راهن خبراء ومتابعون على أن القادة الدينيين في العالم عليهم دور كبير في نشر صوت الوسطية لتعزيز الحوار ومكافحة التعصب الديني، الذي تسعى إليه بعض التنظيمات المتشددة داخل المجتمعات. لذلك؛ اجتمع أخيراً نخبة من كبار القيادات الدينية، وساسة بارزون في قمة «قادة الأديان العالمية والتقليدية» في العاصمة آستانة، تحت شعار «القادة العالميون لعالم آمن». المجتمعون من 45 دولة أكدوا، أن «تمويل الإرهاب يضرب الثقة المتبادلة بين أتباع الأديان وأتباع الدين الواحد». ودعوا إلى مساعدة كل المجتمعات والشعوب بصرف النظر عن العرق والدين والمعتقدات واللغة والجنس للعيش في حياة سلمية.
يتجمع «قادة العالم والأديان التقليدية» في قصر السلام بمدينة آستانة عاصمة جمهورية كازاخستان مرة كل ثلاث سنوات... وانطلق المؤتمر في دورته الأولى عام 2003، ومؤتمر هذا العام هو النسخة السادسة، وقد ساهمت المؤتمرات السابقة في جذب واستقطاب المفاهيم المتزايدة للحوار بين الأديان من قبل الكثير من المؤسسات في جميع أنحاء العالم.
ويشار إلى أن اختيار آستانة مقراً للحوار بين الزعماء الدينيين، لأن المدينة ترمز للدولة الكازاخية متعددة الأديان والأعراق، ويتكون الطيف الديني فيها من 18 ديناً وطائفة، ونحو 3800 جمعية دينية.
البيان الختامي للمؤتمر، والمعروف بـ«إعلان آستانة»، شجب كل أشكال الزج بالدين في الصراعات السياسية، وكل مظاهر الأنانية والتعصب والقومية العدوانية ودعاوى التمييز. وأكد التمسك بسيادة الأخلاقيات العليا ووحدة مساعي الدول نحو إقرار التعاون والاحترام المتبادل من أجل استقرار ورخاء وأمن كل البشر... وتعزيز جهود «زعماء الأديان العالمية والتقليدية» بشأن التوصل إلى استقرار طويل الأمد والحد من الكراهية والعنف.
ونادى البيان بضرورة دعم المبادرات والجهود المبذولة في مجال تعزيز الحوار بين الأديان والطوائف كأحد المحاور الأساسية والمهمة في جدول الأعمال الدولي لبناء نظام عالمي قائم على العدل ونبذ الصراعات. وطالب البيان أيضاً بضرورة التضامن مع كل المجموعات الدينية والطوائف العرقية التي تعرضت لانتهاك حقوق الإنسان والعنف من قبل «المتطرفين» و«الإرهابيين»، ودعم الجهود الرامية إلى حماية اللاجئين وحقوقهم وكرامتهم، وتقديم كل المساعدات لهم.
وقالت مصادر بالأزهر، الذي شارك بوفد في المؤتمر، إن «الأحداث الإرهابية التي تحدث في كثير من دول العالم تجعلنا أمام تحدٍ متزايد لنقل صورة الإسلام الصحيحة أمام العالم»، مشيرة إلى أن «الجماعات الإرهابية تسعى بقوة لتأهيل جيل جديد من القتلة، لا يحملون في عقولهم ولا قلوبهم سوى المنهج الدموي؛ لذلك فإن المؤتمر هدف إلى التصدي لذلك».
البيان الختامي للمؤتمر طالب الشخصيات السياسية ووسائل الإعلام العالمية بالتوقف عن ربط الإرهاب بالدين؛ لأن هذه الممارسات تلحق الضرر بصورة الأديان والتعايش السلمي، وتضرب الثقة المتبادلة والتعاون بين أتباع الدين الواحد والأديان الأخرى.
كما دعا البيان زعماء الأديان إلى نشر قيم الإسلام، والتفاهم المتبادل والتسامح في وسائل الإعلام، وعلى شبكات التواصل الاجتماعي والتجمعات الأهلية، وبذل الجهود لمنع الاستفزازات والعنف في الأماكن المقدسة لكل الأديان.
ورحب مشاركو المؤتمر بنوايا مواصلة عقد مؤتمر «زعماء الأديان» في آستانة... وأعلنوا عن استعدادهم لتعزيز الجهود للتوصل إلى استقرار طويل الأمد ومنع حوادث العنف بسبب الكراهية والعنف.
وبحسب محللين، بحث المؤتمر قضايا حساسة عدة، في مقدمتها، «تعزيز الأمن عبر الحوار، ونشر التسامح، وقيم الصداقة والتعايش السلمي، وتعزيز التعاون بين الأديان رداً على التهديد بالعنف».
من جانبه، أكد شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، أنه «من الظلم إلصاق الإرهاب بالإسلام وحده من بين سائر الأديان»، مشدداً على أن الإرهاب ليس صنيعة للإسلام أو الأديان؛ لكنه صنيعة سياسات عالمية جائرة ظالمة ضلت الطريق وفقدت الإحساس بآلام الآخرين من الفقراء والمستضعفين.
وأوضح الدكتور الطيب، أن التأمل الدقيق يوضح أن إمكانات المنطقة التقنية والتدريبية والتسليحية لا تكفي لتفسير ظهور الإرهاب بهذا الشكل المباغت، وبهذه القوة الهائلة التي تمكنه من التنقل واجتياز الحدود والكر والفر في أمان تام... وأن «حل أزمة عالمنا المعاصر تستوجب ضرورة العودة إلى الدين ومرجعيته، حارساً للأخلاق وضوابطها ومنقذاً لحضارتنا الحديثة ومكاسبها ومنجزاتها مما ينتظرها من مصير تؤكده سنن الله في سير الحضارات وتاريخ الأمم والشعوب، وبخاصة أن عالمنا اليوم يعاني من أزمة شديدة التعقيد، مركبة من الألم والتوتر والتوجس والجزع... وتوقع الأسوأ في كل يوم، حتى أصبح العنف المتبادل أشبه بأن يكون قانون العلاقات الدولية، أو لغة الحوار بين الغرب والشرق».
