«الشرق الأوسط» في مهرجان قرطاج السينمائي (3): جديد مرزاق علواش موضوع مهم وأسئلة من دون أجوبة

الجزائر حاضرة بفيلمٍ له وعليه

لقطة من «ريح رباني»
لقطة من «ريح رباني»
TT

«الشرق الأوسط» في مهرجان قرطاج السينمائي (3): جديد مرزاق علواش موضوع مهم وأسئلة من دون أجوبة

لقطة من «ريح رباني»
لقطة من «ريح رباني»

على ذمّة الرّاوي الأول، انسحب الوفد المغربي من حفل الافتتاح يوم السبت الماضي، احتجاجاً على عدم تقديم مذيعة الحفل عنوان وصانعي فيلم «بلا وطن». انتقلت ما بين فقراته سريعاً وبابتسامة عريضة ثم ختمت بعبارة تمنّت فيها الاستمتاع بمشاهدة الفيلم من دون ذكره مطلقاً.
على ذمّـة الرّاوي الثاني، الأكثر إلماماً، لم يحدث أي شيء من هذا القبيل. خطأ المقدّمة مفهوم، كونها كانت تذيع مباشرة لمحطة تلفزيونية ولم تكتب النّص بنفسها (كما قال). إلى ذلك، أضاف مَن غادر القاعة من الوفد المغربي أنّه شاهد الفيلم من قبل.
الغالب أنّه لم يحدث أي انسحاب، بل مغادرة البعض لكونهم شاهدوا «بلا وطن» سابقاً (عُرض داخل المغرب وخارجه بضع مرّات). لكن ما يستحق التنويه أنّ العلاقات بين الدّول المغاربية من الحساسية بحيث لا شيء يجب أن يخلّ بنظام العلاقات إذا ما طاش السهم عن هدفه الدقيق. وهذا ما نجح المهرجان في اعتماده عبر معايير متوازنة ومدروسة.
هناك، على سبيل المثال مَن وجد في فيلم نرجس النجار نوعاً من نقد الجزائر، على أساس أنّ الفيلم يتحدّث عن قرار طرد عائلات مغربية من الجزائر في السبعينات. لكنّ الواقع أنّ الفيلم حاول في النّهاية القول إنّه لا خطأ حصل ولا لوم يمكن أن يُـسجل والمشكلة المعروضة مشكلة فردية. كذلك لم يَبدُ على الوفد الجزائري الرّسمي أي امتعاض منه ولو أنّ هناك جزائريين مستقلين ذكروا أنّ المهرجان لم يستضف «أي فيلم جزائري» متسائلاً عن السبب وموعزاً بأن هناك مقاطعة. لكن ذلك مردود عليه بوجود فيلمين في مسابقتين على الأقل وأخرى خارج المسابقة.
الحال هو أنّ تونس لا تريد أن تحوّل مهرجانها السينمائي إلى نقطة تجاذب، وهناك سياسة حكيمة تَوافق مديره العام نجيب عياد على أن يكون المهرجان مهرجاناً للأفلام الجيدة ومخرجيها. ربما يختلف النّقاد في تعريف الفيلم الجيد، لكنّهم لن يختلفوا كثيراً في ضرورة أن يحظى المخرجون بالاهتمام الأول. أكثر من ذلك، بات من المفرح حقاً أن يستطيع هذا المهرجان تجاوز عقد الماضي المختلفة التي كان من بينها اتّخاذ بعض الدّول منه منابر لاتهامات من نوع المحاباة أو التفضيل والتمايز.
- عهد جديد
«هو بيت للسينما العربية والأفريقية»، أكّد نجيب عياد لنا مؤخراً، ومثل كل بيت كبير يتألف من غرف شتّـى وأقسام متعددة واتجاهات عدة. وهذا البيت كان بحاجة إلى ترميم بعد أن قادته إدارة نجحت في إعادته إلى الحياة بتحويله إلى مهرجان سنوي، لكنّها أخفقت في ممارسة عملها من دون مراعاة مصالحها وعلاقاتها الخاصة.
