ما الذي يبقى من يوسف الخال... الشعر أم المشروع؟

بين الشاعر والمترجم والمثقف التنويري ومؤسس مجلة «شعر»

يوسف الخال
يوسف الخال
TT

ما الذي يبقى من يوسف الخال... الشعر أم المشروع؟

يوسف الخال
يوسف الخال

لم يكن أمراً بلا دلالة أن يحتفظ اسم يوسف الخال بكل ذلك البريق الذي كان له في خمسينات القرن الفائت وستيناته على نحو خاص، وأن تظل صورته الناصعة ماثلةً في أذهان اللبنانيين والعرب، لا بوصفه أحد رموز التجديد الشعري فحسب، بل بوصفه المثقف التنويري والمترجم والناقد والمنظّر الرؤيوي، ومؤسس مجلة «شعر» التي اعتبرت بحق راعية قصيدة النثر، والحاضنة الشرعية لمشروع الحداثة الثانية التي تبلورت معالمها في بيروت، بعد أن كانت بغداد قابلة الحداثة الأولى. ولم يكن أمراً بلا دلالة أيضاً أن يكون الرجل الذي أسهم إلى حد كبير في تظهير صورة العصر الذهبي للعاصمة اللبنانية قادماً من سوريا، تماماً كما كان حال أسماء مهمة أخرى من مثل: أدونيس ومحمد الماغوط وفؤاد رفقة ونذير العظمة ورياض نجيب الريس، الذين شاطروا أنسي الحاج وشوقي أبي شقرا وعصام محفوظ مغامرة البحث عن أفق جديد للكتابة العربية. وإذا أضفنا إلى هؤلاء اسمي نزار قباني وعمر أبو ريشة، على سبيل المثال لا الحصر، لقادنا ذلك إلى استنتاج أن بيروت لم تكن لتفلح في لعب دورها النهضوي الذي لعبته قبل ستة عقود لو لم تكن موئلاً وملاذاً للهاربين من زنازين القهر والاستبداد، ومساحةً للحرية والتجريب، ومختبراً محفوفاً بالمخاطر لتوليد الأفكار والرؤى الخلاقة.
إن من غير الممكن بالطبع أن يؤرخ أحد ما للمشهد الثقافي اللبناني بُعيد منتصف القرن الفائت دون التوقف ملياً عند اسم يوسف الخال، ودوره الريادي في رسم ملامح زمنه الثقافية والإبداعية، وتحديد سماتها ومساراتها المختلفة. ومع ذلك، فإن من حق الناقد المتأمل أن يعمل على ترسيم الحدود الفاصلة بين الشاعر في يوسف الخال، وبين صاحب المشروع الطليعي الذي خاض حروباً شديدة الضراوة ضد كل أشكال الصنمية والتنميط والتخلف والاجترار الفكري والتعبيري. وقد يكون من الأجدى أن نقارب صاحب «دفاتر الأيام» من زاوية المشروع والدور، ومن ثم ننتقل إلى منجزه الشعري، بغية الوقوف على وجوه التكامل أو التعارض بين حداثة الخال في شقها النظري من جهة، وحداثته المتحققه في النص الشعري من جهة أخرى. لقد امتلك يوسف الخال، في الجانب الأول، كل ما يلزم المثقف المبدع ليلعب دوره الطليعي المحوري في قيادة دفة التغيير، والانعطاف بها نحو وجهات ومناطق مختلفة. فإلى جانب ثقافته العالية، واطلاعه الواسع، ومكانته الأكاديمية، كان لديه ذلك الحضور الشخصي المحبب، على وسامة وأناقة ظاهرتين. وإذا أضفنا إلى ديناميته اللافته فارق السن بينه وبين أقرانه (ولد عام 1917)، فقد كان من الطبيعي أن يظهر في إطار مجلة «شعر» وندوتها الأسبوعية بمظهر الأب أو الأخ الأكبر، الذي لم يكن لقب «بطريرك الحداثة» سوى تتويج رمزي لموقعه المتقدم ودوره الرعائي.
لقد عرف يوسف الخال كيف ينأى بمجلته الرائدة عن التقوقع الآيديولوجي والعصبية الضيقة والمشروع الشخصي، ليحولها بتأثير واضح من مجلة أميركية تحمل الاسم نفسه إلى منصة مفتوحة للسجال الثقافي، وصراع الأفكار، والانتصار للحرية. فقد دعت المجلة إلى تحرير الإبداع من أية تبعية أو شبهة تبشيرية وعقائدية ملحقة به. ولم يكن من قبيل الصدفة أن يُستهل العدد الأول بقول الشاعر الأميركي أرشيبالد مكليش: «ليس على أولئك الذين يمارسون فن الشعر في زمن كزمننا كتابة الشعر السياسي، أو محاولة حل مشكلات عصرهم بقصائدهم، بل عليهم ممارسة فنهم لأجل أغراض فنهم، وبمستلزماته الذاتية». كما ذهب الخال، في إحدى مقالاته، إلى أن الشعر اللبناني، والعربي بوجه عام، لا يزال أسير الرومانسية الوجدانية أو الشكلانية الاجترارية الفارغة من أي بعد إنساني، وأن الشعراء، وبينهم سعيد عقل «يعيشون جسدياً في زمن، وروحياً وعقلياً في زمن آخر». ودعا إلى شعر مختلف، يقوم على