سلاح تنظيم العشوائيات يقترب من موالي النظام في دمشق

احتجاجات على قرار الحكومة تطبيق القانون رقم 10 في أحياء شاركت في الحرب

مقاتل معارض في داريا قرب دمشق قبل سيطرة النظام عليها (غيتي)
مقاتل معارض في داريا قرب دمشق قبل سيطرة النظام عليها (غيتي)
TT

سلاح تنظيم العشوائيات يقترب من موالي النظام في دمشق

مقاتل معارض في داريا قرب دمشق قبل سيطرة النظام عليها (غيتي)
مقاتل معارض في داريا قرب دمشق قبل سيطرة النظام عليها (غيتي)

لم تعد سياسية «التهجير القسري» التي يتبعها النظام السوري تقتصر على معارضيه، بل طالت حالياً مؤيديه من خلال الكشف عن خطط لتنظيم مناطق «السكن العشوائي» المحيطة بمدينة دمشق وفق القانون رقم 10.
وكشفت محافظة دمشق الشهر الماضي عن خطة زمنية لوضع دراسات خاصة بمناطق «السكن العشوائي» المحيطة بالمدينة، ومن ثم إعادة تنظيمها وفق القانون رقم «10» الذي صدر بداية العام الحالي. ويجيز إحداث منطقة تنظيمية أو أكثر ضمن المخطط التنظيمي العام للوحدات الإدارية، والذي جاء تطويراً للمرسوم 66 الصادر عام 2012 والقاضي بتنظيم منطقتين عشوائيتين ضمن دمشق وهما «بساتين المزة» و«كفر سوسة».
تتضمن الخطة، بحسب الإعلام الرسمي، في مرحلتها الأولى التي ستنتهي العام المقبل، وضع دراسة تنظيمية لأحياء «القابون الصناعي»، و«برزة»، و«عشر الورور»، و«جوبر» شمال شرقي العاصمة، حيث سيتم «هدم المناطق المخالفة (العشوائية) ومنح أصحاب الشقق والأراضي أسهماً في المنطقة، ليصار إلى تنظيمها كمناطق أبراج سكنية.
سيتم في المرحلة الثانية الممتدة من 2019 – 2020، وضع دراسة لمناطق «التضامن» و«دف الشوك» و«حي الزهور» الواقعة جنوب شرقي العاصمة ومنطقتي «الزاهرة» و«نهر عيشة» جنوب غربي العاصمة، بينما تشمل الثالثة مناطق «قاسيون» و«مهاجرين» و«معربا»، وسيتم وضع الدراسة الخاصة بها ما بين 2020 - 2021، على حين سيتم في المرحلة الرابعة الممتدة ما بين 2021 و2022 وضع دراسة لمنطقتي «الدويلعة» و«الطبالة»، وفي الخامسة منطقتي «مزة 86» و«مخالفات دمر» ما بين 2022 – 2023، والسادسة «استملاك المعضمية» ما بين 2023 - 2024.
يلاحظ من إعلان محافظة دمشق السابق، أن المناطق والأحياء التي تشملها الخطة، منها ما كان بالكامل تحت سيطرة فصائل المعارضة المسلحة، وأخرى كانت المعارضة تسيطر على أجزاء منها، وبعضها كان بالكامل تحت سيطرة النظام، وقاتل كثير من سكانها إلى جانب النظام ضد فصائل المعارضة.
نصف السكان في عشوائيات
والعشوائيات أو سكن المخالفات هي مناطق غير منظمة، أنشئت بلا تراخيص، وتطورت مع الوقت من دون أن تحظى بخدمات نظامية من شبكات ماء وصرف صحي وخطوط توتر عالي، بالإضافة إلى عدم وجود حدائق وشوارع عريضة ومراكز ثقافية وظروف الحياة اللائقة الأخرى فيها.
وتشير الأرقام إلى أن نسبة السكن العشوائي تصل إلى ما يعادل نصف السكن الإجمالي في سوريا، ويتوزع على 147 منطقة، جرى بناؤها منذ عقود من قبل الفقراء الذين لفظتهم المدن إلى أطرافها، مروراً بموجات الهجرة من الأرياف القريبة المترافقة مع تدهور قطاع الزراعة، وصولاً إلى الخروج الكبير بعد موجة الجفاف الأخيرة التي ضربت عمق الريف السوري في منتصف العقد الماضي. وبحسب المكتب المركزي للإحصاء التابع للنظام لعام 2007، فإن 46 في المائة من سكان مدينة دمشق يقيمون في «مناطق المخالفات» أو ما اصطلح على تسميتها بـ«أحزمة الفقر»، ويصل عددهم إلى ما يقارب 700 ألف نسمة، غير أن هناك أرقاماً متداولة غير رسمية توصلها إلى 2.5 مليون في دمشق وريفها، علما أن سكان مدينة دمشق قبل اندلاع الأحداث في البلاد وصل إلى نحو 4 ملايين نسمة، بينما يشير متابعون إلى أن العدد وصل إلى أكثر من 6 ملايين بعد موجات النزوح التي حصلت خلال سنوات الحرب.

ألوان طائفية
وبينما تشير الأرقام إلى وجود 18 منطقة سكن عشوائي في مدينة دمشق تنتشر في محيطها، يلاحظ أن سكانها متعددو المنابت الدينية (مسلمون ومسيحيون) والمذهبية (سنة وعلويون ودروز) والقومية (عرب سوريون وفلسطينيون وأكراد مسلمون). ولكن وسط هذا تتلون كثير من المناطق بألوان طائفية صافية، حيث يتركز المسيحيون في عشوائيتي «الدويلعة» و«الطبالة» والعلويين في «مزة 86» و«عش الورور» و«حي الورود»، في حين تتركز الغالبية السنية في منطقة مخالفات «جوبر»، و«برزة البلد» و«بساتين المزة» وصولا إلى «كفرسوسة اللوان»، و«الدحاديل» و«بيادر نادر» و«نهر عيشة» و«القدم» و«العسالي» و«دف الشوك» و«الزهور».
وعلى حين يقطن الأكراد في عشوائية «حي الرز» أو ما يعرف بـ«زورافار» على تخوم مشروع دمر، يسكن عشوائية «التضامن» خليط ديني وطائفي وقومي من سنة وعلويين ودروز وسوريين ولاجئين فلسطينيين.

الفساد سبب قيامها
وتنامت هذه العشوائيات بسرعة ملحوظة خلال العقود الماضية، حيث كان موظفو البلديات والمحافظة يتقاضون رشى مالية كبيرة من الأهالي مقابل السماح لهم ببناء المنازل في تلك العشوائيات، مما أدى إلى تكوين هؤلاء الموظفين ثروات كبيرة.
ويرى مراقبون، أن النظام شجع على تشكيل بؤر سكانية عشوائية تحيط بالقطع والوحدات العسكرية القريبة من دمشق، يكون تكوينها الأساسي من عائلات الضباط والعساكر الذين يؤدون مهماتهم فيها، مع حرصه على المحافظة على الظروف المعاشية السيئة لمناطقهم الأصلية، وتهميشها وتجهيلها قدر الإمكان، لأغراض قد تتعلق بإبقائها كتلاً بشرية صماء غير قابلة للانفتاح على الآخر، مما يضمن استمرار السيطرة عليها، ويحفظ ولاءها عبر استدامة الخوف فيها من الآخر المتوهَّم.
ويلفت هؤلاء المراقبون إلى أن «مساكن الحرس» و«مزة 86» و«عش الورور» وغيرها ظلت مناطق مغلقة للموالين، وأصبحت لاحقاً المورد البشري الأهم للمسلحين من «الشبيحة»، الذين نجح النظام في تجنيدهم معه، ضمن سياق الحرب.

