«داعش» يقاوم «فرار» عناصره بأكاذيب «النبأ»

الجريدة احترفت التضليل وهاجمت التنظيمات الأخرى

أحد أغلفة جريدة «النبأ» التي تصدر عن «داعش» («الشرق الأوسط»)
أحد أغلفة جريدة «النبأ» التي تصدر عن «داعش» («الشرق الأوسط»)
TT

«داعش» يقاوم «فرار» عناصره بأكاذيب «النبأ»

أحد أغلفة جريدة «النبأ» التي تصدر عن «داعش» («الشرق الأوسط»)
أحد أغلفة جريدة «النبأ» التي تصدر عن «داعش» («الشرق الأوسط»)

يرى قطاع معتبر من المراقبين والباحثين، أن «المعركة الأولى للتنظيمات الإرهابية، كانت ولا تزال هي معركة الإعلام وصورة التنظيم أمام الرأي العام... واستخدام الصحافة هو السبيل الأمثل لكسب الحرب النفسية والدعاية وكسب العقول». وتعد جريدة «النبأ» الأسبوعية الصادرة عن ما يسمى «ديوان الإعلام المركزي» التابع لتنظيم داعش الإرهابي، أحد أهم الأدوات الدعائية التي استخدمها التنظيم في نشر أخباره وأفكاره المضللة. وأكدت دراسة مطولة حديثة في مصر، أن «الجريدة احترفت التضليل وهاجمت التنظيمات الأخرى، ويستخدمها التنظيم في مقاومة الانشقاقات و(فرار) عناصره عقب هزائم متتالية طالته في سوريا والعراق».
الدراسة أعدها مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة التابع لدار الإفتاء المصرية، وحصلت «الشرق الأوسط» على نسخة منها، تضمنت تحليلاً لمضمون أعداد «النبأ» خلال عام 2017... وكشفت عن اختلال خطاب الجريدة والحديث عن الهزائم، بعدما كانت أداة ساهمت في تجنيد الأتباع عام 2014. وقال الدكتور إبراهيم نجم، مستشار مفتي مصر، لـ«الشرق الأوسط»: إن «الدراسة اعتمدت على منهجية كمية وكيفية، فعرضت تصنيفاً للمحتوى الخبري وللمقالات؛ استكشافاً للمسكوت عنه الذي يحاول التنظيم إخفاءه، عندما يركز على إظهار سمة وتوجه ما، فعندما تركز الجريدة على ضرورة الثبات، فهي تخفي تزايداً في أعداد الفارين بغية مواجهة حالات الانشقاق».
و«النبأ» مرآة عاكسة لفكر وممارسة التنظيم، تحترف التضليل في أخبارها وافتتاحياتها ومقالاتها... كما أنها أداة إعلامية تنتهج استراتيجية التنظيم في الصدمة والرعب، فعناوينها تصدم متصفحها بـ«الدماء والأشلاء والتكفير».
وقال المراقبون: إن «داعش» يقاوم الآن للحفاظ على منصاته الإعلامية، التي وفر لها طاقات مالية وبشرية، منذ أول مرة صعد فيها أبو بكر البغدادي على منبر «الجامع الكبير» بالموصل عام 2014 ليعلن عن «دولته المزعومة» التي تهاوت بعد ذلك.

صحافة الدعاية
بلغت العينة التي عملت عليها الدراسة المصرية، التي جاءت بعنوان «التضليل المحترف»، 44 عدداً من الجريدة، شملت 331 خبراً، و223 مقالاً، و7 إنفوغرافات. ويشار إلى أن التنظيمات الإرهابية أدركت مبكراً أن استخدام الصحافة هو السبيل الأمثل لكسب الحرب النفسية والدعاية وكسب العقول؛ لذا ففي عام 1988 أنشأ زعيم تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن إدارة «إعلام القاعدة» بهدف نشر ما يقوم به التنظيم من عمليات في أفغانستان... واستخدم «داعش» كافة أشكال وسائل الإعلام، سواء التقليدية عبر جريدة «النبأ»، أو المتطورة عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو الوكالات الإعلامية.
ويشار إلى أن «النبأ» عكست التطور الذي طرأ على الأداة الإعلامية لـ«داعش» وسعى التنظيم لتوظيف فكرة الجهاد من دون قائد، التي ظهرت مع «القاعدة»، وتقوم على أساس «الجهاد» عبر الإنترنت لأبو مصعب السوري، الذي وثّق لهذه الفكرة عبر مؤلف له بعنوان «الاستراتيجية اللامركزية للجماعات الجهادية»؛ وذلك لضمان استمرار التنظيمات حال مقتل قادتها... وتنظر الجماعات الإرهابية إلى أهمية التغطية الصحافية لما تقوم به على أساس أنه اعتراف صريح بوجودها وبمشروعية ما تقوم به من عنف؛ فظهور القيادات الإرهابية عبر حوارات أو أخبار يحقق لهم شهرة وانتشاراً، من وجهة نظرهم.