التجربة الحياتية، وإبدال المفردات القديمة بأخرى معاصرة، وتطوير الإيقاع بما يتناسب مع طبيعة التجربة، والابتعاد عن الرمزية التجريدية لمصلحة الرمز المتصل بتاريخ الأمة وتراثها الروحي والعقلي. ورغم أن المجلة قد احتضنت عدداً غير قليل من الكتّاب المنتمين إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، فإن الشاعر لم يخف انحيازه، وبتأثير من أستاذه شارل مالك، إلى الكيان اللبناني، بما هو مساحة للتنوع والمغامرة الإنسانية وتعدد الثقافات. وهو لم يتردد، تبعاً لذلك، في أن يخوض أشرس السجالات والمعارك مع مجلة «الآداب» التي نادى صاحبها سهيل إدريس، على غرار سارتر، بمبدأ الالتزام في الأدب، كما انتصر للمشروع القومي العربي في مواجهة المنادين بالقومية اللبنانية. على أن ذلك لم يمنع الخال بالمقابل من أن يفتح صفحات مجلته أمام مئات النقاد والشعراء والمثقفين من كل المدارس والأساليب، كما من بلاد العرب وأمصارهم كافة، بحيث كانت تُنشر جنباً إلى جنب نصوص بدوي الجبل ونزار قباني وعبد الله البردوني وبدر شاكر السياب وأدونيس وفدوى طوقان وسميح القاسم وميشال طراد ومحمد الماغوط وعشرات غيرهم. وهو إذ عدّ أن تجديد طاقات اللغة وحيويتها سيكون ضرباً من ضروب العبث، ما لم يؤازره تفاعلٌ خلاقٌ مع الثقافات الفاعلة في العالم المعاصر، سعى بكل طاقته إلى جعل المجلة منصة لعشرات النصوص المترجمة عن اللغات الحية، متولياً على المستوى الشخصي ترجمة عدد من التجارب الإبداعية الكبرى، مثل: «الأرض الخراب» لتوماس إليوت، و«النبي» لجبران، و«ديوان الشعر الأميركي»، وغيرها. على أن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق يتعلق بمدى المجانسة والتناغم بين مقولات يوسف الخال وتنظيراته الجريئة حول الشعر، وأعماله الإبداعية التي صدر معظمها عن «دار العودة»، قبل رحيله بقليل. والواقع أن قراءة نقدية متفحصة لأعماله الأولى تُظهر بوضوح أن هذه الأعمال لا تنسجم، من حيث لغتها وأسلوبها، مع طروحاته النظرية الجريئة المتقدمة، بل إن قصائده ومقطوعاته الموزونة المقفاة لا ترقى إلى المستويات التي بلغتها القصيدة العربية الكلاسيكية في نماذجها العليا، بل هي تدور في فلك القصيدة المهجرية، أو النماذج العاطفية الرومانسية التي دعا فيما بعد إلى مقاومتها، والتخفف منها، كقوله: «فيا عينُ لا تدمعي \ رويداً، فعمّا قريبْ \ يعود إلى الحبيبْ \ ويبقى معي \ ومهما يُجنّ القدرْ \ ويفرش دربي ظلامْ \ ففي جانبي غرامْ \ كضوء القمرْ». وفي الشق «الوطني» من المجموعة، لا نعثر إلا على مقولات سياسية جاهزة، أقرب إلى النظم الموزون منها إلى أي شيء آخر: «يا بلادي سلمْتِ، ما زال لبنان \ قوي العمَاد، لمّا يُذلا \ شامخ الأنف، رافع الرأس حرا \ هانئاً دون غيره مستقلا». أما مسرحيته الشعرية اللاحقة «هيروديا» التي تتمحور حول العلاقة الآثمة بين الحاكم الروماني هيرودس وعشيقته هيروديا، التي قايضت رقصة ابنتها سالومي برأس يوحنا المعمدان، فهي تكشف عن تطور ملحوظ في تطويع الأوزان وتقطيعها لصالح الحوار الدرامي، ولو أنها لم تضف الكثير إلى ما أنجزه أحمد شوقي في مجال المسرح الشعري.
قد يكون الدور الذي لعبه يوسف الخال في إطار مجلة «شعر» شبيهاً بشكل أو بآخر بالدور الذي لعبه أندريه بروتون في إطار الحركة السوريالية. فهذا الأخير لم يكن أكثر السورياليين موهبة وأعظمهم نتاجاً، ولكنه كان بينهم الأفعل والأكثر دينامية وإخلاصاً لقضية الشعر والفن، تماماً كما كان وضع الخال بين أقرانه. إلا أنه من الظلم للشاعر ألا نشير إلى القفزة الواسعة التي حققها في وقت لاحق، حيث تعهد أن يقطع مع ماضيه الشعري، وأن يبحث عن مقاربات أسلوبية ورؤيوية مغايرة لتجربته السابقة، وهو ما سيبدو جلياً في مجموعته المتميزة «البئر المهجورة»، التي تتصادى إلى حد بعيد مع «الأرض الخراب» لإيليوت، بقدر ما تجمع بين الرمز الأسطوري التموزي والرمز الديني، المتمثل بشكل أساسي في شخصية المسيح بأبعادها المختلفة. صحيح أن الخال لم يقطع على المستوى الإيقاعي صلته بالأوزان في إطارها التفعيلي، ولكن نصوصه نحتْ أكثر فأكثر نحو التأمل في قضايا الحرية والظلم والاغتراب الوجودي، خصوصاً في القصيدة التي تحمل المجموعة اسمها، حيث يبدو إبراهيم رمزاً للإنسان العربي الذي حولته الهزيمة إلى كائن محطم مسلوب الإرادة: «لكن إبراهيم ظلّ سائراً \ كأنه لم يسمع الصدى \ وقيل إنه الجنون \ لكنني عرفت جاري العزيز من زمن الصغَرْ \ عرفته بئراً يفيض ماؤها \ وسائرُ البشَرْ \ تمرّ لا تشرب منها، لا ولا \ ترمي بها، ترمي بها حجَرْ». ومع أن خالدة سعيد قد عدّت، في إحدى مقالاتها النقدية، أن «البئر المهجورة» أحفل القصائد بالجاذبية والصدق والأسئلة الوجودية المريرة، فإنها لم تتردد بالمقابل في وصف قصائد أخرى للشاعر بالجفاف، وانعدام الحرارة، وغياب التجربة الذاتية. أما أنسي الحاج، من جهته، فلم يرفض مقولة سعيد حول تغييب الذات أو تحييدها من قبل الشاعر، لكنه بلغته اللماحة الماكرة ذهب إلى استنتاج أن الخال قد اختار بوعي كامل إبعاد قصيدته عن الغنائية والإنشاء العاطفي، وأنه «آثر عري حيطان الصومعة على الزخرف، وبرود شمس العقل على حرارات العواطف ورطوبات الأدب». وإذا كانت النصوص الموزونة في «قصائد في الأربعين» تتميز بالليونة والدفء، والتوهج الروحي، والترميز الموفق، كقول الشاعر: «أقوم وأرحل عن صحرنايا \ عن الظل عند ارتفاع الظهيرة \ وأنفض عني الغبارْ \ وفي العطَفات الأخيرةِ حيث تغيب ويسقط خلفي الستارْ \ سأنسى وجوه الحجارةِ، أنسى حشائشها كرؤوس الإبرْ \ وفي صحرنايا وأدتُ بناتي \ وكنتُ الضريحْ \ وفيها تشوّه وجهي، تناءى \ فدارت به كلّ ريحْ»، فإن قصائد الخال النثرية لم تكن منسجمة مع سليقته المفطورة على الأوزان، بما جعل التأليف الذهني الصرف يحول القصائد إلى تراكيب مسبقة التصاميم، أو متتاليات من الجمل الاسمية الباردة.
لا نستطيع، أخيراً، أن نفصل بين مأزق يوسف الخال في علاقته مع اللغة والشعر، ومأزق المشروع نفسه الذي وصل في نهاية الأمر، وبعد هزيمة بالذات، إلى طريق مسدود. فحيث يتوقف الشاعر عن الكتابة، بدعوى اصطدامه بجدار اللغة، ومن ثم يدعو إلى كتابة جديدة تزول فيها الفوارق بين المنطوق والمكتوب، ينفرط في الآن ذاته عقد المساهمين في المجلة، ومن ثم تتوقف عام 1970 نهائياً عن الصدور. ولعله من الظلم بمكان أن نذهب مع منير العكش إلى القول إن سبب احتجابها الحقيقي هو كون «عيونها في البحر، ومواهبها تخبُّ مع العيس»، أو الجِمال. صحيح أن بعض كتابها قد اختفوا تماماً عن ساحة الإبداع، ولكن الصحيح أيضاً أن بعضهم الآخر لا يزال حتى الساعة يحتل أكثر المواقع تقدماً وفرادة في المشهد الثقافي العربي. أما يوسف الخال الشاعر، فسيكون عليه أن يلوذ بصمت طويل، قطعته فيما بعد كتابات له بالمحكية لم تضف كثيراً إلى منجز ميشال طراد والرحبانيين وسعيد عقل، في حين بدا كتابه النثري «رسائل إلى دون كيشوت» أقرب إلى الاعترافات والبوح الشعري والاستشعار المرير بالخيبة والنكوص ودنو الأجل. وبالعودة، أخيراً، إلى السؤال المتعلق ببقاء الشاعر والمشروع، فإن موجبات الإنصاف والرؤية الموضوعية تستوجب الاعتراف بالدور المحوري المهم الذي لعبه الخال، مثقفاً ومترجماً ومؤسساً لمجلة رائدة، في تجديد الثقافة العربية، وتوسيع أفق القصيدة الحديثة ومسرحها. ومن يعود الآن إلى قراءة أعداد «شعر»، لا بد أن تذهله راهنية الأفكار والأسئلة والأساليب التي اقترحتها على اللغة والحياة العربيتين. ومع أن الزمن وحده منوط به تحديد ما يبقى وما لا يبقى من الشعراء والمبدعين، فإن الأبقى في نتاج يوسف الخال الشعري لن يكون أعماله الأولى، ولا قصائده العمودية أو المحكية، بل كثير من نصوصه المبثوثة في «البئر المهجورة» و«قصائد في الأربعين» و«رسائل إلى دون كيشوت»، حيث المواءمة واضحةٌ بين اللغة والرؤيا، كما بين الدعوة النظرية إلى التجديد والتجديد الفعلي على أرض الكتابة نفسها.