«التضامن» و«دف الشوك» و«الزهور»
تقع أحياء «التضامن» و«دف الشوك» و«الزهور» جنوب شرقي المدينة، ويعتبر الأول بوابة العاصمة الجنوبية الفاصلة بين المدينة وريفها، ويحده شمالا الثاني والثالث، ومن الغرب «مخيم اليرموك» للاجئين الفلسطينيين وشرقا وجنوبا بلدة يلدا.
وبقي حيا «دف الشوك» و«الزهور» ومنطقة «الزاهرة» خلال الحرب المستمرة في عدد من مناطق البلاد منذ أكثر من سبع سنوات تحت سيطرة النظام، ويحد الأول والثاني من الجنوب حي «التضامن» وغربا منطقة «الزاهرة» وشرقا حي القزاز وشمالا الجسر المتحلق الجنوبي.
لكن فصائل المعارضة المسلحة تمكنت في العام الثاني من الحرب من السيطرة على الجادات الجنوبية من حي «التضامن» إلى أن استعاد النظام السيطرة عليها بداية صيف العام الحالي مع أحياء دمشق الجنوبية (مدينة الحجر الأسود، ومخيم اليرموك، والجزء الشرقي من حي القدم) التي كانت تحت سيطرة المعارضة وتنظيمي «داعش» و«هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقا).
وبحسب الأرقام، كان أعداد قاطني حي «التضامن» قبل بداية الحراك السلمي تقدر بـ200 ألف يشكلون نسيجاً اجتماعياً متفاوتاً في العادات والتقاليد، فجل سكانه من نازحي هضبة الجولان العرب والتركمان، ومن محافظات السويداء وإدلب ودير الزور ودرعا واللاذقية وطرطوس، إضافة إلى قسم لا بأس به من اللاجئين الفلسطينيين.
وشكل المنحدرون من محافظات درعا ودير الزور وإدلب، الذين كانوا يتجمعون في الجادات الجنوبية من الحي، وتقدر مساحتها بأكثر من نصف مساحة الحي، نواة الحراك السلمي في عامه الأولى، في وقت يوجد في الجزء الشمالي المقابل شوارع الجلاء ونسرين والغفاري على التوالي، والتي يوجد فيها أيضاً تنوع في النسيج الاجتماعي للسكان، لكن تسليح النظام للموالين جعل لهم سطوة كبيرة على باقي السكان من الطوائف الأخرى، ليبقى هذا الجزء من الحي تحت سيطرتهم.
وبعد استعادة النظام السيطرة بشكل كامل على الجادات الجنوبية من الحي تدفق الأهالي إليها لتفقد منازلهم وحاجاتهم، وينقل نشطاء عن كثير من الأهالي، بأن أغلب المنازل الواقعة في القسم الغربي من الجزء الجنوبي من الحي طالتها أضرار بسيطة ويمكن ترميهما، وتقدر نسبتها بأكثر من 80 في المائة من نسبة كامل المنازل في الجزء الجنوبي، بينما المنازل الواقعة في القسم الشرقي طالتها أضرار كبيرة وهي مدمرة بشكل شبه كامل.
وفي يوليو (تموز) الماضي شكل محافظ دمشق بشر الصبان، لجنة لتطبيق القانون رقم «3» لعام 2018 في الجادات الجنوبية من الحي والمتضمن إزالة الأنقاض وإعادة تدويرها وتحديد المباني الصالحة للسكن والمباني المتضررة غير الصالحة للسكن.
وفوجئ في أواخر سبتمبر (أيلول) الماضي، الأهالي النازحين من الجادات الجنوبية والذين ينتظرون بفارغ الصبر السماح لهم بالعودة إلى منازلهم، بمضمون قرار اللجنة الذي صادق عليه المحافظ وخلص إلى أن 690 منزلا صالحة للسكن ويمكن للأهالي العودة إليها ريثما يتم تنظيم كامل منطقة التضامن وفق القانون رقم «10»، الأمر الذي قد يستغرق من 4 - 5 سنوات.
وذكر رئيس اللجنة فيصل سرور الذي أعلن عن مضمون القرار عبر صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، أن باقي البيوت في الجزء الجنوبي من الحي غير صالحة للسكن، ولا يمكن ترميمها في الوقت الحالي، ويقدر أهالي عددها بأكثر من 8 آلاف منزل.
وفيما يعتبر تجاوزا للخطوط الحمراء، وسابقة لم تحصل في سنوات الحرب والعقود الماضية، شن النازحون من القسم الجنوبي من الحي هجوما عنيفا على المحافظة واللجنة ورئيسها، وذلك عبر صفحات موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» الخاصة بهم، وتعليقات في صفحات مؤسسات النظام، وصفوا خلالها التقرير بأنه «غير صحيح»، وشككوا بنزاهة اللجنة، وطالبوا بإلغاء التقرير وإحالة اللجنة إلى التحقيق ومحاسبتها.
وجاء في تعليق لأحد النشطاء: «نناشد رئيس الجمهورية الدكتور بشار الأسد لإنصافنا... ربحنا الحرب وخسرنا حق العودة لمنازلنا... أهالي التضامن تستنجد كل ضمير حي من أصحاب القرار الذي هجر 200 ألف شخص».
ولم يقتصر الأمر على تصدر قضية حي «التضامن» مواقع التواصل الاجتماعي، فقد كان لافتا تركيز وسائل إعلام النظام والقريبة منه المرئية والمسموعة على خطط المحافظة لتنظيم مناطق «السكن العشوائي» وخصوصا قضية منع أهالي حي «التضامن» من العودة، وذلك عبر الكثير من البرامج أبدى مقدموها تعاطفا مع الأهالي لأن «أغلبهم عمال وفلاحين وموظفين فقراء ومتطوعين في الجيش والشرطة ووقفوا مع الدولة وكيانها خلف الجيش وقدموا شهداء وجرحى».
وتم خلال كثير من تلك البرامج استضافة رئيس اللجنة لتقديم توضيحات عن الأمر، بينما رد عليه كثير من المداخلين بالتأكيد على أن تقرير اللجنة «غير صحيح» وعملها «غير نزيه».
كما، نشرت جريدة «الوطن»، المقربة من دوائر صنع القرار بدمشق عدة تقارير حول تقرير اللجنة ومطالبات الأهالي بالعودة إلى منازلهم، ونقلت عبرها استنكارهم وتنديدهم بالقرار، وأكدت أنها اطلعت على قائمة تضم آلاف التوقيعات ممن يعترضون على قرار المحافظة من نازحي الحي، وعلى عمل اللجنة المكلفة.
ولفتت «الوطن» إلى أن عشرات من المحامين الذين هم من نازحي الحي وغير أهالي الحي تبرعوا للترافع في القضية أمام القضاء، سيما وأن القانون يعطي للمتضرر حق الاعتراض خلال أسبوعين من تاريخ إعلان القرار.
أحد النازحين من الحي ويقيم حالياً في ريف العاصمة الغربي يقول لـ«الشرق الأوسط»: «ذهبنا إلى منازلنا أكثر من مرة وجلنا في معظم الحارات. ما جاء في التقرير غير صحيح إطلاقاً. سرور يتحجج بأن هناك أنفاقاً تحت المنازل. هو يكذب»، بينما يقول آخر، وهو في العقد الخامس من العمر: «يريدون الإجهاز على المذبوحين أصلاً. يريدوننا أن نبقى في التشرد لعشرات السنوات. ربما لن نعيش حتى نرى سكنهم البديل».
وإن كان نازحو الجادات الجنوبية من حي «التضامن» كسروا حاجز الخوف وعبروا عن استنكارهم وتنديدهم بقرار اللجنة، فإن الصمت هو سيد الموقف في القسم الشمالي من الحي الذي ما زال سكانه يعيشون في منازلهم، وكذلك في حيي «دف الشوك» و«الزهور»، لكن الموقف لم يخلو من طفرات ترد على ألسنة البعض من السكان، ونقلتها عنهم مصادر أهلية وفحواها أن: «هذه مكافآت لنا في مقابل ما قمنا به خلال الحرب!»، في إشارة إلى وقوفهم إلى جانب جيش النظام في مواجهة فصائل المعارضة المسلحة.