«هي الإدارة ذاتها التي يمكن تسميتها بالفرانكفونية الجديدة»، يقول لي أحد المخرجين التونسيين المعروفين ويضيف: «من البداية قامت على محاربة الأجيال السابقة وعلى ربط المهرجان بمصالح فرنسية وأوروبية وتدخلت لكي تفرض أفلامها على المهرجانات حسب المتاح لها». هذا أوصلها إلى هيمنة شبه كاملة في داخل السينما التونسية وخارجها. وهي ذاتها التي اندفعت قبل عامين لتحتج على احتفاء بالسينما الإسرائيلية في مهرجان «لوكارنو» السويسري وانسحبت منه تبعاً لذلك. حينها صفق البعض للقرار، لكنّ الحقيقة ربما كانت مختلفة. حسب مصدر من مهرجان لوكارنو على علاقة بـ«الاتحاد الفيدرالي لنقاد وصحافيي السينما» المسألة هي عدم امتثال الفيلم لبعض مطالب تلك الشّلة. اليوم يتقدم المهرجان بخطوات واثقة وحكيمة. دعم الدولة وإداراتها وشركاتها يتجاوز التمويل والمساعدات اللوجيستية والأمنية إلى الإيمان المطلق بأن مهرجان قرطاج رهان أساسي في دعم الثّقافة عموماً والسينمائية خصوصاً وفي دعم حياة اجتماعية متوازنة ومعادية للتّطرف وركيزة في استقرار البلد وجذب الإعلام إليه وتنحيته عن صراعات الشرق والغرب ودول الجوار التي لا تنتهي.
- أمين ونور: حكاية
الفيلم الجزائري في مسابقة الفيلم الرّوائي الطّويل هو فيلم آخر ينجزه المخرج مرزاق علواش عن الإسلام والتطرف. فهو سبق له أن قدّم «التوبة» (2012)، و«الأسطح» (2013)، و«مدام كوراج» (2015)، وتطرّق إلى الموضوع لماماً في أفلام سابقة. أعماله تدعو للاحترام، كونها تبحث في حاضر الجزائر أيضاً، لكنّه في السنوات الأخيرة جعل التطرق إلى التطرف صفة دائمة حين الكلام عن الجزائر اليوم.
«ريح رباني»، فيلمه الذي شوهد في قاعة كوليزيه المزدحمة عن آخرها ليلة أول من أمس (الأحد)، يدور في بلدة صحراوية صغيرة في ناحيةٍ ما من الجزائر (عير مُحددة). اللقطة الأولى من الفيلم لجزء من تلك الصحراء وفي الخلفية جبل قاحل. لقطة بعيدة جداً تظهر الخواء العام ونسمع خلالها صوت الريح. يقفز مرزاق علواش من تلك اللقطة إلى لقطة قريبة لشاب رمى نفسه فوق الرّمال وأجهش بالبكاء. من ثمّ قفزة أخرى إلى لقطة بعيدة قليلاً تُظهره وهو ما زال على وضعه من قبل أن ينهض ويتجه إلى سيارته ويقودها إلى حيث هو نزيل في بيت امرأة عجوز تخدمه.
لم -ولن- نفهم سبب بكاء الشّاب أمين، لكنّ هذا سيمضي وسيطلب منك المخرج ألا تتطلّع إلى الخلف بحثاً. نراه يصلي ويقرأ القرآن وحين يغادر ذلك البيت المنعزل يتوجه إلى البلدة حيث يدخل دكان إنترنت ويتعرف على صورة امرأة محجبة. هذه المرأة (اسمها نور) عضو في تنظيم داعش مُرسلة لتنفيذ مهمّـة في المستقبل القريب. بذلك نفهم أنّه فتح على حسابه كونه على صلة بالتنظيم. تصل «نور» إلى البيت وتعامل العجوز بجفاء وحدّة وكذلك أمين. هنا يمضي الفيلم فصله الثاني (نحو ساعة تتوسط الفيلم) في مساجلات ومجادلات وقليل من الأحداث التي تتقدّم بالحكاية.
نور هي نموذج للمرأة المؤمنة بأنّ دخول الجنة يكون بتفجير نفسها وسط الأبرياء (مدنيين أو عسكريين)، ومثل أمين تقرأ القرآن وتصلّي وتختلف عنه في طبائعها الحادة وتمسّكها بالرأي الواحد الذي لا بد أنّه صحيح ما دام هو صادر عنها وعمّن أرسلها. وهي تريد من أمين مشاركتها هذه «الشهادة» وهو يتردد (في ذلك الفصل الثاني من الفيلم) ثم يمتنع (في الفصل الثالث خلال ربع الساعة الأخير). ممانعته، على أي حال، لا تنقذه، إذ تضغط نور على زر الحزام الذي ترتديه فينفجران خلال شجارهما قبل التوجه إلى النّقطة المقصودة.