المتحف المصري الكبير يفيض بالزائرين... ويوقف بيع تذاكره

البهو العظيم للمتحف المصري الكبير (تصوير: عبد الفتاح فرج)
البهو العظيم للمتحف المصري الكبير (تصوير: عبد الفتاح فرج)
TT

المتحف المصري الكبير يفيض بالزائرين... ويوقف بيع تذاكره

البهو العظيم للمتحف المصري الكبير (تصوير: عبد الفتاح فرج)
البهو العظيم للمتحف المصري الكبير (تصوير: عبد الفتاح فرج)

أعلنت وزارة السياحة والآثار تنظيماً جديداً لدخول المتحف المصري الكبير وحجز التذاكر بعد الإقبال الكبير الذي شهده المتحف من الزائرين، الجمعة، والذي تجاوز سعته التشغيلية القصوى.

وأصدرت الوزارة بياناً، الجمعة، قالت فيه إنه «في ضوء الإقبال الكبير من الزائرين على المتحف المصري الكبير، ووصول أعداد الزيارة، الجمعة الموافق 7 نوفمبر (تشرين الثاني) 2025، إلى أكثر من السعة التشغيلية الكاملة المقررة للمتحف، مما استدعى إيقاف بيع التذاكر لليوم، قررت إدارة المتحف قصر حجز وشراء تذاكر الزيارة ليوم السبت 8 نوفمبر، وأيام العطلات الرسمية ونهايات الأسبوع (الجمعة والسبت) على الموقع الإلكتروني الرسمي للمتحف فقط».

وأضاف البيان أنه سيتم وقف عمليات حجز وبيع التذاكر من شبابيك التذاكر بالمتحف خلال هذه الأيام المحددة، على أن تستمر كالمعتاد في باقي أيام الأسبوع عبر الموقع الإلكتروني وشبابيك التذاكر معاً طبقاً للطاقة الاستيعابية للمتحف.

ويأتي هذا الإجراء «ضمن خطة تنظيم عملية الدخول لضمان تجربة زيارة متميزة وآمنة للزائرين، بما يتماشى مع الطاقة الاستيعابية للمتحف، ويسهم في رفع كفاءة الخدمات المقدمة»، وفق البيان. مع التأكيد على أن «جميع الحجوزات المؤكدة مسبقاً عبر القنوات الرسمية سارية كما هي، وسيتم استقبال حامليها في مواعيدهم المحددة دون أي تغيير».