«جوبر» و«الدويلعة» و«الطبالة»
يقع حي جوبر في شمال شرقي دمشق، بين أحياء «باب توما» و«القصاع» و«التجارة» غرباً و«القابون» شمالاً وبلدتي «عين ترما» و«زملكا» شرقاً وبلدة «عين ترما» ومنطقة الدويلعة» جنوباً، ويبعد سبعة كيلومترات من القصر الجمهوري الرئاسي، وهو من أقرب الأحياء إلى ساحة العباسيين بدمشق.
ويعتبر الحي البالغة مساحته كيلومترين وثمانمائة وستين مترا، بوابة الغوطة الشرقية إلى مدينة دمشق وهو شريان اقتصادي لها بما فيه من تعدد مجالات العمل من مهن شعبية وحرفية وطبية وتجارية وصناعات صغيرة. وطبقا لإحصائية رسمية صدرت عام 2008؛ فإن عدد سكان الحي بلغ آنذاك نحو ثلاثمائة ألف نسمة معظمهم من المسلمين السنة.
وعندما انطلقت شرارة الأحداث في سوريا كان حي جوبر أحد الأحياء الأولى التي احتضنت مظاهرات الريف الدمشقي في نهاية (أغسطس (آب)) 2011، وقد هتف المتظاهرون يومها بإسقاط النظام أثناء توجههم إلى ساحة الأمويين، لكن سرعان ما قابلهم رجال الأمن بإطلاق النار والغازات المدمعة مما أوقع قتلى وجرحى في صفوفهم.
وسيطرت فصائل المعارضة المسلحة لاحقاً على الحي في منتصف 2013، وتحول بعد ذلك إلى ساحة جبهة تمتد على القسم الأهم من الطريق الدائري الجنوبي باعتباره إحدى الجبهات المتقدمة باتجاه العاصمة، كما قصفت قوات النظام الحي بالغازات السامة عدة مرات فقضى خلالها العشرات نحبهم بالاختناق.
وصعد النظام قصفه الجوي والمدفعي اليومي من جبل قاسيون على حي جوبر بكل أنواع الأسلحة، في حملة عسكرية مكثفة استخدم فيها صواريخ «الفيل» و«الزلزال» والقنابل الفراغية والعنقودية وغيرها، ليمنع أي تقدم لقوات المعارضة في سبيل تأمين العاصمة وليتمكن من فرض طوق حصار جديد على الغوطة الشرقية.
وبعد سيطرة النظام على الحي بداية الصيف الماضي، اتضح أن نسبة الدمار فيه تصل إلى 80 في المائة، بدءا من تدمير أسواقه ومبانيه وليس انتهاء بمساجده ومدارسه. وقد أصبح منطقة مهجورة ومنكوبة يصعب على أهلها تأمين قوتهم.
وأما منطقة الدويلعة فتقع إلى الجنوب الشرقي من المدينة وترتبط بريف دمشق بمدينة جرمانا ومخيمها وحي كشكول من الشرق والجنوب الشرقي وباب شرقي من الغرب والغوطة مع حي جوبر من الشمال، أغلب سكانها من المسيحيين المنحدرين من مناطق متفرقة من سوريا، ويتبع لها أحياء «كشكول» و«الطبالة» و«الكباس»، ولا يوجد تقديرات دقيقة لعدد سكانها.

«القابون» و«برزة البلد» و«عش الورور»
يقع حي القابون في شمال شرقي العاصمة، ويبعد عن مركز المدينة 4 كلم في منطقة مهمة بين الغوطة شرقا (بلدتي عربين وحرستا) والمدينة غربا (أراضي الصالحية)، ويجاور أحياء برزة من الشمال وجوبر من الجنوب، ويخترقه الأوتوستراد الدولي السريع (طريق دمشق - حمص) وعقدة طرقية مهمة (عقدة القابون)، وفي الحي كراج انطلاق ووصول باصات البولمان فلذلك يعتبر الحي بوابة دمشق الشمالية.
ويقدر عدد سكان القابون بأكثر من 80 ألف نسمة أغلبهم من المسلمين السنة، وعرفوا برفضهم للذل وشاركوا في مقارعة الاستعمار حتى أن فرنسا قصفته بالطائرات وقدم كثير من الشهداء لتحرير سوريا من فرنسا.
ويعتبر القابون شرارة الثورة السورية في دمشق فكان مع حي «برزة» أول الأحياء التي خرجت في مظاهرات منتظمة وشهدت حراكاً سلمياً ابتداء من 25 (مارس) 2011، وقدم مئات الشهداء منذ شهر أبريل (نيسان)) 2011 حيث كان الأهالي يخرجون في مظاهرات سلمية تواجهها قوات الأمن بإطلاق الرصاص واعتقال الشبان ويستهدفها القناصة.
وسيطر «الجيش الحر» في (سبتمبر) 2012 على حي القابون ودارت معارك عنيفة بينه وبين جيش النظام وحلفائه حتى مايو (أيار) 2017 حيث سيطر الأخير على الحي بعد تهجير ساكنيه إلى شمال البلاد.
وعلمت «الشرق الأوسط»، أن النظام وخلال معاركه الأخيرة مع المعارضة و«هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقاً) في حي القابون أرسل ضابطاً رفيع المستوى إلى الحي للتفاوض مع الأهالي وخيرهم بين الرضوخ لمطالبه أو إزالة الحي، إلا أن الأهالي رفضوا الرضوخ لمطالب النظام، مما يشير إلى أن إدراج الحي في خطة المحافظة لإعادة تنظيمه، هو انتقام من الأهالي وليس لمعالجة السكن العشوائي في محيط العاصمة. وخلال اجتماع ضم صناعيي القابون وممثلين عن محافظة دمشق ووزارة الإدارة المحلية التابعة للنظام مؤخرا، رفض الصناعيون قرار المحافظة القاضي بنقل منشآتهم الصناعية من المنطقة الصناعية إلى مدينة عدرا في ريف دمشق، تحت ذريعة الدمار الذي لحق بتلك المنشآت، بحسب ما ذكرت وسائل إعلام محلية.
وتزعم محافظة دمشق، أن المنطقة الصناعية في القابون تضررت بنسبة 80 في المائة، إلا أن الصناعيين كشفوا، خلال لقائهم مع مسؤولي المحافظة، أن نسبة الدمار لا تتجاوز 10 في المائة، وذلك بالاستناد إلى تقييم نقابة المهندسين ووزارة العدل في حكومة النظام.
أما منطقة «برزة»، فهي تمتد على مساحة 5500 هكتار، بدءاً من مشفى «ابن النفيس» غرباً حتى مشفى «تشرين العسكري» شرقاً، ومن بلدة معربا، التي تعتبر الحد الفاصل بين برزة ومدينة التل شمالاً، وحتى نهر يزيد جنوباً، الذي يفصل بين بساتين القابون وبساتين برزة.
وتقسم «برزة» إلى عدة أحياء هي: برزة البلد - مساكن برزة - مسبق الصنع - حي تشرين - عش الورور.
ومع بدء الأحداث في البلاد، شهدت «برزة» أحداثاً كثيرة انتهت بسيطرة فصائل المعارضة المسلحة على حي «برزة البلد» في السنة الثانية للحرب، وظلت المعارك العسكرية تدور بين الفصائل وجيش النظام وحلفائه حتى تمكن الأخير من استعادة السيطرة عليه عقب حصار خانق امتد عدة سنوات. وإن كان عدد سكان «برزة» وفق إحصاءات 2005 يبلغ نحو 90 ألف نسمة، إلا أنها حالياً تعتبر من أكثر مناطق دمشق كثافة سكانية بالمقارنة مع المناطق المنظمة والعشوائية، ويصل بحسب مراقبين إلى نحو 700 ألف نسمة.
وعلى النقيض من أهالي القابون و«برزة البلد» الذين انخرطوا في الحراك السلمي، وقف أهالي حي «عش الورور» الواقع شمال شرقي حي «برزة البلد» على سفح جبل صخري إلى جانب النظام، فمنذ المظاهرات الأولى في «برزة البلد» راح أهالي «عش الورور» يهاجمونها، مزوّدين بالعصي والسكاكين والمسدسات والبنادق ليقمعوا السكان.
وبينما يصف أهالي «برزة البلد»، حي «عش الورور» بأنه «مستوطنة حقيقية»، يشكل العلويون النسبة العظمى من سكانها الذي يصل عددهم إلى نحو 100 ألف نسمة حاليا، ينقل نشطاء عن أهالي في «عش الورور»: أن التنظيم الذي تنوي محافظة دمشق إجراءه «لن يحدث قبل عشرات السنين، فلطالما سمعنا عن التنظيم من قبل وحتى الآن لم يحدث، والآن يكررون ما قالوه في السابق ليس إلا، وحتى لو حدث لن نسمح بأن يطال منطقتنا».