وأضاف الطيب، أن «الإرهاب مارس جرائمه البشعة تحت لافتة الإسلام، استهدف المسلمين رجالاً ونساءً وأطفالاً، ولم يستهدف غيرهم إلا استثناءً من قاعدته التي روع بها المنطقة العربية بأسرها، واستهدف قطع رؤوس المسلمين وحدهم في صـور بشعة».
من جهته، أكد الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، وزير التسامح في الإمارات، أن «المؤتمر أصبح بمثابة جسر للتفاهم والتعاون بين الزعماء الدينيين والسياسيين على مختلف مشاربهم؛ وهو ما جعله مصدر ثقة للكثير من الدول، إضافة إلى تعزيز روح التعاون وإظهار الالتزام العالمي بمكافحة كل أشكال التعصب الديني والتمييز والتحريض على العنف»، مشيداً بشعار المؤتمر لهذا العام وهو «القادة الدينيون لعالم آمن»، حيث يمثل رجال وعلماء الدين حجر الزاوية في دعم أفكار التسامح، والتعايش وقبول الآخر لدى فئات المجتمع المختلفة خاصة الشباب.
وقالت المصادر في الأزهر، إن «المؤتمر نجح في توصيل رسالته للعالم بدعم السلام، حيث لم يكن متاحاً في أول مؤتمر للقادة عقد عام 2003 أن يجلس ممثلو الدين اليهودي مع المسلمين على الطاولة المستديرة للمؤتمر؛ لكن نجح المؤتمر بعد ذلك في دعم مبادرات السلام والتسامح والقيم الأخرى».
وشارك في فعاليات المؤتمر الأخير 80 وفداً من 45 دولة، من بينها 20 وفداً إسلامياً، و15 مسيحياً... ومنح رئيس كازاخستان، نور سلطان نزارباييف، لأول مرة المجلس البابوي للفاتيكان جائزة الاشتراك في الحوار بين الأديان؛ لمساهمته البناءة في أهداف المؤتمر. مؤكداً أن غاية مؤتمر «قادة الأديان» تفعيل الحوار بين الأديان والحضارات. واعتبر الرئيس نزارباييف، أن «العاصمة آستانة منصة تلاقى على أرضها جميع القيادات الدينية باختلاف عقائدهم ومذاهبهم؛ بهدف التوافق ولمّ الشمل ونبذ الخلاف، الذي أصبح خطراً يهدد العالم الإسلامي، وما نتج منه من حروب أهلية».
فعاليات جلسات المؤتمر أكدت أهمية مواجهة التحديات الحالية بعدما شهدت العلاقات الدولية توتراً متزايداً. وأشارت الجلسات إلى أن التهديدات الأمنية وعدم السيطرة على حركة المهاجرين ومسارات تجارة المخدرات والجريمة المنظمة وتنامي ظاهرة عدم قبول الآخر وزيادة التعصب والتطرف الديني والإرهاب، تمثل تحديات كبيرة لدول العالم كافة... وهناك رؤية لدى المجتمع الدولي حول أهمية إنشاء نظام للأمن العالمي الذي يحول دون تفاقم الخلافات بين الحضارات والأديان.
كما ناقش المشاركون في الفعاليات ظاهرة العولمة، مؤكدين أن العولمة المتجسدة في صورة التغريب وتعميم الثقافات تدفع المجتمعات إلى تبني ممارسات حثيثة رامية إلى تعزيز الهوية الذاتية وتقوي الشعور بالوعي الذاتي الوطني والانتماء الثقافي والتاريخي والديني. وبحثوا أيضاً دور الزعماء والشخصيات السياسية في مواجهة التطرف والإرهاب، حيث أكدوا أن «الوضع الحالي في العالم يمثل مخاوف مشروعة، حيث يكتسب الإرهاب الدولي أبعاداً جديدة، وبخاصة أن الأعمال الإرهابية لم تعد منفردة؛ بل اتخذت طابع العداء ضد الإنسانية بأسرها».
وأوضحوا أن التنظيمات الراديكالية تستخدم التكنولوجيا الحديثة بشكل فاعل، وتكشف صراحة عن رغبتها في الحصول على صفة «كيان شبه رسمي»، وأن مواجهة الإرهاب والتطرف تعتبر مسؤولية المجتمع الدولي والدول والمجتمعات كافة.
وأكد المشاركون خلال فعاليات المؤتمر، أن الأديان تعد العنصر الحاسم في الصراعات الحضارية المتحكم في حدتها، حيث إن الأديان تتعامل بتحفظ شديد وثبات عند مواجهة الزحف الروحي الراديكالي. موضحين أن كازاخستان تسهم بنشاط في تهيئة الظروف لإقامة حوار بناء في مواجهة التطرف والإرهاب، وبشكل عام التصدي للتحديات القائمة والمستقبلية في مجال الأمن العالمي.
وعلى هامش الفعاليات، أوضح الدكتور فيصل بن معمر، الأمين العام لمركز الملك عبد الله للحوار، أنه يجب تعزيز قيم الحوار والسلم بين أتباع الديانات، حتى يساهم ذلك في تصحيح الرأي العام. داعياً المؤسسات العربية كافة إلى بناء شراكات علمية بين أطياف المجتمع العربي كافة، والخروج عن دائرة الحوارات النظرية إلى المجال العملي.