أرخى الصيف شهوره بسلام ومتعة على نزلاء الساحل الشمالي في مصر، بعدما بات قاصراً على كبار الأثرياء فقط، بينما كان شديد القسوة على بقية سكان الوادي، إذ زادت درجات حرارته المرتفعة من سخونة عيش المصريين، ممن كانوا يفكرون في اتخاذ تدابير احترازية لتفادي تأثير موجات الإصلاح الاقتصادي.
وما بين الشواطئ الناعمة في الشّمال، والشوارع والأسواق الخشنة في الدلتا والجنوب، قضى المصريون أيامهم بلا أدنى تردد أو توقف. وعلى الرغم من إسدال الستار على موسم الإجازة الصيفية، وعودة المصطافين من شواطئهم الشمالية الراقية إلى المدارس الدولية الفارهة، فإن أبناء الطبقة الفقيرة والمتوسطة يقاومون زحام الشوارع، وتكدس حافلات النقل العام ومترو الأنفاق، وكثافة فصول المدارس الحكومية.
يؤكد خبراء علم الاجتماع والطب النفسي أن نشر أخبار التناقضات بين زوار الساحل وسكانه، ومواطني باقي أنحاء المحروسة، يعزز روح التمييز الطبقي بين أبناء نسيج المجتمع المصري الذي يعاني ثلثه من الوقوع تحت خط الفقر. وباتت مواقع التواصل الاجتماعي بيئة خصبة لنشر الغرائب والطرائف التي تدور في فلك الطبقية، إذ لم تخلُ منشورات البعض من مشاعر إنسانية طبيعية توصف بالحقد، وهو أمر يرى الخبراء أنه شعور طبيعي بسبب العناوين التي تتحدث عن إقبال مواطنين على شراء شاليهات وفيلات، تباع بنحو مائة مليون جنيه (الدولار الأميركي يعادل 17.8 جنيه مصري)، حيث أعلنت شركة «إعمار مصر للتنمية» في منتصف إجازة الصيف طرح وحدات مشروعها «مراسي باي» بالساحل الشمالي، بواقع 90 فيلا، بأسعار تبدأ من 34 مليون و600 ألف جنيه حتى 100 مليون و200 ألف جنيه. وعلى الرغم من تلك الأسعار المبالغ فيها، وفق اقتصاديين، فإنّ الأخبار التي تتحدّث عن نفاد آلاف الوحدات السكنية الفاخرة بعد طرحها بساعات قليلة تثير أوجاع أبناء الطبقة الفقيرة الذين يمضون شهورهم في دفع إيجارات القانون الجديد والقديم للملاك، معتبرين في الوقت نفسه شراء شقة ثمنها لا يزيد عن نصف المليون جنيه حلماً بعيد المنال، بعد ارتفاع أسعار السلع والوقود إلى الضعف في الآونة الأخيرة، بجانب ارتفاع مصروفات وأزياء المدارس الخاصة والدروس الخصوصية.
وفي حين تعزز الشواطئ الخاصة الفارهة من فرص زيادة التمييز الطبقي بين المصريين، فإنّ المدارس الدولية والخاصة تؤكد هذا الشعور وتعمقه لدى قطاع كبير من المصريين الذين يتابعون أسعار مصروفات المدارس الدولية، التي وصل بعضها إلى نحو 400 ألف جنيه مصري، بحذر وانكسار، وفق خبراء علم الاجتماع.
خبراء اقتصاد مصريون اتهموا رجال الأعمال وشركات المقاولات باستفزاز قطاع كبير من المصريين بسبب المغالاة في إعلاناتهم المرئية والمطبوعة عن أسعار فيلات الساحل الشمالي والمدن السياحية الأخرى، بجانب استعانة بعضهم بنجوم كرة عالميين، مثل اللاعب البرازيلي الشهير نيمار الذي قال في إعلانه: «في كل مكان ذهبت إليه، أبحث عن البحر، لكن البحث انتهى في بلد من أجمل بلاد العالم: مصر... أرض السحر والجمال والقلوب الدافئة والتاريخ. وهنا، أخذت القرار، واخترت الساحل الشمالي».
وانتقد رواد التواصل الاجتماعي إعلان نيمار وتكلفته الكبيرة، بينما أثنى عليه آخرون واعتبروه معبراً عن الواقع، الذي يقول إن مصر بلد كبيرة يعيش فيها مائة مليون مواطن، وبها نسبة كبيرة من الأثرياء بجانب الفقراء.
من جهته، اعتبر صندوق النقد العربي أن معدلات البطالة والفقر المرتفعة من أبرز التحديات التي تواجه الاقتصاد المصري في المرحلة الحالية، وفق تقرير الصندوق الصادر في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، بعنوان «آفاق الاقتصاد العربي».
وأشار التقرير إلى ارتفاع نسبة الفقر، وفق مؤشر خط الفقر الوطني في مصر، من نحو 16.7 في المائة عام 2000 إلى نحو 27.8 في المائة حالياً.
بعيداً عن مؤشرات الفقر، استمتع آلاف الشبان في الساحل الشمالي بعطلتهم الصيفية بشاطئ «سي كود» المثير للجدل، الذي تباع فيه زجاجة المياه بمبلغ 350 جنيهاً مصرياً (نحو 20 دولاراً)، وبتذكرة دخول تبلغ قيمتها 500 جنيه.
الدكتور سعيد صادق، أستاذ علم الاجتماع السياسي، قال لـ«الشرق الأوسط»: «تناقضات المجتمع المصري، والفروق الكبيرة بين مظاهر الثراء الفاحش والفقر، ظهرت مع بداية الانفتاح الاقتصادي الذي بدأه الرئيس الراحل محمد أنور السادات».
ولفت إلى أن «إعلانات التلفزيون أبرزت هذا التناقض بوضوح شديد، حيث تظهر إعلانات الشقق والفيلات الفاخرة بالكمباوندات عقب إعلانات التبرع لمستشفيات السرطان والأسر الفقيرة والجائعة»، موضحاً أنّ «الظاهرة ليست حديثة، لكن وسائل التواصل الاجتماعي أعادتها للواجهة مرة أخرى بعدما باتت صوتاً ونبضاً حقيقياً لقطاع كبير من الشعب، تعبر عن آلامه وطموحاته وأحلامه».
وأضاف صادق أنّ بعض الأغنياء الجدد حصلوا أموالهم من طرق غير مشروعة، وهو ما أظهرته السينما المصرية بوضوح في أفلام الثمانينات والتسعينات، مثل فيلم «انتبهوا أيها السادة».
وأشار صادق إلى أن حياة الكمباوندات تشبه إلى حد كبير حياة المجتمعات الساحلية المغلقة، والشواطئ الخاصة الفارهة، حيث يعيش الأثرياء في مجتمع سكني مغلق قاصر على الأغنياء فقط، ثم يذهب أبناؤهم إلى الجامعات الدولية، بالقرب من تلك المنتجعات السكنية الفاخرة. وفي الصيف، يذهبون سوياً إلى القرى السياحية في الساحل الشمالي، وكأنهم لا يعيشون في مصر، ولا يلامسون هموم بقية المجتمع»، وأوضح أن «القرى السياحية في الساحل الشمالي أبرزت سيطرة رأس المال المتوحش في مصر، في وقت رأيت أستاذاً جامعياً يبكي بسبب راتبه المحدود المتواضع».
مصر حائرة بين أثرياء الساحل وفقراء الوادي
خبراء: الظاهرة تزيد من الحقد الاجتماعي
مصر حائرة بين أثرياء الساحل وفقراء الوادي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة