قادة الأديان... صوت الوسطية لمكافحة التعصب

مشاركون من 45 دولة اجتمعوا في آستانة لتعزيز الحوار ودعم أفكار التسامح

قادة الأديان المشاركون في الحوار («الشرق الأوسط»)
قادة الأديان المشاركون في الحوار («الشرق الأوسط»)
TT

قادة الأديان... صوت الوسطية لمكافحة التعصب

قادة الأديان المشاركون في الحوار («الشرق الأوسط»)
قادة الأديان المشاركون في الحوار («الشرق الأوسط»)

راهن خبراء ومتابعون على أن القادة الدينيين في العالم عليهم دور كبير في نشر صوت الوسطية لتعزيز الحوار ومكافحة التعصب الديني، الذي تسعى إليه بعض التنظيمات المتشددة داخل المجتمعات. لذلك؛ اجتمع أخيراً نخبة من كبار القيادات الدينية، وساسة بارزون في قمة «قادة الأديان العالمية والتقليدية» في العاصمة آستانة، تحت شعار «القادة العالميون لعالم آمن». المجتمعون من 45 دولة أكدوا، أن «تمويل الإرهاب يضرب الثقة المتبادلة بين أتباع الأديان وأتباع الدين الواحد». ودعوا إلى مساعدة كل المجتمعات والشعوب بصرف النظر عن العرق والدين والمعتقدات واللغة والجنس للعيش في حياة سلمية.