«المزة 86» و«مساكن الحرس»
تعتبر منطقة «المزة 86» من المناطق الشعبية في محيط مدينة دمشق، وهي عبارة عن مناطق من البناء العشوائي تنتشر على الجهة الغربية الجنوبية للمدينة على سفح جبل المزة، وكانت قبل سبعينات القرن الماضي عبارة عن أحراش وصخور وأراضٍ زراعية تعود ملكيتها إلى أهالي المزة، أما قمة الجبل المُمتدّة حتى سلسة جبل قاسيون والأراضي المتاخمة له، فتعود لوزارة الدفاع، يحدها جنوباً المزة أوتوستراد وغرباً مزة فيلات وشمالاً جبل قاسيون وشرقاً الشيخ سعد.
وبعد أن أسس رفعت الأسد، الشقيق الأصغر للرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، «سرايا الدفاع» وأطلق عليها «اللواء 86» كان مقره نفس المكان الذي يطلق عليه الآن «مزة 86»، سمح في البداية لبعض ضباطه وعناصره ببناء غرف صغيره لإيوائهم، وكانت وقتها مبنية من اللبن والصفيح، ومع مرور الزمن أحضر هؤلاء العسكريون عائلاتهم من قراهم الساحلية، وأصبحت فيما بعد منطقة سكنية ذات طابع عسكري.
وتقسيم المنطقة إلى «مزة 86 مدرسة» و«مزة 86 خزان»، الأولى نسبة لأول مدرسة فتحت في تلك المنطقة، أما الثانية فأطلق عليه اسم «مزة 86 خزان» بعد بناء خزان للماء يروي كل مناطق المزة.
وبينما كان عدد سكان «المزة 86» في بداية الأحداث يقدر بـ300 ألف نسمة، ذكر رئيس اللجنة تطبيق القانون رقم «3» في حي «التضامن» أن عدد سكانها يصل إلى مليون نسمة.
ومع اندلاع الأحداث في منطقة «المزة بساتين» ومدينتي «داريا» و«المعضمية» بريف العاصمة الجنوبي الغربي والقريبة من حي المزة انحاز أهالي «المزة 86» للنظام، وشكلوا ميليشيات تخصصت بتصدير «الشبيحة» إلى المعضّمية وداريا و«مزّة بساتين» بينما تكفّلت ميليشيات «حي الورود» و«مساكن الحرس» الواقعة غربي دمشق بقمع الحراك الشعبي في «دمر البلد» وبلدتي «قدسيا» و«الهامة» بريف العاصمة.
ومنذ قيام منطقة «المزة 86»، لوحظ تمرد الأهالي على النظام، حيث كانوا يدخلون مواد البناء إلى المنطقة «عنوة» رغم منع النظام لذلك وإقامته حواجز على مداخل المنطقة لهذا الغرض.
ويتساءل مراقبون: هل يستطيع النظام دخول «المزة 86»؟. وإن دخل هل سيقف الأهالي مكتوفي الأيدي متفرجين؟، ويقول هؤلاء المراقبون: من «المتوقع أن يجابه الأهالي الأمر».
وفي إطار عمليات التغيير الديموغرافي التي يقوم بها النظام السوري لإعادة توزيع السكان، قررت الحكومة في (يوليو) الماضي تشميل «مخيم اليرموك» للاجئين الفلسطينيين جنوب دمشق، بالقانون رقم «10»، بعد تدميره خلال حملة عسكرية ومعارك وقصف، مما يعني مصادرة أملاك معارضين ومواصلة تشريد سكانه البالغ عددهم أكثر من 600 ألف نسمة لسنوات طويلة.



أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
TT

أهالي غزة بين ثالوث الجوع والفقر والمرض... والعالم يحصي «العقود الضائعة»

طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)
طفل يجمع الخردة من مكبّ جنوب غزة (أ.ف.ب)

بين مجاعة وشيكة، وفقر مدقع، وأمراض لا تذر كبيراً ولا صغيراً، يقع سكان قطاع غزة محاصرين بين ثالوث شر لا يرحم، وقوات عسكرية لا تملك أي إنسانية.

وبعد نحو 14 شهراً من المأساة، يرى شهود عيان أن مَن مات في القطاع استراح، أما من عاش، فهو يحيا تجربة الاقتراب من الموت كل لحظة؛ سواء من القصف، أو من الجوع والمرض والفقر. تحدثت «الشرق الأوسط» إلى كثير من أهالي القطاع المحاصر والنازحين والمسؤولين الأمميين للوقوف على واقعهم اليوم.

يتذكر محمد، وهو اسم مستعار طلب محدِّثنا استخدامه، كأغلب النازحين الذين فضلوا عدم تعريفهم خشية تعرضهم لمشكلات، أيامه قبل الخروج هرباً من القطاع في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، فيقول: «كنا نسمع في أجواء الحي القصف ليلاً، وصفير القذائف المتوالية بينما تسقط قبل انفجارها، لنجلس طوال الليل نحاول أن نعرف أين سقطت ومن مات... ثم نصحو لنخرج جميعاً إلى الشوارع من أجل معرفة الحقيقة، وعزاء أسر الضحايا، وتهنئة من لا يزال حياً».

وبدوره يروي إياد، لـ«الشرق الأوسط»، معاناة عائلته في غزة بعدما اضطر لتركهم خلفه، فيقول باكياً: «تحدث معي إخوتي وقالوا لي، لديك فرصة للخروج من غزة إلى مصر، اذهب ولا تقلق علينا ولا على أمك وأخواتك البنات، فالبقاء هنا لن يعني إلا أن نموت جميعاً. على الأقل يمكنك من هناك إرسال بعض المال لإعانتنا، أو حتى تقدر أن تسحبنا خلفك إلى مصر... وعلى الأسوأ، إذا متنا نجد أحداً يدفننا».

الهروب إلى الأمام

الدكتور محمد أبو دوابة، محاضر أكاديمي في الجامعات الفلسطينية وباحث في المجال النفسي والاجتماعي، تحدث إلى «الشرق الأوسط» عن وجهة نظره في ما يعانيه سكان غزة كأكاديمي عاصر جزءاً كبيراً من الأحداث على الأرض، وقال: «العوامل في قطاع غزة متداخلة، ولا يمكن الفصل بين الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والحلول المتاحة أصبحت لا تكفي لمشكلات الناس. وفي علم الاجتماع، عندما تكون هناك مشكلة وأنت في وسطها وتتحرك معها، فتراها من منظور... لكن إذا خرجت خارج الصندوق، تجد حالك تراها وأنت ثابت بشكل مختلف تماماً، وتشعر بالمعاناة التي يعانيها أهل غزة».

ظاهرة أخرى غريبة رصدها أبو دوابة وقال إنه يحاول دراستها، فقد لاحظ أن أهالي غزة ممن لديهم أولاد أو بنات صاروا يُقبلون على تزويج أبنائهم بكثافة، لا من أجل الفرح –«وهو إحساس قُتل عند الجميع»- حسب تعبيره؛ بل كنوع من أنواع تخفيف المسؤولية. فأهل البنت يريدون أن تدخل تحت غطاء الحماية الاجتماعية لزوجها، وأهل الولد يريدون أن يستقل عنهم.

ويتابع أبو دوابة: «لم يعد الزواج يمارَس بوصفه امتداداً ونواة للمجتمع لبناء الأسر، لكن هنا صار الوضع كله هروباً من الظروف الاقتصادية وتخفيف الأعباء على الأسر، فالوضع الاقتصادي ضرب نسيج المجتمع في مقتل. وفي العالم كله كلمة زواج تعني الفرح والسعادة والمستقبل والخلفة، فيما أهل غزة لا تمكنهم إقامة أفراح، ففي كل عائلة أكثر من شهيد وحالات ممتدة من الحداد، والفقر يحاصرهم من كل جانب».

أبرز القطاعات المتضررة في غزة (الشرق الأوسط)

ولادة تحت القصف

تجربة أخرى مريرة ترويها عزة، التي تقول إنها كانت في شهور الحمل الأخيرة وكان من المقرر أن تسافر مع زوجها قبل اشتعال الأزمة، لكن كل شيء تغير بعد بدئها.