إثر الانفجار شاشة بيضاء لنصف دقيقة تقريباً، من ثمّ لقطة لتلك الصحراء وكلام مذيع الراديو وهو يعلن اكتشاف أشلاء نور و«شاب مجهول» كما أنّ القوات الجزائرية أحبطت عملية جديدة للمتطرفين.
- من وإلى طوال الوقت
بعد انتهاء الفيلم بهذه الرسالة تقفز تلك الأسئلة التي لم يحاول المخرج الجواب عنها. بدءاً من ذلك السؤال الأول عن سبب بكاء أمين حتى من قبل أن تلمّ به الأحداث، ومروراً بمن هي المرأة العجوز التي قتلتها نور قبيل نهاية الفيلم بعدما اكتشفت أنّها تتجسس لصالح الحكومة؟ لكن ما هو أفدح شأناً من هذه الأسئلة يكمن في محاولة المخرج منح طابع إنساني مفاجئ.
في إحدى الليالي تدخل نور غرفة أمين وتوقظه من نومه وتطلب منه تقبيلها والإيحاء اللاحق أنّهما سيمارسان الحب. في صباح اليوم التالي تعود إلى سيرتها الأولى فتنهره وتأمره وتطلب منه عدم لمسها.
قبيل نهاية الفيلم وبينما هما في السيارة التي ستقلهما إلى هدفهما، وقد توقفا في مكان ما، يميل أمين إلى نور ويقبلها مع إيحاء بأنّهما مارسا الحب بعد تلك القبلة. بما أنّ موقف نور لا يتغير من مهمتها ولا يتراجع عن قرارها تفجير نفسها ولا سلوكها الحاد، يدفع للتساؤل عن قيمة هذين المشهدين.
إلى ذلك، كان من الأفضل للفيلم لو أنّ المشهد الأول لم يقع واكتفى المخرج بالمشهد الثاني وحده (مع تفاصيل أكثر قليلاً) لأنّ الأول قفز بدوره (كما اللقطات الأولى من الفيلم) من حال التشدد لنور إلى حال الرّغبة الجنسية قبل أن تعود إلى حال التشدد من جديد ومن دون مفاد مقنع.
لو اكتفى علواش بالمشهد الثاني بين نور وأمين لَوظّف الجانب العاطفي من تلك الدراما على نحو أفضل بكثير ولَمنح الفيلم الحالة المقنعة لامرأة تركت نفسها تنتقل من وضع الالتزام إلى وضع تلبية الرّغبة البشرية. حتى وإن عادت إلى قاعدتها مباشرة بعد ذلك فإنّ الأمر سيبرَّر والفيلم كان سيمنح تلك النّهاية موقعاً أهم مما جاءت به.
صوّر المخرج فيلمه بالأبيض والأسود وهذا بدوره سؤال آخر. فحسب قوله لا يرى في الوضع الجزائري سوى هذين اللونين. لكن ما يراه المخرج أو ما لا يراه، عليه أن يتبدّى في الفيلم لا في عبارة شفهية تُقال في مؤتمر صحافي. قبعتُ على مقعدي أفكر ماذا كان المانع فعلياً لو أن الفيلم كان بالألوان؟
شخصياً أحب الأبيض والأسود، لكن عليه أن يمارَس لدافع وأن تكون ممارسته صحيحة. في أحيان كثيرة هنا هو ليس كذلك وبما أن الفيلم تم بالديجيتال فإن بعض المشاهد الليلية داكنة السواد بحيث لا تستطيع الشاشة إيضاح ما يدور. هو موضوع مهم بلا ريب، لكنّه يعرض القصّـة أكثر مما يلبّي شروطها الدّرامية أو يتيح لنفسه توفير مناسبات فنية كاملة.
بعد حين يصبح تعنّت بطلة الفيلم مدعاة للضجر وتردّد أمين مدعاة للسّخرية. ومع هاتين الشّخصيتين (غالباً) علينا أن نتابع حكاية معادية للتّطرف، لكنّ العمق الأبعد لها هي أنّها معادية أيضاً لمفهوم الإسلام الصحيح، وذلك بالحكم على شخصية الشّاب بالضعف والتردد وبالتالي بالمقاومة غير المجدية. ربما العداء ليس بقوة ووضوح أفلام علواش الأخرى، لكن إلى حدّ الخلط بين نقد وهجوم.