يتجمع «قادة العالم والأديان التقليدية» في قصر السلام بمدينة آستانة عاصمة جمهورية كازاخستان مرة كل ثلاث سنوات... وانطلق المؤتمر في دورته الأولى عام 2003، ومؤتمر هذا العام هو النسخة السادسة، وقد ساهمت المؤتمرات السابقة في جذب واستقطاب المفاهيم المتزايدة للحوار بين الأديان من قبل الكثير من المؤسسات في جميع أنحاء العالم.
ويشار إلى أن اختيار آستانة مقراً للحوار بين الزعماء الدينيين، لأن المدينة ترمز للدولة الكازاخية متعددة الأديان والأعراق، ويتكون الطيف الديني فيها من 18 ديناً وطائفة، ونحو 3800 جمعية دينية.
البيان الختامي للمؤتمر، والمعروف بـ«إعلان آستانة»، شجب كل أشكال الزج بالدين في الصراعات السياسية، وكل مظاهر الأنانية والتعصب والقومية العدوانية ودعاوى التمييز. وأكد التمسك بسيادة الأخلاقيات العليا ووحدة مساعي الدول نحو إقرار التعاون والاحترام المتبادل من أجل استقرار ورخاء وأمن كل البشر... وتعزيز جهود «زعماء الأديان العالمية والتقليدية» بشأن التوصل إلى استقرار طويل الأمد والحد من الكراهية والعنف.
ونادى البيان بضرورة دعم المبادرات والجهود المبذولة في مجال تعزيز الحوار بين الأديان والطوائف كأحد المحاور الأساسية والمهمة في جدول الأعمال الدولي لبناء نظام عالمي قائم على العدل ونبذ الصراعات. وطالب البيان أيضاً بضرورة التضامن مع كل المجموعات الدينية والطوائف العرقية التي تعرضت لانتهاك حقوق الإنسان والعنف من قبل «المتطرفين» و«الإرهابيين»، ودعم الجهود الرامية إلى حماية اللاجئين وحقوقهم وكرامتهم، وتقديم كل المساعدات لهم.
وقالت مصادر بالأزهر، الذي شارك بوفد في المؤتمر، إن «الأحداث الإرهابية التي تحدث في كثير من دول العالم تجعلنا أمام تحدٍ متزايد لنقل صورة الإسلام الصحيحة أمام العالم»، مشيرة إلى أن «الجماعات الإرهابية تسعى بقوة لتأهيل جيل جديد من القتلة، لا يحملون في عقولهم ولا قلوبهم سوى المنهج الدموي؛ لذلك فإن المؤتمر هدف إلى التصدي لذلك».
البيان الختامي للمؤتمر طالب الشخصيات السياسية ووسائل الإعلام العالمية بالتوقف عن ربط الإرهاب بالدين؛ لأن هذه الممارسات تلحق الضرر بصورة الأديان والتعايش السلمي، وتضرب الثقة المتبادلة والتعاون بين أتباع الدين الواحد والأديان الأخرى.
كما دعا البيان زعماء الأديان إلى نشر قيم الإسلام، والتفاهم المتبادل والتسامح في وسائل الإعلام، وعلى شبكات التواصل الاجتماعي والتجمعات الأهلية، وبذل الجهود لمنع الاستفزازات والعنف في الأماكن المقدسة لكل الأديان.
ورحب مشاركو المؤتمر بنوايا مواصلة عقد مؤتمر «زعماء الأديان» في آستانة... وأعلنوا عن استعدادهم لتعزيز الجهود للتوصل إلى استقرار طويل الأمد ومنع حوادث العنف بسبب الكراهية والعنف.
وبحسب محللين، بحث المؤتمر قضايا حساسة عدة، في مقدمتها، «تعزيز الأمن عبر الحوار، ونشر التسامح، وقيم الصداقة والتعايش السلمي، وتعزيز التعاون بين الأديان رداً على التهديد بالعنف».
من جانبه، أكد شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، أنه «من الظلم إلصاق الإرهاب بالإسلام وحده من بين سائر الأديان»، مشدداً على أن الإرهاب ليس صنيعة للإسلام أو الأديان؛ لكنه صنيعة سياسات عالمية جائرة ظالمة ضلت الطريق وفقدت الإحساس بآلام الآخرين من الفقراء والمستضعفين.
وأوضح الدكتور الطيب، أن التأمل الدقيق يوضح أن إمكانات المنطقة التقنية والتدريبية والتسليحية لا تكفي لتفسير ظهور الإرهاب بهذا الشكل المباغت، وبهذه القوة الهائلة التي تمكنه من التنقل واجتياز الحدود والكر والفر في أمان تام... وأن «حل أزمة عالمنا المعاصر تستوجب ضرورة العودة إلى الدين ومرجعيته، حارساً للأخلاق وضوابطها ومنقذاً لحضارتنا الحديثة ومكاسبها ومنجزاتها مما ينتظرها من مصير تؤكده سنن الله في سير الحضارات وتاريخ الأمم والشعوب، وبخاصة أن عالمنا اليوم يعاني من أزمة شديدة التعقيد، مركبة من الألم والتوتر والتوجس والجزع... وتوقع الأسوأ في كل يوم، حتى أصبح العنف المتبادل أشبه بأن يكون قانون العلاقات الدولية، أو لغة الحوار بين الغرب والشرق».
وأضاف الطيب، أن «الإرهاب مارس جرائمه البشعة تحت لافتة الإسلام، استهدف المسلمين رجالاً ونساءً وأطفالاً، ولم يستهدف غيرهم إلا استثناءً من قاعدته التي روع بها المنطقة العربية بأسرها، واستهدف قطع رؤوس المسلمين وحدهم في صـور بشعة».
من جهته، أكد الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، وزير التسامح في الإمارات، أن «المؤتمر أصبح بمثابة جسر للتفاهم والتعاون بين الزعماء الدينيين والسياسيين على مختلف مشاربهم؛ وهو ما جعله مصدر ثقة للكثير من الدول، إضافة إلى تعزيز روح التعاون وإظهار الالتزام العالمي بمكافحة كل أشكال التعصب الديني والتمييز والتحريض على العنف»، مشيداً بشعار المؤتمر لهذا العام وهو «القادة الدينيون لعالم آمن»، حيث يمثل رجال وعلماء الدين حجر الزاوية في دعم أفكار التسامح، والتعايش وقبول الآخر لدى فئات المجتمع المختلفة خاصة الشباب.
وقالت المصادر في الأزهر، إن «المؤتمر نجح في توصيل رسالته للعالم بدعم السلام، حيث لم يكن متاحاً في أول مؤتمر للقادة عقد عام 2003 أن يجلس ممثلو الدين اليهودي مع المسلمين على الطاولة المستديرة للمؤتمر؛ لكن نجح المؤتمر بعد ذلك في دعم مبادرات السلام والتسامح والقيم الأخرى».
وشارك في فعاليات المؤتمر الأخير 80 وفداً من 45 دولة، من بينها 20 وفداً إسلامياً، و15 مسيحياً... ومنح رئيس كازاخستان، نور سلطان نزارباييف، لأول مرة المجلس البابوي للفاتيكان جائزة الاشتراك في الحوار بين الأديان؛ لمساهمته البناءة في أهداف المؤتمر. مؤكداً أن غاية مؤتمر «قادة الأديان» تفعيل الحوار بين الأديان والحضارات. واعتبر الرئيس نزارباييف، أن «العاصمة آستانة منصة تلاقى على أرضها جميع القيادات الدينية باختلاف عقائدهم ومذاهبهم؛ بهدف التوافق ولمّ الشمل ونبذ الخلاف، الذي أصبح خطراً يهدد العالم الإسلامي، وما نتج منه من حروب أهلية».
فعاليات جلسات المؤتمر أكدت أهمية مواجهة التحديات الحالية بعدما شهدت العلاقات الدولية توتراً متزايداً. وأشارت الجلسات إلى أن التهديدات الأمنية وعدم السيطرة على حركة المهاجرين ومسارات تجارة المخدرات والجريمة المنظمة وتنامي ظاهرة عدم قبول الآخر وزيادة التعصب والتطرف الديني والإرهاب، تمثل تحديات كبيرة لدول العالم كافة... وهناك رؤية لدى المجتمع الدولي حول أهمية إنشاء نظام للأمن العالمي الذي يحول دون تفاقم الخلافات بين الحضارات والأديان.
كما ناقش المشاركون في الفعاليات ظاهرة العولمة، مؤكدين أن العولمة المتجسدة في صورة التغريب وتعميم الثقافات تدفع المجتمعات إلى تبني ممارسات حثيثة رامية إلى تعزيز الهوية الذاتية وتقوي الشعور بالوعي الذاتي الوطني والانتماء الثقافي والتاريخي والديني. وبحثوا أيضاً دور الزعماء والشخصيات السياسية في مواجهة التطرف والإرهاب، حيث أكدوا أن «الوضع الحالي في العالم يمثل مخاوف مشروعة، حيث يكتسب الإرهاب الدولي أبعاداً جديدة، وبخاصة أن الأعمال الإرهابية لم تعد منفردة؛ بل اتخذت طابع العداء ضد الإنسانية بأسرها».
وأوضحوا أن التنظيمات الراديكالية تستخدم التكنولوجيا الحديثة بشكل فاعل، وتكشف صراحة عن رغبتها في الحصول على صفة «كيان شبه رسمي»، وأن مواجهة الإرهاب والتطرف تعتبر مسؤولية المجتمع الدولي والدول والمجتمعات كافة.
وأكد المشاركون خلال فعاليات المؤتمر، أن الأديان تعد العنصر الحاسم في الصراعات الحضارية المتحكم في حدتها، حيث إن الأديان تتعامل بتحفظ شديد وثبات عند مواجهة الزحف الروحي الراديكالي. موضحين أن كازاخستان تسهم بنشاط في تهيئة الظروف لإقامة حوار بناء في مواجهة التطرف والإرهاب، وبشكل عام التصدي للتحديات القائمة والمستقبلية في مجال الأمن العالمي.
وعلى هامش الفعاليات، أوضح الدكتور فيصل بن معمر، الأمين العام لمركز الملك عبد الله للحوار، أنه يجب تعزيز قيم الحوار والسلم بين أتباع الديانات، حتى يساهم ذلك في تصحيح الرأي العام. داعياً المؤسسات العربية كافة إلى بناء شراكات علمية بين أطياف المجتمع العربي كافة، والخروج عن دائرة الحوارات النظرية إلى المجال العملي.