إقبال كثيف على زيارة المتحف المصري الكبير (وزارة السياحة والآثار)

وأشادت إدارة المتحف بالحماس والإقبال الكبير الذي يعكس المكانة المرموقة للمتحف المصري الكبير كأحد أهم الصروح الثقافية والحضارية في العالم.

ومن قلب الزخم الكبير الذي شهده المتحف ومحيطه، يؤكد أستاذ الآثار اليونانية والرومانية بجامعة القاهرة، الدكتور خالد غريب، أن «المشهد كان مفرحاً على مستوى الوعي والإقبال الكبير على المتحف»، مضيفاً لـ«الشرق الأوسط»: «لكن الأمر يحتاج إعادة تنظيم؛ فالعدد الرهيب الذي دخل اليوم إلى المتحف يجعل حتمياً التفكير في تخصيص بوابات دخول للمصريين وأخرى للرحلات وبوابات للأجانب، حتى يتم تنظيم الدخول بشكل معقول، خصوصاً أن اليوم كان الجمعة الأولى بعد افتتاح المتحف، وكان متوقعاً أن يشهد كل هذا الزخم؛ لأنه يوم إجازة».

وافتُتح المتحف المصري الكبير في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، في احتفالية عالمية نقلتها العديد من وسائل الإعلام حول العالم، في حين فتح المتحف أبوابه للجمهور يوم 4 نوفمبر، بالتزامن مع ذكرى اكتشاف مقبرة الملك توت عنخ آمون عام 1922، ويشهد المتحف للمرة الأولى عرض جميع محتويات المقبرة كاملة في مكان واحد.

ولفت غريب إلى أن «المتحف يمكنه أن يتيح الحجز على الإنترنت، وهو ما أعلنه في بيان اليوم، ليكون أول يوم حجز هو الأحد المقبل، وأتمنى أن يتم تنظيم الدخول بطريقة تحافظ على بريق المتحف وقيمته الكبيرة وصورة مصر السياحية».

المتحف المصري الكبير يشهد إقبالاً كبيراً منذ افتتاحه (وزارة السياحة والآثار)

ويضم المتحف المصري ما يزيد على مائة ألف قطعة أثرية تحكي حقباً مختلفة من التاريخ المصري القديم، في سيناريو عرض متحفي يعتمد أحدث التقنيات، وتوقعت تقديرات سابقة أعلنها وزير السياحة المصري، شريف فتحي، في تصريحات متلفزة، أن يزور المتحف يومياً نحو 15 ألف سائح، بعد الافتتاح الرسمي، بمعدل 5 ملايين سائح في السنة. في حين أكد الرئيس التنفيذي لهيئة المتحف المصري الكبير، الدكتور أحمد غنيم، في تصريحات متلفزة، أن عدد زائري المتحف في اليوم الأول لفتحه للجمهور تجاوز 18 ألف زائر.

ويرى المتخصص في المصريات، الدكتور محمد حسن، أن «بيع كل تذاكر المتحف المصري الكبير ليوم الجمعة يدل على نجاح الحملة التسويقية التي قامت بها مصر للترويج للمتحف»، مضيفاً لـ«الشرق الأوسط» أن «الحفل الذي أقيم لافتتاح المتحف حمل رسائل قصيرة موجزة تدل على أن مصر بلد الأمن والأمان، وقد أصابت الرسالة الهدف»، وتابع أن «اليوم يعمل المتحف بكامل طاقته، بل يستوعب أعداداً تفوق طاقته التشغيلية، وظهر من الإقبال الكبير أن الأجانب متحمسون لرؤية هذا الصرح الحضاري المميز، كما أن المصريين في حالة صحوة وشغف لمعرفة تاريخهم عن قرب».


نور بلوق لـ«الشرق الأوسط»: وثقنا النزوح من جنوب لبنان خلال الحرب الإسرائيلية

الفنانة اللبنانية نور بلوق (الشرق الأوسط)
الفنانة اللبنانية نور بلوق (الشرق الأوسط)
TT

نور بلوق لـ«الشرق الأوسط»: وثقنا النزوح من جنوب لبنان خلال الحرب الإسرائيلية

الفنانة اللبنانية نور بلوق (الشرق الأوسط)
الفنانة اللبنانية نور بلوق (الشرق الأوسط)

في الفيلم الوثائقي «حكايات الأرض الجريحة» تعود الفنانة التشكيلية اللبنانية نور بلوق للوقوف أمام الكاميرا بعدسة زوجها المخرج العراقي عباس فاضل الذي وثّق حياتهما خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، فعلى مدار أكثر من ساعتين نتابع تفاصيل كثيرة من حياة الفنانة اللبنانية وطفلتها وزوجها، من بينها لحظات صعبة في خلفيتها أصوات الانفجارات، وتفاصيل النزوح من الجنوب اللبناني والعودة بعد وقف إطلاق النار.