تروي عزة: «تجربة آخر شهرين في الحمل كانت صعبة جداً في الحرب بسبب عدم توفر الغذاء الصحي للحامل وعدم وجود غاز الطهي، وأغلب الوقت شغالين على نار الحطب، وطبعا دخان كثير وكنت خايفة جداً على الجنين من دخان النار... والأكل اللي كان متوفر إما مكرونة أو عدس، ولو عاوزين حاجه دافية في البرد نشرب شاي من دون سكر».

وتواصل عزة شهادتها لـ«الشرق الأوسط»، فتقول: «وقت الولادة كان الاتصال مقطوعاً عن غزه كلها، ما فينا نكلّم الإسعاف لو صار وجع ولادة، وحتى سيارات الإسعاف كانت تُستهدف كثيراً... ولا فينا نطلع بالسيارة لأنه لا يوجد بنزين. وأي شخص عنده سيارة ومتوفر فيها بنزين كان يخاف يطلع ويخاطر بحياته لأنه بيتم قصف السيارات المدنية. وقتها بيتي كان بعيداً عن المستشفى وكان أفضل حل أروح بيت أهلي القريب نوعاً ما للمستشفى».

لكن لسوء الحظ تم إبلاغ المربع الذي يسكن فيه أهل عزة بالإخلاء، لأن الجيش الإسرائيلي سيتدخل برياً، فنزحت هي وأهلها مجدداً إلى بيتها. ومن شدة الرعب، لم تداهمها آلام الولادة، فذهبت إلى المستشفى للكشف، ليكتشفوا أن حالة الجنين ليست مطمئنة، فحجزوها 3 أيام لحين الولادة.

تقول عزة: «خلال هذه الأيام الثلاثة لم يكن هناك من غذاء سوى الحلاوة التي تدخل من خلال المساعدات. وضُرب المستشفى بقذيفة دبابة، لكنّ الله سلَّم. وعُدتُ إلى البيت لأجد أمراً آخر بالإخلاء، لم يكن أمامنا من خيار سوى الذهاب إلى المخيمات بابنتي حديثة الولادة... حيث البرد القارس، والأمطار تبلل كل شيء داخل الخيمة. ولا طعام إلا وجبة واحدة مكونة من نصف رغيف خبز، ومياه الشرب قليلة ولا يحبذ الشرب بعد الساعة السادسة مساءً لأنه غير مسموح بمغادرة الخيمة للحمامات مساءً... كل هذا أدى في النهاية لعدم تمكني من إرضاع طفلتي بشكل طبيعي، واضطررت لاستخدام الحليب الصناعي، الذي كنت أشك في صلاحيته بالأساس لكونه يباع في الشارع؛ لكن لم يكن أمامي أي خيارات».

أما بالنسبة للملابس، فتقول عزة إن سكان القطاع يتعاونون في توفير ملابس الأطفال المستعملة بعضهم لبعض، فيما كانت تضطر لإبقاء على حفاظة ابنتها لأكثر من 10 ساعات كونها غير متوافرة. وتضيف: «أساساً موضوع الصحة آخر ما يمكن أن تفكر فيه في المخيمات... الاستحمام متاح مرة كل أسبوعين، وغسيل الملابس باليد على شاطئ البحر، وطبعاً شيء مثل الفوط الصحية النسائية تَرَفٌ غير موجود من الأساس».

نساء بطلات و«قلة حيلة»

وضع النساء -بصورة خاصة- المأساوي، دفع «الشرق الأوسط» إلى التوجه إلى الدكتور معز دريد، المدير الإقليمي لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، الذي أوضح وجود أكثر من 155 ألف امرأة حامل أو مرضع داخل قطاع غزة حالياً، أغلبهن لا يجدن رعاية كافية بما يؤدي إلى تفاقم خطورة الأوضاع الصحية، وبينما تحاول الهيئات الأممية بكل السبل إيجاد وسائل لدعمهن ودعم غيرهن، إلا أنها تقف «قليلة الحيلة» في ظل الحصار ومنع دخول المساعدات، خصوصاً بعد حظر «أونروا» من ممارسة دورها، والتي كانت تعد العمود الفقري الأساسي للمؤسسات الأممية كافة داخل القطاع، ودورها بلا بديل ولا يعوَّض.

سيدة فلسطينية تُطعم طفلها وسط الأنقاض في منطقة نهر البارد جنوب قطاع غزة (أ.ف.ب)

وقال دريد: «الوضع كارثي، وعدد القتلى في غزة منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 يناهز حالياً 45 ألف شخص، وهذا يعادل 6 أضعاف عدد القتلى خلال مجمل الأعوام الـ15 التي سبقت الأحداث الحالية. كما أن التركيبة الديمغرافية لهؤلاء الضحايا شهدت تغيراً فارقاً، إذ إن 70 في المائة منهم من النساء والأطفال، بعكس كل الأحداث والأعوام الماضية، مما يؤكد زيادة الاستهداف الأعمى للسكان دون التفرقة بين المدنيين وغيرهم... وهذا المعدل يساوي قتل ما يناهز 3 من السيدات والأطفال في كل ساعة يومياً منذ بداية الحرب!».

وأكد دريد أن بعض الأسر نزحت أكثر من 10 مرات من أجل الهرب من الضربات، ولا يوجد مكان آمن في غزة، والخدمات غير متوفرة، والأوضاع في غاية السوء.

وحول المساعدات التي تقدمها هيئة الأمم المتحدة للمرأة في غزة، أوضح دريد أنها قدمت مساعدات غذائية ونقدية لنحو 75 ألف امرأة وأسرهن، «من بينهن 14 ألف امرأة مسؤولات بالكامل عن أسرهن نظراً لغياب أي عائل لأسباب الوفاة أو الاعتقال أو خلافه، إضافة إلى برامج الدعم النفسي والاجتماعي. كما تتعاون الهيئة مع منظمات فلسطينية في غزة تقودها النساء، واللاتي نثمن ونقدر دورهن وصمودهن في ظل الأوضاع والصعاب الحالية».

وأفاد دريد بأن المساعدات التي تصل إلى مستحقيها شحيحة جداً، ليس بسبب قلة التمويل أو تقاعس مقدمي الدعم، ولكن بسبب العوائق التي تفرضها قوى الاحتلال، وغياب القدرة على تأمين هذه المساعدات القليلة التي تعبر إلى داخل القطاع، وهو أيضاً ما يقع تحت مسؤولية قوة الاحتلال وفقاً للقانون الدولي.

وبعد نحو 14 شهراً من الحرب، يؤكد دريد أنه مع مستويات الفقر والبطالة والدمار الهائلة في غزة، ومع فقدان العائل الأساسي لنحو 8 آلاف من الأسر، تشير التحليلات إلى أن النساء فقدن روافد الدخل ومصادر الرزق بشكل فائق... ومع توحش التضخم، أصبحت حالة هؤلاء النساء مأساوية.

تجريف وجوع

وفي ظل الأوضاع المأساوية التي يعيشها أهالي القطاع، حاولت بعض القرى أن تلجأ إلى زراعة احتياجاتها الغذائية، بل نجح أهالي جباليا وبيت لاهيا، على سبيل المثال، في تحقيق ما يشبه الاكتفاء الذاتي زراعياً... لكنَّ القوات الإسرائيلية اجتاحت الأراضي ودمرت البنية التحتية عمداً، بما يشمل الأراضي وقنوات الري وحتى مزارع الإنتاج الحيواني والسمكي، وذلك تحت ستار البحث عن الأسلحة والأنفاق، حسب شهادات شهود عيان وخبراء تحدثوا إلى «الشرق الأوسط»، إلى جانب فرض قيود على دخول البذور والأسمدة إلى القطاع.

رجل يختبئ خلف عمود فيما ينتشر الدخان والغبار نتيجة انفجار خلال غارة إسرائيلية استهدفت مدرسة في غزة (أ.ف.ب)

وعلى هامش إحدى الفاعليات الخاصة التي حضرتها «الشرق الأوسط» في القاهرة، قال عبد الحكيم الواعر، مساعد المدير العام والممثل الإقليمي لمنظمة الأغذية والزراعة في الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، إن «التحدي الأكبر للمنطقة العربية بشكل عام فيما يخص الأمن الغذائي هو الحروب والنزاعات، وخلال النزاعات المطولة والممتدة مثل الوضع في غزة، يوجد أثر كبير على قطاع الزراعة والغذاء».