تداول إجباري
قالت دراسة الإفتاء: إن الصفحة الأولى لـ«النبأ» تعكس مرايا العدد، والكلمة الافتتاحية إذا كانت مهمة مثل أن تكون كلمة لأحد قيادات التنظيم أو كلمة صوتية تم تفريغها لأبو بكر البغدادي، والعدد يقع غالباً في 12 صفحة، ثم زاد إلى 16... وكانت توزع عقب صلاة الجمعة في النقاط الإعلامية وفي الأسواق والأماكن العامة... وتحتوي الصفحة الأولى على تحذير من إلقاء الجريدة؛ كونها تحتوي على آيات قرآنية وأحاديث، وهذا التحذير يهدف فقط إلى زيادة تداولها بين الأعضاء.
لغة الخبر في «النبأ»، بحسب الدراسة، يغلب عليها الطابع المركزي، الذي يعمل على تجميع الأخبار من مختلف أفرع التنظيم ويضعها في قالب دعائي يستثير حماسة أتباعه، ويقوم بتضخيم أعداد الضحايا في صفوف خصوم التنظيم... فمثلاً أعلنت «النبأ» عن مقتل 572 وجرح 393 في العراق خلال أغسطس (آب) الماضي، وبالرجوع إلى بيانات «منظمة ضحايا حرب العراق» وجد أن عدد القتلى 201، في حين رصدت «المنظمة الدولية» مقتل 90 شخصاً وإصابة 117؛ ما يؤكد أن «النبأ» تقوم بنشر أكاذيب عن عمليات وهمية، وتقوم بتضخيم أرقام الضحايا، في إطار الحرب النفسية التي يشنها التنظيم على دول المنطقة.
وتحتوي «النبأ» على عدد كبير من صور الغرافيك التي تبعث موضوعاتها دلالات كثيرة، جاءت أغلبها في الفترة الأخيرة عبارة عن رسائل إيمانية لمقاتلي التنظيم، كما حوت موضوعات ركزت على وجهة نظر التنظيم في «الانتخابات والديمقراطية».
وأكدت الدراسة، أن مجموعة المقالات التي اختصت بمنظومة القيم الدعوية مثلت أكثر من 25 في المائة من مجموع المقالات خلال عام؛ وهو ما يشير إلى أهميتها، حيث يسعى التنظيم إلى توظيفها لبث قيم تخدم الطابع التجنيدي القائم على «السمع والطاعة»، والحفاظ على هياكله الداخلية في مواجهة عمليات الانشقاقات وتثبيت عناصره في المواجهات... ومن بين هذه القيم «حفظ الأسرار، والصبر، والصمت، وتجنب المعاصي، والثبات».

نصيحة في مقال
تناولت أعداد الجريدة أيضاً مقالات حملت نصائح أمنية للعناصر، تمحورت حول مجموعة تقنيات تتعلق بتنفيذ العمليات. وأهمية «الصولات الهجومية» في إيقاع الخسائر التي تتم عن طريق مجموعات صغيرة من «الذئاب المنفردة». وآلية استخدام العبوات الناسفة. وطرق التصدي للحملات الأمنية.
وأشار مستشار مفتي مصر إلى «تناقض منظومة القيم التي يدعيها التنظيم بشكل كامل مع واقع ممارساته التي قامت على استباحة الدماء للأبرياء وارتكاب أبشع الجرائم ضد الإنسانية من نشر الرعب بمشاهد الذبح والحرق وقتل الرجال والنساء وتدمير ممتلكات المسلمين».
وكشف الباحثون، معدّو الدراسة، عن أن الجريدة ضمت في صفحاتها الأخيرة مجموعة من الفتاوى بمتوسط 2 في العدد... وركزت هذه الفتاوى على العبادات بمعدل 6 فتاوى خاصة بالصلاة والاعتكاف، و3 بالصيام، و4 بالأضحية والنذر، و2 بالزكاة. أما ما يتعلق بالمعاملات العائلية، فهي عبارة عن 3 فتاوى حول تعدد الزوجات، وعقوق الوالدين، وسفر المرأة، فضلاً عن فتاوى أقل حول «الجهاد ونيل الشهادة والديون».
وتظهر الأرقام، أن هناك اهتماماً أقل بفتاوى القتال لصالح المعاملات العائلية، وهو ما يبرز تركيزهم على قضايا الاختلاط والزواج، وأنهم يريدون التحكم في العلاقات الاجتماعية قسراً، وإشارة إلى الهوس الجنسي... كما أن تساوي عدد فتاوى الديون مع الجهاد يشير إلى أن المنضمين للتنظيم يعانون من الفقر، وهم ما يستهدفهم بخطابه.

