عادل عبد المهدي... رجل الفرصة الأخيرة

رئيس وزراء العراق المكلف واقعي يجمع الفكر والخبرة الاقتصادية

عادل عبد المهدي... رجل الفرصة الأخيرة
TT

عادل عبد المهدي... رجل الفرصة الأخيرة

عادل عبد المهدي... رجل الفرصة الأخيرة

قبل شهور من تكليفه تشكيل الحكومة العراقية المقبلة، كتب عادل عبد المهدي مقالاً في جريدة «العدالة»، التي يشرف عليها ويطرح من خلالها آراءه ورؤاه لكيفية بناء الدولة، مقالاً حمل عنواناً مثيراً، وهو «أشكركم فالشروط غير متوفرة»... وذلك في سبيل تبريره تداول اسمه لدى الأوساط السياسية لاحتمال أن يكون مرشحاً لرئاسة الوزراء. كان المقال قد نشر بعد الانتخابات، التي أجريت يوم 12 مايو (أيار) الماضي، بأقل من أسبوعين - بالذات، يوم 23 مايو - أثناء ما كان قد دار في بعض الأوساط السياسية بأن عبد المهدي أحد المرشحين.

كانت الانتخابات العراقية الأخيرة قد صدمت سواءً على نطاق نسبة المشاركة الجماهيرية المتواضعة، التي ناهزت الـ25 في المائة، أو النتائج التي أحرجت الكتل السياسية التقليدية. وهذا، فضلاً عن الجدل الذي رافقها بشأن التزوير والعد والفرز اليدوي أو الإلكتروني.
عادل عبد المهدي، الذي يعد من القادة المؤسسين لـ«عراق ما بعد عام 2003» لم يشارك في تلك الانتخابات. ولكونه سياسياً محترفاً، ويعرف الوسط السياسي العراقي عن قرب، بما في ذلك مسالكه ومطابخه السرّية، يدرك أن لا فرصة لمستقل أو غير مشارك في الانتخابات لأسباب كثيرة، لعل من أبرزها أن الكتل - ولا سيما الكبيرة منها - التي شاركت في الانتخابات وأحرزت عدداً كبيراً من المقاعد تفضّل مرشحيها المدعومين داخلياً وخارجياً. وبالتالي، ليس بوسعها التفريط بما تعدّه حقاً انتخابياً.
المسألة الأخرى المهمة أن لكل منصب في العراق ثمناً انتخابياً تقابله عدد المقاعد التي يجب على المرشح لأي منصب الحصول عليها. ومنصب رئيس الوزراء يكاد يحوز على أكثرية النقاط أو المقاعد البرلمانية، وعددها 35 نقطة أو مقعداً برلمانياً... فمن أين يأتي بالكتلة التي تمنحه كل هذه المقاعد من دون مقابل؟
انسجاماً مع ذلك، كتب عبد المهدي مقاله الشهير الذي أسدل من خلاله الستار على كل جدل بشأن إمكانية ترشحه للمنصب. وبالفعل، انزوى الرجل جانباً مكتفياً بتقديم النصائح والإرشادات بما يمتلكه من خبرة وكفاءة. وما يُذكر أنه كان قبل ذلك قد عبّر عن زهده في المناصب حين استقال من منصب نائب رئيس الجمهورية عام 2011. كذلك، استقال من آخر منصب كان يشغله، وهو وزير النفط في حكومة الدكتور حيدر العبادي عام 2016 بعدما كان أبرم اتفاقاً نفطياً مع الأكراد بشأن النفط مقابل الموازنة. ليس هذا فقط، بل كان قد استقال أيضاً من عضوية «المجلس الأعلى الإسلامي» قبل انشقاق زعيمه عمّار الحكيم عنه وتأسيسه «تيار الحكمة الوطني». لذلك؛ بات عبد المهدي مستقلاً تماماً وهي في العراق ميزة مرة وإشكالية مرة أخرى. فهي ميزة لمن لا يريد زج نفسه من جديد في العمل السياسي. وطبقاً لمقال عبد المهدي «أشكركم فالشروط غير متوفرة» فإن رؤيته لبناء الدولة التي ضمنها المقال عبرت عن عدم رضاه للمسار التي تريد الكتل الفائزة بالانتخابات اتخاذه، وهو نهج المحاصصة بعيداً عن الشعارات التي كانت رفعتها أثناء الانتخابات وهي تشكيل حكومة قوية بغالبية سياسية ومشاركة وطنية تنسجم مع إرادة الناس.