وأضاف الواعر أن «ذلك يعود إلى عدة عوامل، أولها هجران الناس والمزارعين أراضيهم، مما يتسبب في خلل المنظومة الزراعية، خصوصاً أنهم في حالة نزوح دائم من منطقة إلى أخرى. وذلك بالإضافة إلى الدمار المباشر لهذه الأراضي، فقد جرى تدمير نحو 70 في المائة من الأراضي الزراعية في غزة، سواء بالضرب المباشر خلال العمليات العسكرية أو عبر التجريف، وتأثراً بحركة الآليات الثقيلة... كما نضبت الثروة السمكية تقريباً داخل القطاع منذ 7 أكتوبر 2023، والثروة الداجنة انتهت بالكامل لأنه لا توجد إمدادات، وبقي جزء قليل جداً من الثروة الحيوانية، الذي نحاول كمؤسسات دولية دعمه بالمدخلات الضرورية مثل العلف والتحصينات والمغذيات. وبالإضافة إلى ذلك لا توجد مصادر مياه أو غذاء آمنة ونظيفة ولا كافية، والمساعدات الغذائية شبه متوقفة».

وأكد الواعر أن «كل سكان» غزة أصبحوا للمرة الأولى يقعون تحت خطر التهديد بالجوع، حيث إنهم إمَّا يقعون في الفئة الخامسة (المجاعة) أو الرابعة (الكارثة)، وهي الفئة التي لا يتحصل فيها الإنسان على وجبة واحدة يومياً بصفة منتظمة.

مكان غير صالح للحياة

ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فلم يكفِ سكان قطاع غزة كل ما يمرون به، ليُنكَبوا بوقف إسرائيل دخول المساعدات الشحيحة بالأساس.

وحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، فإن وصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع يواجه عراقيل كثيرة، ومن أصل 423 حركة مساعدات إنسانية تم التنسيق لها مع السلطات الإسرائيلية في الفترة من الأول إلى 20 أكتوبر الماضي، تم تسهيل 151 حركة فقط، ورُفضت 189، وعطلت البقية. وفيما يتعلق بحركة وصول المساعدات إلى شمال القطاع، قال المكتب الأممي إنه تم تسهيل 4 حركات فقط من أصل 66 حركة مخططاً لها في ذات الفترة.

التأثير الاقتصادي والشرائح التي شملها هامش الفقر (الشرق الأوسط)

من جانبه، أكد عدنان أبو حسنة، المتحدث باسم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، أن هناك تراجعاً بالغاً في مستويات الأمن الغذائي في قطاع غزة، وأن الوضع في الجنوب «على أبواب مجاعة حقيقية»، فيما دخل الشمال مجاعة فعلية، ودخلت المنظومة الصحية بشكل عام مرحلة الانهيار. وأشار إلى تكرار رفض طلبات دخول المساعدات الغذائية والطبية إلى القطاع من جانب الحكومة الإسرائيلية. وضرب مثالاً بأن الأسبوع الأول من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) شهد مرور 37 شاحنة يومياً فقط، من بينها شاحنات مياه وأدوية وخيام، وذلك لخدمة 2.3 مليون ساكن للقطاع.

ولفت المسؤول الأممي، خلال «مائدة مستديرة» حضرتها «الشرق الأوسط» بمكتب الأمم المتحدة في القاهرة، إلى نقطة أخرى مهمة تؤكد معاناة سكان القطاع، إذ إن مئات الآلاف من السكان صاروا مصابين باضطرابات نفسية وعقلية نتيجة ما يمرون به من مأساة، حيث قدمت «أونروا» أكثر من 800 ألف استشارة نفسية في غزة خلال الفترة الماضية. كما حذر من أن المياه في غزة غير صالحة للشرب على الإطلاق، وكل المياه ملوثة ولا يمكن تنقيتها بعد تدمير منظومة الصرف الصحي تماماً.

حصار من كل الجوانب

وتشير أحدث تقارير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا)، والصادرة في شهر نوفمبر إلى أن مستوى الفقر في دولة فلسطين بشكل عام قفز إلى 74.3 في المائة في عام 2024، مؤثراً على أكثر من 4.1 مليون شخص، من بينهم 2.61 مليون يدخلون تحت هذا الخط للمرة الأولى. فيما تشير التقديرات إلى قفزة متوقعة لما يُعرف باسم «مؤشر الفقر متعدد الأبعاد» -الذي يقيس الفقر وفقاً لعدد من الأبعاد مثل مستوى المعيشة والوصول إلى الخدمات وغيرها- من 10.2 في المائة (وفقاً لقياسات عام 2017) إلى 30.1 في المائة في عام 2024... وكل ذلك بالتزامن مع انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 35.1 في المائة مقارنةً بسيناريو عدم وجود حرب، وارتفاع البطالة إلى 49.9 في المائة (التقديرات الحالية من أغلب المسؤولين -وفي ظل غياب أرقام دقيقة- تشير إلى مستويات بطالة تفوق 85 في المائة من السكان).

فلسطينيون يجلسون وسط الأنقاض في موقع غارة إسرائيلية على منزل بالنصيرات وسط قطاع غزة (رويترز)

مؤشر خطير آخر تشير إليه البيانات، مع تدهور مؤشر التنمية البشرية في فلسطين إلى مستوى 0.643 نقطة فقط، وهو أدنى مستوى له على الإطلاق منذ بداية تسجيل البيانات في عام 2004، فيما هوى المؤشر في قطاع غزة تحديداً إلى 0.408 نقطة، ماحياً كل ما اكتسبه على مدار أكثر من 20 عاماً.

كما تشير «إسكوا» إلى أن عدد الإصابات في غزة تخطى 102 ألف شخص، فيما تخطى عدد القتلى 43 ألف شخص، من بينهم أكثر من 17 ألف طفل وأكثر من 7 آلاف امرأة.

تقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) تشير أيضاً إلى أن هناك نحو 1.9 مليون نازح داخلياً في قطاع غزة بما يمثل 90 في المائة من مجمل السكان البالغ عددهم نحو 2.1 مليون نسمة، خصوصاً أن نحو 87 في المائة من الوحدات السكنية في القطاع إما دُمِّرت وإما تضررت بشدة. وأن من بين هؤلاء السكان أكثر من 345 ألف في حالة مجاعة شديدة (المرحلة الخامسة)؛ و876 ألفاً في حالة خطرة (المرحلة الرابعة)، فيما يواجه 91 في المائة من السكان ظروفاً غذائية غاية في السوء تضعهم في المرحلة الثالثة على مقياس الأزمة الغذائية.

دمار البشر والحجر

وتوضح تقديرات تقارير «أوتشا» أن نحو 68 في المائة من الأراضي الزراعية في القطاع قد تم تدميرها، وكذلك 52 في المائة من الآبار الزراعية، و44 في المائة من المشاتل أو الصوب الزراعية، و70 في المائة من أسطول الصيد. وتابعت أن 95 في المائة من الماشية أيضاً ماتت، نتيجة إمّا القصف وإمّا عدم الرعاية وإمّا الاستهلاك من دون قدرة على الإحلال.

وتشير بيانات دولية أخرى إلى أن نحو 80 في المائة من المرافق التجارية في قطاع غزة، و68 في المائة من شبكة الطرق فيها دُمِّرت، وفقاً للحسابات والتقديرات حتى صيف العام الجاري. كما أن أكثر من 650 ألف طالب لا يحصلون على تعليم مستدام، خصوصاً مع احتياج أكثر من 87 في المائة من المباني في مدارس قطاع غزة لإعادة بناء.

أطفال فلسطينيون يجري إجلاؤهم من موقع تعرَّض لقصف إسرائيلي في خان يونس جنوب قطاع غزة (أ.ب)

وفي أبريل (نيسان) الماضي، أصدر البنك الدولي تقريراً بالاشتراك مع الأمم المتحدة، يقدِّر تكلفة الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الحيوية في غزة في ثلاثة أشهر (من بداية الحرب حتى يناير «كانون الثاني» الماضي فقط) بنحو 18.5 مليار دولار، أي ما يعادل 97 في المائة من إجمالي الناتج المحلي للضفة الغربية وقطاع غزة معاً عام 2022.