خداع العناصر
أكد الباحثون، أن الجريدة لجأت إلى عرض سير بعض «الإرهابيين» الذين قتلوا أثناء تنفيذ عمليات انغماسية، أو في عمليات استهداف أوكار التنظيم، باعتبارهم أبطالاً؛ بهدف كسب تعاطف العناصر للإقدام على نيل الشهادة وتنفيذ عمليات خاصة.
وعن اعتراف «داعش» بهزائمه في جريدة «النبأ»، أكدت الدراسة، أن التنظيم يدرك أنه لم يعد هناك مجال للاستخفاف بعقول أنصاره... فلم تعد «دولته المزعومة» باقية وتتمدد، ومن هنا كانت هناك ضرورة للمصارحة والمكاشفة أمام عناصره لمحاولة استعادة الثقة المفقودة، مع الدعوة إلى الصبر. لكن خلال الأشهر الثلاثة المنصرمة تحول خطاب الجريدة لتأكيد أن «داعش» دين ودولة، وأن ما يعاني منه التنظيم هو ضريبة للجهاد.
وقال الباحثون: إن ذلك الخطاب في ظل مساعي التنظيم لاستعادة نشاطه الميداني والإعلامي في العراق وسوريا والعودة إلى وضع ما قبل 2014، وهو ما ركز عليه البغدادي في خطاباته للحفاظ على معاقل التنظيم في سوريا، والقتال في جبهات مفتوحة واستخدام «الذئاب المنفردة» وبخاصة في أوروبا، وتوظيف «مهاجمة العدو البعيد»، وعلى رأسها أميركا وروسيا والدول الأوروبية لإعادة كسب ثقة الأنصار الفارين واستقطاب عناصر جديدة.

تجنيد {الإخوان}
وحول رؤية التنظيم نفسه في مرآة التنظيمات الإرهابية الأخرى، أشار الباحثون إلى سعي التنظيم من خلال الجريدة إلى تضليل عناصره بمحاولة إقناعهم بأنه التنظيم الأوحد الذي يسعى إلى إقامة الدولة – على حد زعمهم -، أما باقي الفصائل والجماعات التي لم تبايعه فهي لم تقدم للإسلام شيئاً. فهاجمت الجريدة «صحوات الشام»، و«الفصائل المسلحة في سوريا»، و«حراس الدين»، وجماعة «الإخوان» الذي سعى التنظيم لاستمالة عناصرها بانتقاد منهج الجماعة الفكري، كما اشتبكت الجريدة مع حركة طالبان وتنظيم القاعدة.
وكشفت الدراسة عن سبع أزمات هيكلية ضربت التنظيم وأظهرتها أعداد «النبأ»، هي، خسارة الرهان على الفروع الكبرى، ومنها «ولاية سيناء» في مصر بعد نجاح «العملية الشاملة في سيناء 2018»، وتزايد أعداد الفارين والمنشقين من التنظيم، فضلاً عن الانقسامات والخلافات الداخلية بين صفوفه عقب الهزائم التي لحقته في العراق وسوريا. وكذا تفكك العقيدة القتالية والدعوية لدى عناصره. والإفلاس القيمي والإعلامي. والتراجع الشديد في التخطيط المركزي وغياب الاستراتيجيات. وانتشار ضعف القوة الإيمانية والنفسية لدى العناصر وفقدانهم الثقة بالتنظيم. وانتشار المعاصي والانحرافات السلوكية بين عناصر «داعش».
وقدمت الدراسة المصرية توصيات للتصدي للدعاية السوداء التي تطلقها «النبأ»، أهمها، إيجاد آلية تضمن استبدال المحتوى العنيف بمحتوى آخر معتدل. وحظر الوجود العنيف على المنصات الإلكترونية والعمل على حذفها بشكل سريع وعاجل وملاحقتها في المنصات كافة المنتشرة في مختلف الدول. فضلاً عن العمل على إيجاد منصة عالمية تقوم بفضح الأكاذيب التي تتعلق بالعمليات الإرهابية وضحاياها. إضافة إلى البحث العلمي والأمني لإصدارات التنظيمات الإرهابية، والكشف عما إذا كانت تحتوي على رسائل «مشفرة» لأعضاء التنظيم بخصوص القيام بالعمليات الإرهابية.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.