أحدث ملتقى ثقافي في الخليج يجمع فناني العالم عبر الإبداع

انطلاق «مركز جميل للفنون» بدبي

مركز جميل للفنون في دبي
مركز جميل للفنون في دبي
TT

أحدث ملتقى ثقافي في الخليج يجمع فناني العالم عبر الإبداع

مركز جميل للفنون في دبي
مركز جميل للفنون في دبي

اختارت أنتونيا كارفر مديرة مؤسسة «الفن جميل»، أن تقدم «مركز جميل للفنون» في دبي للإعلاميين باختصار سنوات وأشهر من العمل المستمر لإنشاء الملتقى الثقافي الأول من نوعه في منطقة الخليج العربي باستخدام لغة الأرقام. وبطريقتها الهادئة الواثقة سجلت افتتاح المركز أول من أمس قائلة: «ما ترونه حولكم اليوم هو نتاج عمل استمر لسنوات، وهناك أكثر من طريقة لرواية قصة إنشاء المركز... هناك الكثير من الإحصاءات المثيرة للاهتمام مثل: المركز يقام على مساحة 10 آلاف متر مربع ويضم 10 قاعات للعرض تمتد على ثلاثة طوابق، وتضم المكتبة الملحقة بالمركز أكثر من ثلاثة آلاف كتاب». وتستمر كارفر في سرد الأرقام التي تضم فيما بينها 33 نوعاً من النباتات الصحراوية التي تتوزع على 7 حدائق خارج المبنى. ومن الأرقام المتعلقة بالأعمال الفنية المتنوعة الموجودة داخل وخارج المركز، تذكر: «أربعة أطنان من صخور خور فكان بدبي تكون عمل الفنان محمد أحمد إبراهيم، التي تنتظم على هيئة هرم صغير في حديقة المبنى و400 إناء للطبخ استخدمتها الفنانة السعودية مها الملوح لتكوين جداريتها المعنونة (معلقات)».
تلك الأرقام ترسم لنا صورة مبدئية لما سنراه لاحقاً داخل المركز، وتؤكد كارفر أنها أيضاً قد تعبر عن الحقائق، ولكنها لا تعكس كم المشاعر والتفاني خلف المشروع.
غرف الفنانين... قدور طبخ عربية وخيوط غزل حمراء من اليابان
محملين بكلماتها الافتتاحية، تبدأ جولتنا على أرجاء المركز المليء بالفعل بالفن والإبداع والأفكار المختلفة. بداية الجولة مع «غرف الفنانين» وهي سلسلة من أربعة معارض منفردة لفنانين بارزين من الشرق الأوسط وآسيا، هم: مها ملوح، ولاله روخ، وتشيهارو شيوتا، ومنيرة الصلح. البداية مع معرض الفنانة السعودية مها ملوح، التي يعرض لها أعمال من مقتنيات «مركز جميل»، منها عملها الضخم «معلقات»، الذي يتكون من 400 من «قدور» الطبخ المتنوعة الأحجام والأشكال، التي تنتظم على حائط مقوس، تحتوي الزائر بتنسيقها البديع وأيضاً بإيحاءاتها التي تبعث على الحنين للماضي وما يحتويه من طقوس مجتمعية لا تزال تقاوم تيارات التقدم. القدور الضخمة جمعتها الفنانة من مطابخ عامة من الرياض وجدة، وعلى بساطة فكرتها يأتي عمقها الذي يلمس كل زائر يقف أمامها. المدهش هو تجمع عدد من أمناء المتاحف العالمية من أوروبا حول ملوح لتهنئتها على عملها، وبدا أن «قدور» الطبخ العربية نجحت في الوصول لمشاعر زائر أوروبي قد لا يشترك مع الفنانة السعودية في الخلفية، ولكن المشاعر الإنسانية تبقى مشتركة، وهو ما ينعكس هنا أمامنا.
من معرض ملوح ندلف لمعرض الفنانة اللبنانية منيرة الصلح، التي تعبر لوحاتها القماشية الضخمة المعلقة في وسط الحجرة ومنسوجات أخرى معلقة عن اللاجئين الذين التقت بهم الفنانة، واستوحت من قصصهم ومعاناتهم في سفن الهجرة وأمواج البحر الكثير من القصص الإنسانية. اللوحات القماشية الضخمة حملت ثلاثة أحرف مرتبة لتدل على معانٍ مختلفة مثل «بحر» لتصبح «حرب» وفي مكان آخر «حلم» و«ملح».
معرض الفنانة اليابانية تشيهارو شيوتا يدخلنا إلى عالم مختلف، حيث تتشابك خيوط حمراء معلقة لتصنع شبكة ضخمة تحيط بنا وتلقي بظلال حمراء على جوانب الغرفة. ترتبط الخيوط بمركب خشبي مكسور من منتصفه، وتتشابك فيما بينها لتجمع طرفي المركب فيما يعبر عن صلات الدم التي تتشابك بين البشر. المركب الخشبي وجدته الفنانة في خور دبي ليصبح رمزاً للمدينة التي تربط بين أجزاء مختلفة من العالم.
عمدت الفنانة إلى الاشتغال بكميات كبيرة من خيوط الغزل، لتبدع تركيبات غامرة اتخذت هيئة بيوت العنكبوت، وكان إلهامها هو الهوية التاريخية والمعاصرة لدولة الإمارات بما فيها من مدن موانئ، مثلت ملتقى التجارة والتفاعل البشري.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)