- بعد خراب البصرة!
خلال فصل الصيف الماضي حين الحراك السياسي والبرلماني في العراق على أشده انطلقت المظاهرات المعتادة سنوياً في محافظة البصرة بسبب الكهرباء والماء وقلة الخدمات. وكالعادة المتبعة، سنوياً أيضاً، امتدت تلك المظاهرات إلى الكثير من المحافظات الوسطى والجنوبية... وصولاً إلى العاصمة بغداد. وخلال شهر يوليو (تموز) الماضي كانت ولاية البرلمان السابق قد انتهت، وتحولت حكومة حيدر العبادي إلى حكومة تصريف الأعمال.
كانت كل المؤشرات تؤكد أن المظاهرات لن تتعدى الخطوط المرسومة لها سنوياً. غير أن ما حصل فيما بعد من تطورات مخيفة، وصلت إلى حد حرق مقرات الدوائر والمؤسسات والأحزاب، كشف عن إمكانية حدوث مواجهة وشيكة بين الأحزاب والفصائل الشيعية.
عندها وصل النظام السياسي في البلاد إلى مرحلة الانسداد أو الفشل التام، وانعكس ذلك على طبيعة المرشحين لشغل منصب رئيس الوزراء. وكان العبادي أول من احترق بلهيب النار المشتعل في البصرة. ثم لحق به هادي العامري، الذي أعلن انسحابه رسمياً من التنافس على منصب رئاسة الوزراء. ومن ثم، لم يعد في الساحة بعد خراب البصرة سوى مرشحي التسوية.
لكن، حتى بين هؤلاء لم يكن اسم عادل عبد المهدي قد جرى تداوله إلى أن بدأ أول ملامح رؤية المرجعية الدينية بشأن أوصاف رئيس الوزراء المقبل، وهي التي أردفها مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، بمجموعة من الشروط بدت في معظمها لا تنطبق على غالبية الأسماء المطروحة. عندها ظهر اسم عادل عبد المهدي في حيّز التداول بشأن ترشيحه لتشكيل الحكومة طبقاً لتوافق بين زعيم التيار الصدري وزعيم كتلة «الفتح» هادي العامري، ومن دون رفض من قبل المرجعية الدينية في النجف.
مهمة عبد المهدي لا شك، صعبة، بل باتت توصف في الأوساط السياسية والنخبوية بأنها بمثابة الفرصة الأخيرة للعراق، ولا سيما أن أحداث البصرة قد تتكرر وفي أكثر من مكان بالعراق وربما تطيح النظام السياسي كله. وفي هذا السياق، يقول الناطق الرسمي باسم الحكومة العراقية السابق علي الدباغ لـ«الشرق الأوسط»، إن «الدكتور عادل عبد المهدي تسلم رئاسة مجلس الوزراء بتركة ثقيلة نتيجة الحرب على (داعش)، والعشوائية التي صاحبت الفترة الماضية، مع موارد شحيحة وسقف توقعات مشروع وعالٍ، وليس ميسوراً تحقيق نسب نجاح عالية». وأضاف الدباغ، أن «ما يتوجب عمله هو تهدئة قلق الشارع وغضبه، وإعطاء جرعة أمل منشّطة، عبر توفير فرص عمل من القطاع الخاص، من خلال تقديم إغراءات وإعفاءات ضمن الحدود المتوفرة. إذ لم تعد الدولة قادرة على استيعاب الأعداد الهائلة من البطالة وجموع الخريجين الجدد». وتابع «الأمر يتطلب توفير الحد الأدنى من الخدمات، وتحسينها عبر رؤية جديدة لا تعتمد الآلية التي لم تحقق نجاحاً».
وحول رؤيته لما يمكن أن يقدِم عليه رئيس الوزراء المكلف، يقول الدباغ إن «عبد المهدي سيركز على نزع فتائل التوتر السياسي الداخلية والإقليمية؛ ذلك أنه رجل حوار وليس شخصية صدامية. وسيقارب ما يمكن حله من الملفات الساخنة، ويدير ما يُختلف عليه بطريقة مختلفة، ما يخلق ثقة بين الشركاء وينزع الشكوك. وعلى المستوى الإقليمي، يحتاج إلى مقاربة هادئة للأزمات التي تعصف بالمنطقة، والعلاقات المتشنجة مع بعض الدول، مثل تركيا».
ويستطرد الدباغ بأن «رئيس الوزراء المكلف يحتاج إلى تطوير هذا الانسجام الحاصل بين الرئاسات الثلاث، كل من موقعه، ودون الإخلال بدور كل منهم».