كما أشار التقرير إلى انقطاع التيار الكهربائي بشكل شبه كامل منذ الأسبوع الأول للصراع. ومع تدمير أو تعطيل 92 في المائة من الطرق الرئيسية، وتدهور البنية التحتية للاتصالات، أصبح إيصال المساعدات الإنسانية الأساسية إلى السكان صعباً للغاية.

ويؤكد التقرير أن «الدمار خَلَّفَ كمية هائلة من الحطام والأنقاض تقدر بنحو 26 مليون طن قد تستغرق سنوات لإزالتها والتخلص منها»، أما على المستوى الإنساني، فقال: «تعرضت النساء والأطفال وكبار السن وذوي الإعاقة للقدر الأكبر من الآثار التراكمية الكارثية على صحتهم البدنية والنفسية والعقلية، مع توقع أن يواجه الأطفال الأصغر سناً عواقبَ سوف تؤثر على نموهم وتطورهم طوال حياتهم».

وأفاد التقرير بأنه مع تضرر أو تدمير 84 في المائة من المستشفيات والمنشآت الصحية، ونقص الكهرباء والمياه لتشغيل المتبقي منها، لا يحصل السكان إلا على الحد الأدنى من الرعاية الصحية أو الأدوية أو العلاجات المنقذة للحياة. وتعرَّض نظام المياه والصرف الصحي تقريباً للانهيار، وأصبح لا يوفر سوى أقل من 5 في المائة من خدماته السابقة، مما دفع السكان إلى الاعتماد على حصص مياه قليلة للغاية للبقاء على قيد الحياة. وبالنسبة إلى نظام التعليم فقد انهار، حيث أصبح 100 في المائة من الأطفال خارج المدارس النظامية.

وفيما يخص الحالة الصحية والغذائية في القطاع، أشارت التقارير الأممية إلى أن 96 في المائة من الأطفال في عمر 6 إلى 23 شهراً، والنساء، لا يحصلون على احتياجاتهم الأساسية من العناصر الغذائية الكافية نتيجة النقص الحاد في التنوع الغذائي. مقدرةً أن نحو 50 ألف طفل من أبناء القطاع يحتاجون إلى علاج لسوء التغذية خلال العام الجاري.

وفيما يخص وضع القطاع الطبي، تشير الإحصاءات إلى أن 19 مستشفى (من بين مجموع 36 مستشفى) خرجت عن العمل، فيما تعمل الـ17 مستشفى الباقية بصورة جزئية؛ إما نتيجة تضرر بنيتها التحتية، وإما نتيجة الافتقار إلى المعدات والأدوات الأساسية وإما نتيجة نقص في طواقم العمل الطبية... ونتيجة لذلك، فإن نحو 14 ألف مريض في حالات متباينة يحتاجون للإخلاء الطبي خارج القطاع من أجل إنقاذ حياتهم.

آلام مضاعَفة

الأوضاع الصحية السيئة التي يشير إليها الجميع داخل قطاع غزة، وسط بنية تحتية تعاني من دمار هائل، جعلت «الشرق الأوسط» تسأل منظمة «أطباء بلا حدود» حول الوضع هناك، وهل تمارس المنظمة عملها بشكل طبيعي؟

الدكتور أحمد أبو وردة، مدير الأنشطة الطبية في مستشفى ناصر بخان يونس، أجاب قائلاً: «بالطبع لا، نحاول في (أطباء بلا حدود) بذل كل ما بوسعنا لتقديم أفضل خدمة طبية ممكنة للمرضى والمصابين بالوضع الحالي؛ لكن الكل يعلم صعوبة دخول المستلزمات والمعدات الطبية والأدوية منذ إغلاق معبر رفح».

ويشير أبو وردة إلى أنه لا يوجد حالياً سوى نحو 1000 موظف في كل أفرع المنظمة في قطاع غزة، مؤكداً أن «الحاجة كبيرة جداً وهناك فجوات في بعض التخصصات حتى اليوم».

ومع استهداف المستشفيات، فإن عدد الأسرّة المتاحة للمرضى صارت محدودة للغاية، ويتم التعامل مع الحالات حسب الأولوية الصحية، حسب أبو وردة، الذي يوضح أن أعداد الحالات من ذوي الأمراض المزمنة، خصوصاً داخل المخيمات صارت «مهولة»، حيث إن «معظم سكان القطاع متكدسون في منطقة صغيرة للغاية بظروف بيئية وصحية سيئة للغاية، ويتردد يومياً على عيادات الرعاية الأولية آلاف المرضى من ضمنهم الأمراض المزمنة، وفي ظل الوضع الحالي الكثير من أدويتهم غير متوفرة».

تجويع ممنهَج وفساد

شاهِد آخر من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم وسام، قال: «بدأت الحرب في أكتوبر، وكانت بالتوازي معها هناك حرب اقتصادية تمثلت في جميع مناحي الحياة لأول مرة في تاريخ المعارك العسكرية ضد الفلسطينيين... من قطع جميع أواصر الحياة والضرب العنيف على كل أوتار الاقتصاد؛ يعني آلة القتل الإسرائيلية تطول الناس من ناحية، ومن الأخرى تقطع الكهرباء ليتم دفع الصناعة بالكامل إلى الشلل وتوقف التجارة بالكامل بعد إغلاق المعابر ليصبح هناك نقص حاد في الموارد السلعية».

وسام، الذي يعمل بأحد المراكز الحكومية ذات الصلة بالتجارة، أكد لـ«الشرق الأوسط» أن الوضع صار خطيراً بالفعل حالياً، لأن المخزون السلعي الاستراتيجي انخفض بشكل حاد، ليصبح لا يكاد يكفي 72 ساعة إثر الإغلاق الكامل للمعابر وقطع الإمدادات. ويتابع وسام: «فيما يخص الغاز مثلاً، فقد أصبح يدخل القطاع بشكل متقطع. والاعتماد حالياً على ما يدخل بشكل مباشر لأن الخزانات أصبحت بلا قيمة، فما يدخل ينفد في ذات اللحظة».

أطفال يحملون أواني معدنية ويتزاحمون للحصول على الطعام من مطبخ يتبع الأعمال الخيرية في خان يونس بقطاع غزة (إ.ب.أ)

أيضاً هناك أزمة أخرى، فالمواد السلعية التي تمر ليست منتظمة ولا منسَّقة، وعن ذلك يقول: «ما بيعطوك كامل المواد من احتياجاتك مرة واحدة... اليوم ممكن يمر منظفات وشغلات ثانوية ويقطعوا عنك اللحم والأرز والمواد الأساسية، عشنا آخر 10 أيام على هذه الشاكلة. بتلاقي أيام تانية نزلّك لحم ودجاج لكن بشكل أقل من الكميات المطلوبة، وبيصير سعرها عالي طبعاً. وهذا شكل مقنن لقطع المصادر الغذائية الأساسية وتوصيل الناس إلى مراحل كبيرة من سوء التغذية، وبتلاقي الناس كلها هزيلة وتعبانة لأنهم ما بيحصلوا على وجبة كاملة... لازم يكون في نقص في شيء».

فساد داخلي؟

لم يكن وسام وحده الذي يشير إلى الفساد، ورغم أن الكل يُدين الطرف الإسرائيلي سواء في المجازر أم الحصار والتجويع لسكان قطاع غزة، إضافةً إلى مسؤولية دولة الاحتلال عن توصيل المساعدات وفقاً للقانون الدولي، فإن كثيراً من قاطني القطاع والهاربين منه يُدينون الإدارة المحلية في قطاع غزة بأنها جزء من الأزمة، سواء بالضلوع في استغلال الوضع، أو السكوت عن الفساد.

وأشار عدد كبير ممن تحدثت إليهم «الشرق الأوسط» إلى أن الإدارة المحلية تسيطر على توزيع المساعدات الأممية، لكنَّ الفساد يتسلل إلى جانب من هذه المنظومة حيث تكثر السرقات للمستودعات، إضافةً إلى فرض ضرائب باهظة و«إتاوات» على مرور أي بضائع داخل القطاع... وكل ذلك أدى إلى حالة شح شديدة بالأسواق، وتضخم متوحش كسر ظهور سكان قطاع غزة.