مقالات ذات صلة

لماذا لا تصمد «أفلام المهرجانات» المصرية في دور العرض؟

يوميات الشرق ياسمين رئيس في مشهد من فيلم «الفستان الأبيض» (الشركة المنتجة)

لماذا لا تصمد «أفلام المهرجانات» المصرية في دور العرض؟

رغم تباين ردود الفعل النقدية حول عدد من الأفلام التي تشارك في المهرجانات السينمائية، التي تُعلي الجانب الفني على التجاري، فإن غالبيتها لا تصمد في دور العرض.

أحمد عدلي (القاهرة )
يوميات الشرق الفنانة الأردنية ركين سعد (الشرق الأوسط)

الفنانة الأردنية ركين سعد: السينما السعودية تكشف عن مواهب واعدة

أكدت الفنانة الأردنية ركين سعد أن سيناريو فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو»، الذي عُرض بمهرجان البحر الأحمر السينمائي، استحوذ عليها بمجرد قراءته.

انتصار دردير (جدة )
يوميات الشرق إيني إيدو ترى أنّ السينما توحّد الشعوب (البحر الأحمر)

نجمة «نوليوود» إيني إيدو لـ«الشرق الأوسط»: السينما توحّدنا وفخورة بالانفتاح السعودي

إيني إيدو التي تستعدّ حالياً لتصوير فيلمها الجديد مع طاقم نيجيري بالكامل، تبدو متفائلة حيال مستقبل السينما في بلادها، وهي صناعة تكاد تبلغ الأعوام الـ40.

إيمان الخطاف (جدة)
سينما بدء تصوير فيلم «ساري وأميرة» (كتارا)

إعلان أول فيلم روائي قطري بمهرجان «البحر الأحمر»

يأتي فيلم «سعود وينه؟» بمشاركة طاقم تمثيل قطري بالكامل؛ مما يمزج بين المواهب المحلية وقصة ذات بُعد عالمي.

«الشرق الأوسط» (جدة)
يوميات الشرق طاقم فيلم «سكر» على السجادة الحمراء (البحر الأحمر السينمائي)

«سكر»... فيلم للأطفال ينثر البهجة في «البحر الأحمر السينمائي»

استعراضات مبهجة وأغنيات وموسيقى حالمة، وديكورات تُعيد مشاهديها إلى أزمان متباينة، حملها الجزء الثاني من الفيلم الغنائي «سكر».

انتصار دردير (جدة)

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».