الفيلم الذي حصد عنه فاضل جائزة أفضل مخرج في النسخة الماضية من مهرجان «لوكارنو السينمائي» وشارك في مهرجان «الجونة السينمائي»، الشهر الماضي، يواصل جولته بعدد من المهرجانات السينمائية من بينها مهرجان «باري» في إيطاليا الشهر الجاري.

تقول نور بلوق لـ«الشرق الأوسط» إن «فكرة الفيلم لم يكن مخططاً لها منذ البداية، لكون المشروع وُلد من قلب الحرب الإسرائيلية على لبنان، حين اضطرت العائلة للنزوح المفاجئ تحت القصف الكثيف، ولم يكن في مقدورهم سوى أخذ بعض الثياب القليلة معهم، تاركين خلفهم الكاميرات وعدّة التصوير في المنزل»، مشيرة إلى أنها بعد نحو شهر من النزوح، قررت العودة بمفردها إلى البيت رغم المخاطر الكبيرة، لتجلب الكاميرات بنفسها.

رصد الفيلم تعرض العديد من المواقع للتدمير خلال الحرب (الشرق الأوسط)

شعرت الفنانة التشكيلية اللبنانية بأن عليهم توثيق ما يحدث لهم، فلم تكن تعلم ما الذي سيفعلونه، وفق قولها، واستدركت: «لكن كان ضرورياً أن نُسجّل الواقع الذي نعيشه لحظة بلحظة، وفور عودتي بالكاميرات بدأ زوجي المخرج عباس فاضل التصوير ليوثّق كل ما حولنا من تفاصيل الحرب والنزوح، لينطلق العمل الفعلي عقب إعلان وقف إطلاق النار الذي كان أشبه بالوهم مع استمرار القصف».

ترى نور بلوق أن تلك الفترة أتاحَت لهم العودة إلى منزلهم واستئناف التصوير بصورة مكثّفة، وفوجئت عندما أخبرها زوجها برغبته في تصويرها هي وابنتهما ضمن أحداث الفيلم، لكنها تقبّلت الأمر سريعاً لأنها اعتادت المشاركة معه في أعمال سابقة، لكن هذه المرة جرى التصوير بظروف شديدة القسوة والخطورة، «فالقصف لم يكن يتوقف، وكثيراً ما اضطررنا إلى التوقف فجأة والاحتماء داخل البيت خوفاً من سقوط القذائف»، على حد تعبيرها.

تستذكر الفنانة اللبنانية أجواء التصوير بالقول: «كنا نخرج للتصوير، وفجأة نسمع صوت الانفجارات قريبة جداً، فأطلب من عباس العودة إلى الداخل خشية أن يصيبنا شيء، لقد عشنا الخطر بكل تفاصيله»، مؤكدة أن التصوير بعد الحرب لم يكن أقل خطراً؛ إذ زاروا مناطق مدمّرة مليئة بالألغام والزجاج المكسور، وكانت ابنتها ترافقهما طوال الوقت، وتابعت: «كنت أراقبها وأحذرها في كل لحظة؛ لأن المكان كان لا يزال يحمل آثار الدمار والحرائق ورائحة الصواريخ».

وعن أصعب اللحظات التي عاشتها أثناء التصوير، قالت نور بلوق إنها كانت تخشى كثيراً على ابنتها، خصوصاً في المشاهد التي صُوّرت بين المقابر، موضحة أن «تلك اللقطات كانت شديدة الوقع عليها نفسياً، كانت ابنتي صغيرة ولا تدرك ما يجري حولها، ورؤيتها تسير بين القبور كانت لحظة قاسية عليّ كأم، لكنها في الوقت ذاته كانت لقطة فنية قوية تعكس التناقض بين الحياة والموت، وبين البراءة والدمار».

