان البحر الأحمر».

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق وجوه من فيلم «السادسة صباحاً» (غيتي)

من طهران إلى كابل... حكايات نساء يتحدّيْن الظلم في «البحر الأحمر»

«السادسة صباحاً» و«أغنية سيما» أكثر من مجرّد فيلمين تنافسيَّيْن؛ هما دعوة إلى التأمُّل في الكفاح المستمرّ للنساء من أجل الحرّية والمساواة.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق رئيسة «مؤسّسة البحر الأحمر السينمائي» جمانا الراشد فخورة بما يتحقّق (غيتي)

ختام استثنائي لـ«البحر الأحمر»... وفيولا ديفيس وبريانكا شوبرا مُكرَّمتان

يتطلّع مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» لمواصلة رحلته في دعم الأصوات الإبداعية وإبراز المملكة وجهةً سينمائيةً عالميةً. بهذا الإصرار، ختم فعالياته.

أسماء الغابري (جدة)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)