مقالات ذات صلة

بينالي الفنون الإسلامية في جدة... حوار المقدس والمعاصر

يوميات الشرق جانب من بينالي الفنون الإسلامية بجدة في نسخته الأولى (واس)

بينالي الفنون الإسلامية في جدة... حوار المقدس والمعاصر

يجري العمل على قدم وساق لتقديم النسخة الثانية من بينالي الفنون الإسلامية بجدة في 25 من يناير القادم، ما الذي يتم إعداده للزائر؟

عبير مشخص (لندن)
ثقافة وفنون المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة الدكتور سالم بن محمد المالك (صورة من الموقع الرسمي للإيسيسكو)

«الإيسيسكو» تؤكد أن المخطوطات شاهدٌ حيٌّ على أصالة العالم الإسلامي

أكد المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة «إيسيسكو»، الدكتور سالم بن محمد المالك، أن المخطوطات شاهدٌ حيٌّ على أصالة العالم الإسلامي.

«الشرق الأوسط» (الرباط)
أوروبا رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتس يتحدث خلال اجتماع ترشيح الحزب في أوسنابروك ودائرة ميتيلمس في ألاندو بالهاوس (د.ب.أ)

زعيم المعارضة الألمانية يؤيد تدريب أئمة المساجد في ألمانيا

أعرب زعيم المعارضة الألمانية فريدريش ميرتس عن اعتقاده بأن تدريب الأئمة في «الكليةالإسلامية بألمانيا» أمر معقول.

«الشرق الأوسط» (أوسنابروك (ألمانيا))
المشرق العربي الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى‬ في خطبة الجمعة بأكبر جوامع مدينة دار السلام التنزانية

أمين رابطة العالم الإسلامي يزور تنزانيا

ألقى معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، رئيس هيئة علماء المسلمين، فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى‬، خطبةَ الجمعة ضمن زيارة لتنزانيا.

«الشرق الأوسط» (دار السلام)
شمال افريقيا شيخ الأزهر خلال كلمته في الاحتفالية التي نظمتها «جامعة العلوم الإسلامية الماليزية» (مشيخة الأزهر)

شيخ الأزهر: مأساة فلسطين «جريمة إبادة جماعية» تجاوزت بشاعتها كل الحدود

لفت شيخ الأزهر إلى أن «ظاهرة جرأة البعض على التكفير والتفسيق وما تسوغه من استباحة للنفوس والأعراض والأموال، هي ظاهرة كفيلة بهدم المجتمع الإسلامي».

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».