ويرى خبير اقتصادي من داخل القطاع، طلب تعريفه باسم الدكتور وليد، أن «حماس» تسيطر على السيولة النقدية داخل القطاع، حيث أشارت تقديرات إسرائيلية إلى أن حجم الأموال التي جمعتها «حماس» خلال عام من الحرب تتجاوز 750 مليون دولار، من بيع المساعدات عدا عن الضرائب التي جمعتها، بالإضافة إلى السيولة النقدية التي قامت ببيعها. علماً أن الحركة سيطرت على خزانة بنك فلسطين المحدود التي كانت تحتوي على ما يقرب من 140 مليون دولار في بداية الحرب، حسب مصادر محلية ودولية.

آفاق مالية غائمة

وفيما يخص القطاع المالي في غزة إثر كل هذه التحديات العنيفة، تبلغ قيمة محفظة البنوك في غزة نحو مليار دولار، وتبلغ قيمة قطاع التمويل الأصغر في المنطقة نحو 54 مليون دولار، حسب تقارير الأمم المتحدة.

ونفّذت سلطة النقد الفلسطينية وقفاً مؤقتاً للقروض حتى سبتمبر (أيلول) 2024، على الرغم من أن التأثير على كفاية رأس المال والسيولة كان كبيراً. وتقدَّر الخسائر المباشرة التي تكبَّدتها مرافق القطاع المالي في غزة بأكثر من 14 مليون دولار، بالإضافة إلى التأثير الإجمالي للظروف الاقتصادية المتدهورة على المحفظة المصرفية.

فلسطينيون يلتقطون رزم مساعدات أُلقيت من الجو على شمال غزة (أرشيفية - أ.ف.ب)

وهناك أيضاً مخاوف بشأن استعادة السيولة النقدية المتاحة في غزة قبل الحرب. وتؤكد التقارير أنه «لمعالجة نقص السيولة، قدمت سلطة النقد الفلسطينية بعض المساعدات، لكن مشكلات السيولة والوصول إلى الخدمات المالية لا تزال قائمة. ويظل انكشاف النظام المصرفي على القطاع العام مرتفعاً، حيث تجاوز مستوى 2.5 مليار دولار في يوليو (تموز) 2024. وتشير النسبة المتزايدة من الشيكات المرتجعة -التي تصل إلى 9 في المائة من قيمة جميع الشيكات في الربع الأول من عام 2024، حتى 25 في المائة في بعض الحالات- إلى ملف مخاطر مالية كلية متنامٍ».

وفي تقرير للبنك الدولي، صدر في مايو (أيار)، أكد أن وضع المالية العامة للسلطة الفلسطينية قد تدهور بشدة في الأشهر الأخيرة قبل صدوره، مما يزيد بشكل كبير من مخاطر انهيار المالية العامة. وأشار إلى «نضوب تدفقات الإيرادات إلى حدٍّ كبير بسبب الانخفاض الحاد في تحويلات إيرادات المقَاصَّة المستحقة الدفع للسلطة الفلسطينية والانخفاض الهائل في النشاط الاقتصادي. وتؤدي الفجوة الآخذة في الاتساع بسرعة بين حجم الإيرادات والمصروفات لتمويل الحد الأدنى من الإنفاق العام إلى أزمة في المالية العامة».

وأوضح التقرير أنه في نهاية عام 2023، وصلت الفجوة التمويلية إلى 682 مليون دولار، وأنه من المتوقع أن تتضاعف هذه الفجوة خلال الأشهر المقبلة لتصل إلى 1.2 مليار دولار. وأفاد بأن زيادة المساعدات الخارجية وتراكم المتأخرات المستحقة للموظفين العموميين والموردين هي خيارات التمويل الوحيدة المتاحة للسلطة الفلسطينية.

وفقد الاقتصاد الفلسطيني ما يقرب من نصف مليون وظيفة منذ أكتوبر 2023. يشمل ذلك فقدان ما يُقدَّر بنحو 200 ألف وظيفة في قطاع غزة، و144 ألف وظيفة في الضفة الغربية، و148 ألفاً من العمال المتنقلين عبر الحدود من الضفة الغربية إلى سوق العمل الإسرائيلية. وختم التقرير بعبارة: «ومع ضبابية المشهد وعدم اليقين بشأن آفاق عام 2024، من المتوقع حدوث انكماش اقتصادي آخر يتراوح بين 6.5 و9.6 في المائة».

7 عقود ضائعة

وفي تقديرات أخرى لـ«إسكوا»، فإنه في حال دخول الاقتصاد الفلسطيني إلى السيناريو الأسوأ مع عدم التعافي المبكر من آثار الحرب، واستمرار التضييق الإسرائيلي على السكان وبقاء مستوى المساعدات على وضعها الحالي، فإنه من المتوقع تهاوي الناتج المحلي الإجمالي بنحو 20.1 في المائة في 2025، وصولاً إلى 34 في المائة في 2034، مقارنةً بأوضاع ما قبل الحرب.

في تقرير آخر صادم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، صدر في أكتوبر الماضي بمناسبة مرور عام على حرب غزة، أكد أن «آثار الحرب أدت إلى تراجع التنمية في غزة بما يناهز 69 عاماً»، وأنه «دون رفع القيود الاقتصادية، وتمكين جهود التعافي، والاستثمار في التنمية، لن يقدر الاقتصاد الفلسطيني على استعادة مستويات ما قبل الحرب والتقدم للأمام بالاعتماد على تدفق المساعدات الإنسانية وحدها».

مقتل أكثر من 10 أشخاص إثر قصف إسرائيلي على منزل في بيت لاهيا شمال قطاع غزة (أ.ف.ب)

ويشير التقييم إلى أن خطة شاملة للتعافي وإعادة الإعمار، تجمع بين المساعدات الإنسانية والاستثمارات الاستراتيجية في التعافي وإعادة الإعمار، إلى جانب رفع القيود الاقتصادية وتعزيز الظروف المواتية لجهود التعافي، من شأنها أن تساعد في إعادة الاقتصاد الفلسطيني إلى المسار الصحيح ليستعيد توافقه مع خطط التنمية الفلسطينية بحلول عام 2034 -ولكنَّ هذا السيناريو لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت جهود التعافي غير مقيدة.

وقال أخيم شتاينر، مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: «تؤكد التوقعات الواردة في هذا التقييم الجديد أنه في قلب المعاناة الإنسانية والخسائر الفادحة في الأرواح، تَلوح في الأفق إرهاصات أزمة إنمائية خطيرة تُعرِّض مستقبل الأجيال الفلسطينية القادمة للخطر». وأضاف: «يشير التقييم إلى أنه حتى لو تم تقديم المساعدات الإنسانية كل عام، فإن الاقتصاد قد لا يستعيد مستوى ما قبل الأزمة لمدة عقد أو أكثر. ويحتاج الشعب الفلسطيني إلى استراتيجية قوية للإنعاش المبكر يتم تنفيذها حالما تسمح الظروف على الأرض، كجزء لا يتجزأ من مرحلة المساعدة الإنسانية، من أجل إرساء الأسس للتعافي المستدام».

معركة الصبر والصمود

وحول الوضع النفسي حالياً لسكان غزة، يقول الدكتور محمد أبو دوابة: «المعروف عن الشعب الفلسطيني قدرته على الصمود، لا أتحدث عن المقاومة العسكرية، بل على مقاومة الظروف الصعبة... فهل ما وصلنا إليه يعد حالة يأس؟ في رأيي -وبعد عام كامل من الأزمة وظروف يمكن أن تضرب هذه الروح في مقتل- إننا بشر نُبدع في (آليات الصبر واستراتيجيات الصمود)».

وحول تجربته الشخصية، يقول أبو دوابة: «في بداية الأزمة، عملت متطوعاً في مستشفى الأقصى متخصصاً نفسياً... لكن كم كانت المهمة صعبة جداً، مثلاً ماذا يمكن أن نقول لشخص كل عائلته استُشهدت؟ وكان لي منذ سنوات ورقة بحثية في مؤتمر حول الصحة النفسية، أتكلم فيها عن (اضطرابات ما بعد الصدمة)، وأن ما يحدث في غزة هو صدمة مستمرة (Ongoing trauma) وليست صدمة عبرت بالفعل... ولكن هذه المرة فإن طول أمد هذه الصدمة المستمرة يجعلنا نشعر أن الناس بدأوا يصرخون بأنهم بشر وليسوا صامدين أو ناجين، فالناجي من الموت في غزة شخص يموت من الصدمة أكثر من 100 مرة في اليوم».