وثق مخرج الفيلم رحلة زوجته وطفلته الصغيرة مع الحرب (الشرق الأوسط)

وأكّدت أن «الفيلم لم يكن عملاً تلفزيونياً أو تقريراً إخبارياً، بل تجربة إنسانية حيّة»، مستطردة: «نحن لم نكن نغطي الحدث من الخارج، بل كنّا جزءاً منه، نعيشه بكل تفاصيله، المخرج أراد أن يُظهر الوجع الإنساني قبل أي شيء آخر، لا الإحصاءات ولا الأرقام، بل مشاعر الناس ومعاناتهم الحقيقية؛ لأن هذه اللغة وحدها قادرة على لمس المتفرّج».

وأشارت إلى سعي الفيلم لتقديم صورة داخلية عن الحرب، بعيدة عن النظرة الإعلامية الباردة، موضحة أن «فاضل ركّز في لقطاته على وجوه الناس وانفعالاتهم، وجعلهم يروون حكاياتهم بأنفسهم؛ لأن الكلمة الصادقة تنبع من التجربة لا من التحليل».

أما عن تركيز الفيلم على رصد تدمير البنية الثقافية والمدنية في لبنان، فأوضحت نور أن «هذا الجانب كان حاضراً بقوة في رؤية العمل؛ إذ حرصنا على إظهار أن أهداف الحرب لم تكن عسكرية فحسب، بل طالت الإنسان في جوهره، واستهدفت ذاكرته وثقافته وهويته، وأن القصف لم يميز بين بيت وآخر، فالفنانون والمكتبات والمنازل كانت جميعها في مرمى الدمار، فالحرب لم تكتفِ بتدمير الحجر، بل سعت إلى طمس الروح الثقافية التي تشكّل جوهر المجتمع اللبناني».

وعن اللحظة التي شعرت فيها أن الفيلم اكتمل، لفتت إلى أن عباس فاضل يميل عادة إلى الأفلام الطويلة؛ لذلك حاولوا جعل هذه التجربة أكثر اختصاراً، «لكن حجم المادة المصوّرة كان هائلاً، فاستقرّ الفيلم على نحو ساعتين»، وفق قولها.

وأوضحت: «كل شخصية كانت تحمل وجعها الخاص، فهناك الفنان الذي خسر أعماله، والمثقف الذي فقد مكتبته، وكل بيت في الجنوب كان يحكي قصة ألم إنساني مختلفة».

ورغم أنها ليست من الأشخاص الذين يفضّلون الظهور أمام الكاميرا، لكنها شعرت في هذا الفيلم بأن وجودها ضرورة إنسانية وفنية في آنٍ واحد، مستذكرة عرض الفيلم للمرة الأولى في مهرجان «لوكارنو» بدورته الماضية بعدما شاهدت الفيلم للمرة الأولى بالسينما في لحظة وصفتها بـ«الصعبة والعاطفية».

تقول نور: «رغم أنني عشت تلك الأحداث لحظة بلحظة، فإن رؤيتها مجدداً كانت مؤلمة؛ لأن كل مشهد يعيد إليك الرعب والحنين معاً»، معتبرة أن فكرة الهجرة من لبنان لم تكن مطروحة بالنسبة لهما رغم امتلاك زوجها جنسية فرنسية، مضيفة: «النزوح الداخلي كان أهون من الهجرة؛ لأنك تبقى قريباً من أهلك وبيتك، أما البعد في الخارج فهو أشد قسوة، فقد جربت الغربة من قبل وعرفت كم هي مؤلمة؛ لذلك اخترنا أن نبقى في لبنان مهما كان الثمن».


رسالة من أعماق التاريخ والبحار... زجاجة تحمل حنين جندي لأمه تظهر على شاطئ أسترالي

على الرغم من أن الورقة كانت مبللة فإن الرسالتين كانتا لا تزالان مقروءتين (أ.ب)
على الرغم من أن الورقة كانت مبللة فإن الرسالتين كانتا لا تزالان مقروءتين (أ.ب)
TT

رسالة من أعماق التاريخ والبحار... زجاجة تحمل حنين جندي لأمه تظهر على شاطئ أسترالي

على الرغم من أن الورقة كانت مبللة فإن الرسالتين كانتا لا تزالان مقروءتين (أ.ب)
على الرغم من أن الورقة كانت مبللة فإن الرسالتين كانتا لا تزالان مقروءتين (أ.ب)

في 15 أغسطس (آب) عام 1916، كتب الجندي الأسترالي مالكولم ألكسندر نيفيل رسالة مكوّنة من صفحتين إلى والدته، فيما كان على متن سفينة متجهة إلى أوروبا للمشاركة في القتال خلال الحرب العالمية الأولى.

