الاكتشاف الجديد في «بومبي» أعاد كتابة التاريخ

«بومبي» كانت مركزاً إدارياً مهماً في الإمبراطورية الرومانية  ومنتجعاً يرتاده النبلاء والعائلات الميسورة
«بومبي» كانت مركزاً إدارياً مهماً في الإمبراطورية الرومانية ومنتجعاً يرتاده النبلاء والعائلات الميسورة
TT

الاكتشاف الجديد في «بومبي» أعاد كتابة التاريخ

«بومبي» كانت مركزاً إدارياً مهماً في الإمبراطورية الرومانية  ومنتجعاً يرتاده النبلاء والعائلات الميسورة
«بومبي» كانت مركزاً إدارياً مهماً في الإمبراطورية الرومانية ومنتجعاً يرتاده النبلاء والعائلات الميسورة

في اليوم الرابع والعشرين من شهر أغسطس (آب) عام 79 ميلادياً، دخل بركان «فيزوف» الرّابض فوق خليج مدينة نابولي الإيطالية في حال من الثّوران العنيف، وراح يقذف من فوّهته العالية ملايين الأطنان من الحِمَم التي دمّرت المدن والبلدات الواقعة عند سفحه وأحرقتها ثم طمرتها تحت الرماد. أكبر تلك المدن وأهمها، «بومبي» التي كانت مركزاً إداريا مهماً في الإمبراطورية الرومانية ومنتجعاً يرتاده النبلاء والعائلات الميسورة والفنّانون هرباً من صخب العاصمة روما ومكائدها، نامت مدفونة بسكّانها وأسرارها قروناً مديدة تحت الدمار. انتظر العالم حتى عام 1748 لكي يكشف المنقّبون وعلماء الآثار عن كنوز «بومبي» المطمورة تحت الرماد الكثيف، التي تحوّلت في غضون سنوات إلى أحد أهمّ المصادر لقراءة التّاريخ الاجتماعي والعمراني والفني للإمبراطورية الرومانية، وأصبحت معلماً سياحيّاً بارزاً ومختبراً من الطراز الأول للباحثين. الحفريات الأولى جرت بتوجيه من العاهل الإسباني كارلوس السابع، الذي كانت نابولي تابعة له يوم كانت قبلة المدن الأوروبية إلى جانب لندن وباريس. وقد امتلأت يومها متاحف المدن الأوروبية الكبرى، خصوصا مدريد وروما ونابولي، بالكنوز والنفائس الفنّية التي عُثر عليها في القصور الفخمة التي كانت مطمورة تحت الحمم البركانية طوال سبعة عشر قرناً.
خلال التنقيبات الأولى عثر الباحثون على آلاف الجثث المفَحّمة في شوارع المدينة التي كانت معظم بيوتها خالية من السكّان، ممّا يدلّ على أنّهم حاولوا الهرب عندما داهمتهم حمم البركان الذي يبدو أنّ ثورانه كان مفاجئاً ولم يترك لهم فرصة لمغادرتها. وقد أصيب علماء الآثار الذين أشرفوا على التنقيبات الأولى بدهشة كبيرة عندما وجدوا أمامهم «مدينة نائمة بأهلها ومساكنها ومبانيها تحت غطاء كثيف من الزمن». بعد تلك المرحلة الأولى التي كشفت عن ذلك الكنز الأثري الهائل، راحت البعثات العلمية، الأوروبية والأميركية، تتعاقب على الموقع الذي أعاد كتابة تاريخ إحدى كبرى الإمبراطوريات في العالم.
التخطيط المُدني والعمراني، والعادات الاجتماعية، وتفاصيل الملبس والمأكل، في الإمبراطورية الرومانية خلال القرن الأول الميلادي، كانت كلّها مكتوبة على صفحات «بومبي» الخارجة من الرماد. وقد ذاع صيت الرّسوم والفسيفساء الإباحية التي كشفتها التنقيبات على جدران القصور الفخمة وفي أروقة الحمّامات التي كانت شائعة في المدينة. وكانت البحوث التي يجريها العلماء من كل أنحاء العالم قد بدأت تشكّك منذ سنوات في دقّة التّاريخ المعتمَد منذ القرن الثامن عشر لثوران البركان ودمار المدينة. ومن الدلائل التي كانت تعزّز هذه الشّكوك، الملابس الصوفيّة السميكة التي كان يرتديها سكّان المدينة، التي كانت تُستخدم عادة في الخريف أو الشتاء، أو الفاكهة المفحّمة التي عُثر عليها مثل الرّمّان والجوز والكستناء، التي تنضج عادة مطالع الخريف في منطقة المتوسط. لكن أحداً لم يقدّم أدلة قاطعة تدحض ذلك التاريخ، إلى أن كشفت بعثة علمية مطلع هذا الشهر عن كتابة واضحة على جدار أحد المباني الذي كان قيد التّشييد إبّان ثوران البركان، تدلّ على أنّ الكارثة وقعت في الأسبوع الأخير من أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه، وليس في شهر أغسطس. وقد أكد مدير موقع «بومبي» الأثري أنّ لا شك عنده في دقّة المعلومات الجديدة التي تدعم الاعتقاد السائد منذ سنوات، لكن من غير قرينة علمية قاطعة. ويقتضي مثل هذا الاكتشاف الجديد تصويب كتب التّاريخ والأفلام الوثائقية والمسرحيات الكثيرة التي تحكي مآثر «بومبي» ومأساتها، بأنّ البركان «فيزوف»، الذي ما زالت حممه النائمة سيفاً مسلّطاً فوق رقبة نابولي وجوارها على ساحل «آمالفي»، قد ثار ثورانه التّاريخي في الخريف وليس في الصيف.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».