- تحوّلات الفكر والموقف
يتنافس في شخصية عادل عبد المهدي انتماءان، الأول عائلي والآخر سياسي. فعبد المهدي الذي ولد في منطقة البتاوين ببغداد عام، وينتمي إلى أسرة ميسورة يمتد نسبها إلى آل البيت، وتعود جذورها إلى جنوب العراق، وتحديداً محافظة ذي قار (الناصرية). والده عبد المهدي المنتفجي (أو المنتفكي)، وهو لقب يعود إلى البيئة العشائرية البارزة للمدينة التي ينتمي إليها، أي مدينة الناصرية العاصمة الإدارية لمحافظة ذي قار. وكان الوالد قد شغل منصب وزير المعارف إبان العهد الملكي، بالإضافة إلى عضوية مجلس الأمة لست دورات.
تلقى عادل عبد المهدي تعليمه المتوسط في كلية بغداد، وهي كلية خاصة يسوعية راقية تخرجت فيها نخبة من أبرز شخصيات العراق. وبعدها، التحق بجامعة بغداد، حيث تخرج حاملاً شهادة البكالوريوس في الاقتصاد. ثم سافر إلى فرنسا، وهناك حصل على الماجستير في العلوم السياسية من المعهد الدولي للإدارة العامة في العاصمة الفرنسية باريس عام 1970، ثم تابع دراساته المعمقة فحاز ماجستير ثانية في الاقتصاد السياسي من جامعة بواتييه عام 1972، وأنهى أطروحة الدكتوراه، لكنه لم يناقشها.
هذا على الصعيد الأكاديمي، أما على الصعيدين الفكري والسياسي، فإنه بدأ حياته السياسية عروبياً؛ إذ انتمى في فترة شبابه المبكر إلى حزب البعث العربي الاشتراكي. بيد أنه سرعان ما غادر الفكر القومي ليصبح شيوعياً ماوياً لفترة قصيرة سبقت سفره إلى فرنسا لإتمام دراسته العليا المتقدمة. ومع أن اللقب الشائع عنه «الدكتور» عادل عبد المهدي، فإنه يفضّل أن يطلق عليه لقب «السيد» انطلاقاً من نسبه العلوي.
في باريس التقى عادل عبد المهدي في ثمانينات القرن الماضي زعيم «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية» محمد باقر الحكيم - قتل خلال شهر أغسطس (آب) عام 2003 بعد شهور قلائل من سقوط نظام صدام حسين -، وطلب منه الحكيم الإشراف على منشورات «المجلس» هناك، ولا سيما أن عبد المهدي كان يملك داراً صغيرة للنشر. ولقد فتح هذا التعارف والعمل المشترك أمام رئيس الوزراء المكلّف (اليوم) الباب إلى الدخول إلى الحركة الإسلامية، التي سرعان ما جعلت منه أحد قادة المعارضة لنظام صدام حسين طوال أكثر من عقدين من الزمن.

- مسيرته بعد 2003
بعد عام 2003 تقلد عادل عبد المهدي مناصب عدة، من أبرزها عضو مناوب في «مجلس الحكم» الذي أسسه الحاكم المدني الأميركي بول بريمر عام 2003، ووزير المالية في حكومة إياد علاوي الأولى (2004 ـ 2005)، ومن ثم وزير النفط في حكومة حيدر العبادي (عام 2014 ليستقيل منها عام 2016). كما تقلد منصب نائب رئيس الجمهورية في ولاية الرئيس العراقي الراحل جلال طالباني، قبل أن يستقيل من المنصب عام 2011؛ الأمر الذي أعطى الناس عنه فكرة زهده في المناصب وقلة تشبثه بها.
اليوم، بعد تكليف عادل عبد المهدي تشكيل الحكومة العراقية المقبلة، فإنه في الوقت الذي يحظى بدعم كامل من قِبل جميع الكتل السياسية - فضلاً عن مقبولية إقليمية ودولية - فإن الخشية تلازم الجميع من أن أي فشل لحكومته العتيدة سيكون له نتائج وخيمة على العراق. باختصار، المطلوب راهناً من عبد المهدي ليس النجاح في معالجة ملف الخدمات الشائك في البلاد فحسب، بل معالجة ما هو أخطر من ذلك، وهو العيوب التي تعتري العملية السياسية في البلاد.
ومع أن الجميع يرى أن عبد المهدي يحمل من المؤهلات ما يؤهله للعمل والنجاح، تبقى المشكلة الأساسية - التي لا تزال تشكل عقبة كبيرة - هي أن «الدولة العميقة» في العراق هي التي تهيمن على كل شيء. وهو واقع من شأنه الحد من قدرات رجل فكر وسياسة... يحتاج إلى بيئة سليمة لكي يتمكن من تنفيذ برنامجه السياسي ـ الإصلاحي بمضمونه الاقتصادي، الذي يقوم على تحويل العراق من بلد ريعي يعتمد على مداخيل النفط فقط إلى بلد منتج تتعدد فيه مصادر الدخل.


مقالات ذات صلة

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.