وقال في رسالته: «أقضي وقتاً جيداً حقاً، والطعام لذيذ حتى الآن، باستثناء وجبة واحدة رميناها في البحر». وبعد أن أنهى الكتابة، لفّ الرسالة بعناية، ووضعها في زجاجة ورماها في عرض البحر.

اكتشاف مذهل بعد أكثر من قرن

واليوم، بعد مرور أكثر من 100 عام، ظهرت رسالة نيفيل في زجاجة على أحد شواطئ أستراليا.

فقد عثرت ديبرا براون على الزجاجة من نوع «شويبس» في التاسع من أكتوبر (تشرين الأول) في أثناء جمعها القمامة على شاطئ وارتون الواقع على الساحل الجنوبي لولاية أستراليا الغربية، على بعد نحو 800 كيلومتر من مدينة بيرث. كانت ترافقها في تلك اللحظة ابنتها فيليسيتي وزوجها بيتر، وفقاً لما ذكرته وكالة «أسوشييتد برس».

زجاجة مدفونة كشفتها العواصف

تعيش براون في بلدة إسبيرانس القريبة، وتعتقد أن الزجاجة كانت مدفونة لسنوات طويلة في الكثبان الرملية قبل أن تكشفها العواصف الشتوية العنيفة مؤخراً.

وقالت، في حديث لوكالة الأنباء الأسترالية: «إنها محفوظة بشكل مذهل. لو كانت في البحر طوال 109 أعوام، لغرقت منذ زمن، ولتحلّلت السدادة تماماً».

الرسالة تعود إلى الحياة

أدركت براون أن داخل الزجاجة رسالة، لكنها لم تكن متفائلة بإمكانية قراءتها. ومع ذلك، أزالت السدادة ووضعت الزجاجة على حافة نافذة لتجفيف المياه التي تسربت إلى داخلها. وبعد فترة، استخدمت ملقاطاً جراحياً لإخراج الرسالة المكتوبة بقلم رصاص بلطف شديد.

وذيّل نيفيل رسالته بعبارة: «ابنك المحب مالكولم... في مكان ما في البحر»، وطلب من الشخص الذي سيجدها أن يرسلها إلى والدته روبرتينا نيفيل في بلدة ويلكاوات بجنوب أستراليا.

البحث عن عائلة الجندي الراحل

بدأت براون البحث عبر الإنترنت عن معلومات حول نيفيل، لتكتشف أنه قُتل في المعارك بفرنسا خلال أبريل (نيسان) 1917 عن عمر 28 عاماً في أثناء خدمته بالكتيبة الثامنة والأربعين من الجيش الأسترالي.

وبعد مزيد من البحث، تمكنت من الوصول إلى أحد أقاربه، هيربي نيفيل، وهو ابن شقيقه، ويعيش في أليس سبرينغز بالإقليم الشمالي لأستراليا.

اتصلت براون بمكان عمله بعد أن وجدته على صفحته في «فيسبوك»، وتواصل معها بعد أيام قليلة، حسب تقرير لشبكة «إي بي سي» الأسترالية.

وقالت براون للوكالة الأسترالية: «منذ ذلك الحين، تواصل معي جميع أفراد عائلته، من أبناء عمومته وشقيقاته، وهم متحمسون جداً لهذا الاكتشاف».

رسالة ثانية تكشف مفاجأة جديدة

لكن الزجاجة لم تكشف كل أسرارها بعد. فداخلها وجدت براون رسالة أخرى كتبها جندي مختلف يُدعى ويليام كيرك هارلي، وكان يبلغ من العمر 37 عاماً آنذاك. كانت والدته قد تُوفيت قبل ذهابه إلى الحرب، لذلك كتب في رسالته أنه لا يريد إرسالها إلى أحد، بل طلب ممن يجدها أن يحتفظ بها.

أُصيب هارلي مرتين في المعارك، لكنه نجا وعاد إلى أستراليا، قبل أن يُتوفى لاحقاً بسبب السرطان عام 1934.

وتمكنت براون من الوصول إلى حفيدته آن تيرنر، وأرسلت إليها الرسالة. وقالت تيرنر، وهي واحدة من خمسة أحفاد لهارلي الأحياء، لشبكة «أي بي سي»: «نشعر كأن جدنا تواصل معنا من العالم الآخر».

ذكريات من سفينة «بالارات»

كلا الجنديين كان على متن سفينة القوات «HMAT A70 Ballarat» عندما كتبا رسائلهما. وقد غادرت السفينة مدينة أديلايد في 12 أغسطس (آب) 1916، في رحلة استمرت ستة أسابيع لنقل تعزيزات إلى الجبهة الغربية في أوروبا.